قول في علم أسباب النزول

ثمة علمان من العلوم القرآنية متلازمان، تكاد لا ترى أحدهما إلا وترى الآخر، هما أسباب النزول والناسخ والمنسوخ. ولقد عرضنا في كتابنا الثاني “الدولة والمجتمع” لمسألة الناسخ والمنسوخ فلا نعيد(15). ونكتفي بالقول إن الله سبحانه شاء بعد اكتمال نزول كتابه الكريم أن يرتب الآيات في سورها والسور في تعاقبها الذي نجده اليوم، كما رتبها النبي (ص) بأمر ربه، وليس ثمة ما يبرر إبقاء آيات منسوخة تضل بسببها الأمة وتقتتل وتتفرق شيعاً وطوائف، إذ كان بوسعه (ص) ببساطة عدم إدراجها وهو يصوغ الكتاب الحكيم آخر مرة، كما كان بوسع الله سبحانه أن يجعل مكانها فارغاً، كما حدث مع ابن مسعود في خبر مشهور يتكئ عليه القائلون بالنسخ، ونراه إلى الخرافات أقرب.

ويبدو أن الظروف والضرورات التي دعت لولادة علم الناسخ والمنسوخ هي ذاتها التي استدعت ولادة علم أسباب النزول، إذ لم يجمع أهل الأخبار على أن الرسول (ص) أشار إليهما أو أمر بهما لا تصريحاً ولا تلميحاً، الأمر الذي يؤكد ما ذهبنا إليه.

كثيرون من أهل السلف كتبوا وألفوا في أسباب النزول، لكن الجميع بعد العصر النبوي أشاروا إليه في كتبهم دون أن يفردوا له كتاباً خاصاً كما فعل العالم الرباني جلال الدين السيوطي والإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيابوري، حيث كتاباهما كما يقول السيوطي:

“أشهر كتاب في هذا الفن الآن كتاب الواحدي، وكتابي يتميز عليه بأمور، أحدها الاختصار وثانيها الجمع الكثير، فقد حوى زيادات كثيرة على ما ذكر الواحدي” أهـ

ولهذا فقد اخترناهما مرجعاً للتعاريف والشواهد في مجال هذا البحث والله المستعان.

يقول الواحدي: “… غير أن الرغبات اليوم عن علوم القرآن صادقة كاذبة فيها، قد عجزت قوى الملام عن تلافيها، فآل الأمر بنا إلى إفادة المبتدئين المتسترين بعلوم الكتاب، إبانة ما أنزل فيه من الأسباب، إذ هي أوفى ما يجب الوقوف عليها، وأولى ما تصرف العناية إليها، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها” أهـ.

وينقل السيوطي عن ابن تيمية قوله “معرفة سبب النزول يعين على فهم الآيات فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، وقد أشكل على جماعة من السلف معاني آيات حتى وقفوا على أسباب نزولها فزال عنهم الإشكال” أهـ.

ثم ينقل عن الزركشي في البرهان قوله: “قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها، فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية، لا من جنس النقل لما وقع ” أهـ.

ونجد أنفسنا بعد تأمل الفقرات الثلاث أننا أمام ثلاثة أحكام:

  1. يمتنع فهم آيات كتاب الله إلا بمعرفة أسباب النزول…..(الواحدي).
  2. معرفة أسباب النزول تعين على فهم الآيات…..(ابن تيمية).
  3. سبب النزول ليس سبباً في النزول بل هو لمجرد الاستدلال…..(الزركشي).

لكن عبارة الزركشي في البرهان تذكرنا من جهة بأن الإمام علي كرم الله وجهه كان يسميها مناسبات النزول وليس أسباب النزول، والفرق بين التسميتين لا يخفى على أهله. ونلفت الأنظار إلى أن قولنا بوجود أسباب لنزول الآيات يقتضي لزوماً عدم نزول آية إلا بوجود سببها، وهذا في أحسن الأحوال سوء أدب مع الله، ومع مقاصد تنزيل الرسالات التي تعتبر الأسباب الإلهية الأولى والأخيرة للنزول. ولعل في المثالين التاليين توضيحاً لما نقوله.

يقول الإمام السيوطي ص51 من كتابه أسباب النزول:

“روى الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي (ص) فاستأذن عليه، فأذن له، فأبطأ، فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال: قد أذنا لك. قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، فأمر أبا رافع أن لا تدع كلباً في المدينة إلا قتلته. فأتاه ناس فقالوا يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فنزلت {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} المائدة 4.

وأورد الواحدي هذا الخبر وزاد عليه قول أبي رافع: حتى أتيت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته، فأتيت النبي (ص) فأخبرته فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته.

ويقول الإمام الواحدي في كتابه أسباب النزول ص153:

قال المفسرون جلس الرسول (ص) يوماً فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا، فاجتمع عشرة من الصحابة (هم عند السيوطي سبعة) في بيت عثمان بن مظغون الجمحي، وهم أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مضر واتفقوا على أن يصوموا الليل ويقوموا النهار ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فبلغ ذلك رسول الله (ص) فجمعهم فقال ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا فقالوا بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم ومن رغب عن سنتي فليس مني. ثم خرج إلى الناس وخطبهم فقال ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا. أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ولا رهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتها الجهاد واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع. فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} المائدة 90.

ونحن مع الخبر الأول أمام أمور، أولها أنه يصور جبريل بصورة الزائر الذي يستأذن فيؤذن له أو لا يؤذن، وكأنه قادم ليطمئن على أهل البيت وأحوالهم، ويدردش معهم عن أحوال الطقس. ثانيها مسألة أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب، وكأنها إن صح ذلك المرة الأولى التي ينزل فيها جبريل على الرسول (ص). فالآية مدنية والخبر إن صح وقع في المدينة المنورة، ولا يعقل ألا يصادف جبريل كلباً ولا صورة ولا تمثالاً على مدى أعوام طويلة ماضية وهو ينزل على الرسول، عشرة منها على الأقل في مكة، بلد الأوثان والتصاوير قبل الفتح. ثالثها مسألة الجرو الذي وجدوه في بعض بيوتهم، دون أن يحدد بيوت من؟ أهي بيوت الحي أم بيوت المسلمين؟ وإذا كان الجرو في بيت من هذه البيوت فهل يمنع ذلك الملائكة من الدخول إلى جميع البيوت. ألفاظ النبي تدل على أن الجرو لم يكن في بيت النبي (ص)، فلماذا لم يدخل جبريل؟ رابعها وجود الجرو يدل على وجود أبوين له، لم يأت الخبر على ذكرهما كما لم يذكر هل تم قتل الجرو أم لا. خامسها كلب الحراسة عند المرأة في العوالي وكيف أمر النبي (ص) بقتله، وكلنا يعلم أن كلب الصيد وكلب الحراسة لا يقتلان. سادسها الناس الذين أتوا النبي (ص) فيما يحل لهم من لحوم هذه الكلاب المقتولة، والجواب الذي عادوا به.

فالآية تكمل ما قبلها بتفصيل ما أحل الله وما حرم من الصيد ومواقيته وتتحدث عن حلالية أكل ما تحضره العقبان وكلاب الصيد من الطرائد، ولا تعرض من قريب ولا بعيد للحوم الكلاب ذاتها، وكأنها لا علاقة لها البتة بالخبر الذي زعم الواحدي والسيوطي أنه سبب النزول، حتى لو صح.

ونحن مع الخبر الثاني أمام أمور أكثر غرابة. أولها قوله قال المفسرون، بينما أسند السيوطي الخبر فقال: وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق السدي الصغير عن الكلبي، وعن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة…” أهـ. وثانيها مسألة أن الرسول (ص) جلس يوماً فذكر الناس ولم يزدهم على التخويف حتى بكوا، وحتى قرر رؤوس الصحابة قطع مذاكيرهم وهجر الدنيا. نقول ليس هذا هو الأسلوب النبوي المحمدي في الوعظ والتذكير، الذي يقوم على قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} الأعراف 155.

أما الترهيب والتخويف، وإقفال شبابيك الأمل بالرحمة، فليس من الخلق النبوي في شيء، بل من صفات خطباء ووعاظ لم يحسنوا الظن بالله ولا برحمته، ولم يؤمنوا فعلاً وحقاً بأن رحمته وسعت كل شيء.

وثالثها هو هؤلاء العشرة من رؤوس صحابة النبي (ص)، وفيهم من حضر بدراً فغفر الله له، ومنهم من بايع تحت الشجرة فكتبت له الجنة، يقررون ببساطة بعد جلسة واحدة مع الرسول (ص) أن يتركوه يواجه الناس بدعوته وحيداً، وأن يهجروا الدنيا ويجبوا مذاكيرهم، متفرغين لصيام النهار وقيام الليل. رابعها إن من بين هؤلاء العشرة الإمام علي كرم الله وجهه، فهل نسي الواحدي أنه صهر النبي (ص) وزوج فاطمة، وإذا كان النبي لم يسمح له رأفة بابنته أن يتزوج زوجة أخرى، في روايات مشهورة، فهل كان يجب ذكره ويترهبن؟

خامسها مسألة ترك اللحم وهجر الفراش، حتى ليظن القارئ والسامع أن الواحدي يتحدث عن الأمراء في بلاط لويس الخامس عشر. بينما لم يكن طعام الواحد من العشرة يزيد عن الخبز والملح والتمر، مع المرق والقديد في أحيان نادرة، ولم يكن فراشه أكثر من حصير، مع حشيات تبن في أحيان نادرة.

سادسها أن القوم بعد مراجعة الرسول لهم، لم يفعلوا ما كانوا ينوون فعله، فلماذا تنزل الآية وكأنهم فعلوه؟

نعود بعد هذا التحليل والعرض، إلى عبارة الزركشي في البرهان، والى قوله: (قد عرف من عادة الصحابة والتابعين)، وننتبه إلى أن جميع أحاديث أسباب النزول وأخبارها ترجع إلى أحد الصحابة والتابعين، ولم نجد فيما قرأنا من أسباب نزول، قولاً واحداً يزعم صاحبه أن النبي قاله، يحدد فيه أو يعين سبباً لنزول آية عليه، ومع ذلك فإن هذه الأخبار والروايات الصحابية التابعية تحتل مكاناً في كتب الحديث والتفسير بين أيدينا حتى اليوم.

يقول الواحدي (أسباب النزول ص4): “… ولا يحل القول في أسباب نزول الكتاب، إلا بالرواية والسماع ممن شهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها وجدوا في الطلاب، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار، في هذا العلم بالنار، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال، قال رسول الله (ص):”اتقوا الحديث إلا ما علمتم فإنه من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ومن كذب على القرآن من غير علم فليتبوأ مقعده من النار” أهـ.

فالأمر إذاً كما قدرناه وفهمناه، والقول في أسباب النزول لا يكون إلا ممن شهد التنزيل ووقف على أسباب نزوله. يبقى أن اتكاء الواحدي على حديث (من كذب علي متعمداً..) هو اتكاء في غير محله، القصد منه تقوية ودعم ما يقول بالإستلاب والتخويف.

يروي السيوطي عن الحاكم في علوم الحديث قوله “إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فأنه حديث مسند، ومشى على هذا ابن الصلاح وغيره، ومثلوه بما أخرجه مسلم عن جابر قال كانت اليهود تقول: من أتى أمراته في قبلها من دبرها جاء الولد أحول، فأنزل الله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا} البقرة 223.

وروى السيوطي عن ابن تيمية قوله “وقد تنازع العلماء في قول الصحابي نزلت هذه الاية في كذا هل يجري مجرى المسند كما لو ذكر السبب الذي أنزلت من أجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند، فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله”.

هنا يتبين لنا مبرر وجود أحاديث صحابية وأحاديث تابعية في المسانيد ليس فيها حرف واحد للنبي لا قولاً ولا فعلاً ولا تقريراً، ومع ذلك يعتبرون كتب الحديث، وكتب الحديث تمثل عين السنة النبوية، والسنة النبوية حاكمة على التنزيل، والقرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

أسباب وضع علم الناسخ والمنسوخ

لقد قلنا في بحث الناسخ والمنسوخ، إنه علم ولد بعد العصر النبوي، وكان خلف ولادته عدد من الأسباب:

  1. تحويل الجهاد إلى غزو، وتحويل الدعوة من الحكمة والموعظة إلى السيف.
  2. تعطيل مفهوم العمل الذي يقوم عليه الحساب الأخروي واستبداله بمعايير غائمة فضفاضة كالشفاعة والولاية والوساطة والكرامة، مفاتيحها بيد الهامانات.
  3. ترسيخ مفهوم الجبر وطمس دور الإنسان نهائياً.
  4. تعطيل العقل وترسيخ مفهوم تفويض الغير باتخاذ القرارات.

أسباب وضع علم أسباب النزول

ولما كان علم أسباب النزول توأم علم الناسخ والمنسوخ، فإن له مثله أسباباً دعت إلى ولادته، أهمها:

1 – ترسيخ فكرة عدالة الصحابة وعصمتهم: واعتبار ما نقل عنهم في أسباب النزول مقدساً لا يرقى إليه الشك، وأوجدوا له عنواناً في كتب الحديث النبوي فسموه المسند، بالغاً ما بلغ المنقول عنهم من سخف وتفاهة.

أورد الواحدي في كتابه “أسباب النزول” ص250 / 251 سبب نزول قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}الفرقان 10 قال:

“أخبرني أحمد بن محمد بن إبراهيم المقرئ قال أخبرنا أحمد بن أبي الفرات قال أخبرنا عبدالله بن محمد بن يعقوب البخاري قال أخبرنا محمد بن حميد بن فرقد قال أخبرنا اسحق بن بشر قال أخبرنا جوهر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما عير المشركون رسول الله (ص) بالفاقة قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، حزن رسول الله (ص) فنزل جبريل عليه السلام من عند ربه معزياً له فقال السلام عليك يا رسول الله، رب العزة يقرئك السلام ويقول لك وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلوا الطعام ويمشون في الأسواق، أي يبتغون المعاش في الدنيا، قال فبينما جبريل عليه السلام والنبي يتحدثان إذ ذاب جبريل حتى صار مثل الهدرة،

قيل يا رسول الله وما الهدرة قال العدسة، فقال رسول الله (ص) مالك ذبت حتى صرت مثل الهدرة قال يا محمد فتح باب من أبواب السماء ولم يكن فتح قبل ذلك اليوم، وإني أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة، وأقبل النبي وجبريل عليهما السلام يبكيان إذ عاد جبريل إلى حاله فقال أبشر يا محمد هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضا من ربك، فأقبل رضوان حتى سلم ثم قال يا محمد رب العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ، ويقول لك ربك هذه مفاتيح خزائن الدنيا، مع ما لا ينتقص لك عنده في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي إلى جبريل عليه السلام كالمستشير به فضرب جبريل بيده إلى الأرض

فقال تواضع لله، فقال يا رضوان لا حاجة لي فيها، الفقر أحب إلي، وأن أكون عبداً صابراً شكوراً، فقال رضوان عليه السلام أصبت أصاب الله بك، وجاء نداء من السماء فرفع جبريل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها إلى العرش، وأوحى الله تعالى إلى جنة عدن أن تدلي غصناً من أغصانها عليه غدق عليه غرفة من زبرجدة خضراء، لها سبعون ألف باب من ياقوتة حمراء، فقال جبريل عليه السلام ارفع بصرك يا محمد فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم فإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلاً له خاصة، ومناد ينادي أرضيت يا محمد، فقال النبي (ص) رضيت فأجعل ما أردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة. ويرون إن هذه الآية أنزلها رضوان” أهـ.

ويورد السيوطي في كتابه “أسباب النزول” ص 155 نزول قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} البقرة 187 قال:

“وذلك أن عمر بن الخطاب أفطر ليلة ونام فانتبه من النوم ووقعت عيناه على امرأته بغير إزار فأستحسنها وغلبته الشهوة فواقعها، فلما فرغ ندم واغتسل فصلى وبكى إلى الصباح، ثم ابتكر إلى رسول الله فأخبره بالقصة فاغتم بذلك رسول الله (ص) فقال ما كنت جديراً بهذا يا عمر، فنزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية فقال أقرأ يا محمد: أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم.. كرامةً لعمر رضي الله عنه ورخصةً لأمة محمد عليه السلام، علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم يعني عمر بن الخطاب فتاب عليكم يعني عمر بن الخطاب، والآن باشروهن وخاطبه بلفظ الجماعة إكراماً له فهي إباحة بصورة الأمر…” أهـ.

ليعذرنا القارئ الكريم إن أطلنا، فالمقام يقتضي ذلك، فنحن أمام عالمين جليلين يحاولان أن يضحكا على عقولنا، فالواحدي يزعم أن سبب نزول آية الفرقان 10 هو هذا السيناريو الأسطوري الذي ساقه إلينا، ويدفعنا إلى تصديق أن ابن عباس كان يرى أن هذه الآية أنزلها رضوان خازن الجنة وليس جبريل، ويدعي أن جبريل ذاب وتصاغر حتى صار بحجم العدسة خوفاً على المشركين الذين يعيرون النبي (ص) بالفاقة، وأن الله رضي عنهم بعدها وأرسل مع رضوان رسالة بهذا المعنى.

ثم لا يكتفي بهذا بل يتابع ليقنعنا بأن رضوان جاء من عنده ربه بمفاتيح خزائن الدنيا في سفط من نور، وأن النبي (ص) لم يعرف بم يجيب حتى أشار عليه جبريل بأن يتواضع لله، وكأن النبي كسرى الفرس أو قيصر الروم. وإذا كنا نستغرب وجود من يصدق هذا كله في زمن الواحدي والسيوطي، ويجعل منه علماً قرآنياً لا يمكن فهم كتاب الله تعالى إلا بعد معرفته، فنحن نستغرب أكثر أن يوجد اليوم من يؤمن بهذا الهراء ويكفّر من ينكره أو ينقده.

ليس على الراغب بفهم الآية إلا الرجوع إلى سباقها، فالله تعالى يقول في الآية 7 و 8: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا} الفرقان 7، 8.

هذا ما قاله قوم محمد (ص) وقد جاءهم برسالة ربه، والله تعالى يتولى إجابتهم في الآية 10 فيقول: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ}، ولا يحتاج النبي (ص) بحكم قوة إيمانه إلى أكثر من هذا القول ليقتنع ويطمئن لوعد ربه وقدرته.

فإذا انتقلنا إلى خبر السيوطي، وجدنا فيه من المدهشات أكثر مما عند الواحدي. أولها قوله: (فلما فرغ ندم واغتسل وصلى وبكى إلى الصباح). ونحن نفهم أن ينزعج عمر، وأن يندم على إتيانه ما يعتقد أنه خطأ، وأن يمضي إلى النبي (ص) يستفتيه، أما أن يقف مصلياً باكياً حتى الصباح، فهذه يفعلها غلام في الرابعة عشرة.. وليس عمر بن الخطاب. وثانيها هذا التكرار بإصرار أربع مرات في الخبر على أن نزول الآية كان كرامة لعمر وأن الله خاطبه بلفظ الجماعة تكريماً وتعظيماً، وتلك لعمري أسخف الطرق لترسيخ فضل عمر على غيره من الصحابة في أذهان الناس، في زمن كانت حرب التفضيل على أشدها بين الطوائف.

2 – الانتصار المذهبي والطائفي والزعم بفضل واحد من الصحابة بعينه: إننا نجد في كتب أسباب النزول خاصة وفي كتب الحديث عامةً مرآة تعكس التطاحن الطائفي والمذهبي الذي ساد، وما زال يسود بشكل أو بآخر، الأمة الإسلامية. ففيها ما يدعم أهل السنة حيناً، وما يؤيد أهل الشيعة حيناً آخر، وفيها ما يعطي الحجة لأهل الظاهر تارةً ولأهل الباطن تارةً أخرى، وفيها ما يبرهن على دعوى المعتزلة والخوارج طوراً، والجهمية والمرجئة والأشعرية طوراً آخر، وفيها ما يفضل أبا بكر أو يفضل علي بن أبي طالب وسلمان الفارسي، وفيها ما يزعم الفضل للشافعي أو النعمان أو لأحمد أو لغيرهم، وفيها ما يشيد بكرامة بلد على بلد، أو أرض على أرض، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الوضاعين والدساسين والمنتفعين، ينسبون ما شاؤوا للنبي وصحابته وتابعيه، ولولا ضيق المجال لأتينا بأمثلة على كل ما ذكرناه، لكننا نكتفي بالأمثلة التالية. يقول السيوطي في كتابه أسباب النزول ص141:

“أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي قال: النبي (ص) أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الكوثر1. ونزلت {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} القدر 1، 2، 3. تملكها بعدك بنو أمية، قال القاسم الحراني فعددنا وإذا هي الف شهر لا تزيد ولا تنقص. وقال المزني وابن كثير منكر جداً” أهـ.

ويقول على ص 124:

“أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن عطاء أن أبا بكر ذكر ذات يوم القيامة والموازين والجنة والنار فقال وددت إني كنت خضراء من هذه الخضر تأتي علي بهيمة تأكلني وإني لم أخلق، فنزلت: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الرحمن 46. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شورب قال نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق” أهـ.

ويقول على ص 122:

“أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ، فذكر رجل أكله ورقاده فنزل قوله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} الحجرات 12.

ويقول الواحدي في كتابه أسباب النزول ص331:

“قال عطاء عن ابن عباس أن علي ابن طالب رضي الله عنه نوبة أجر نفسه يسقي نخلاً بشيء من شعير حتى أصبح وقبض الشعير، وطحن ثلثه فجعلوا منه شيئاً ليأكلوه اسمه الخزيرة، فلما تم إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام، ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه، ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه وطووا يومهم ذلك، فأنزلت: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.الإنسان 8. أهـ.

في المثال الأول تجد عدداً من الأمور، أولها أن الراوي عن النبي هو الحسن بن علي (رض)، ولا ندري إن كان رواة الخبر عن الحسن يعنون أن الحسن رأى ما رآه النبي، أم أن النبي حدثه بذلك، ثانيها صياغة الخبر وكأن ملك بني أمية أمر مبرم لا دافع له، وقانون مسطور في اللوح المحفوظ لا مجال لتبديله. ثالثها تابع لثانيها، إذ لما ساء النبي ذلك أنزل الله عليه بزعم الخبر {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} تطييباً لخاطره وتعويضاً عما ستفعله به الإرادة السماوية. رابعها اعتبار ابن كثير أن الخبر منكر جداً، رغم أن تفسيره يعج بمناكير أدهش من هذه وأدهى.

أما المثال الثاني فقد قصد صاحبه أن يرفع بزعمه من شأن أبي بكر (رض)، فأخطأ الوسيلة، إذ نسب لأبي بكر تمنياته لو كان عشباً تأكله البهائم وأنه لم يخلق!! وهذه أماني رجل لم يذق حلاوة صحبة الرسول الأعظم ولم يحفظ قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} التين 4. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} الإسراء 70. فهل يعقل بعد هذا أن يتمنى الصديق ثاني أثنين في الغار لو أنه لم يخلق أصلاً وكأنه يرمي بوجه خالقه بهذا التفضيل والتكريم؟ فإذا جاز هذا عقلاً، فهل يعقل أن يكون جزاؤه جنتين؟ تعالى الله عما يصفون.

وأما المثال الثالث فواضح أنه لرفع شأن سلمان الفارسي، إذ له عند بعض الطوائف مكانة خاصة، يحاولون تدعيمها بمثل هذه الأخبار. رضي الله عن سلمان فلا أحسبه كان يرضى بأن يضعه الآخرون في غير موضعه.

وما قلناه في المثال الثالث عن سلمان، نقوله في المثال الرابع عن الإمام علي كرم الله وجهه، ونسأل: ترى لو كان الطارق في الثانية مسكيناً آخر، وفي الثالثة مسكيناً ثالثاً، أكانت نزلت الآية تقول (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ومسكيناً ومسكيناً).

يجد المتأمل في كتب أسباب النزول أموراً، أولها أنها لا تشمل جميع آيات التنزيل الحكيم. فالواحدي يورد في كتابه سبب نزول آية واحدة من سورة الأنبياء وهي 112آية. وآيتين من سورة طه وهي 135 آية، وثانيها أنه يورد سبباً واحداً لنزول سور بكاملها: الناس / الفلق / الإخلاص / المسد / النصر / الكافرون / الكوثر / الماعون / قريش / الفيل / التكاثر. ثالثها أنه يغفل سوراً بكاملها فيتركها بزعمه دون سبب: الهمزة / العصر / القارعة / البينة / التين / الشرح. رابعها أنه يزعم سبباً لنزول قسمٍ من الآية، كما في آيات الحجرات 12: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فيقول أن قوله تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} نزلت في سلمان الفارسي.

والأهم من كل ما ذكرنا أن زعم وجود أسباب للنزول، يجرد الآيات والأحكام والقول الإلهي من مطلقيته وعموميته ويجعله مقيداً مخصصاً، ويربطه لزوماً بالحدث التاريخي. الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام المؤمنين بالحتمية التاريخية للقول بتاريخية النص القرآني ومرحليته، ولرفض فكرة صلاحيته لكل زمان ومكان، طالما أن هناك من يضع للنزول أسباباً مخصوصة بأزمنة بعينها وأمكنة بعينها وأشخاص بعينهم.

ولا يفوتنا هنا أن نسجل لأحد أساتذة كلية الشريعة في جامعة دمشق في هذا المجال بالذات سابقة هامة مضيئة، حين تحدث بتاريخ 13 / 1 / 1999 في حلقة دراسات قرآنية، اعتاد التلفزيون السوري أن يبثها كل يوم أربعاء أسبوعياً، واستبعد أسباب النزول واستنكر ما فيها من مناكير وأخبار ونحن نؤيده باستبعاد علم أسباب النزول من العلوم القرآنية أصلاً ونأمل بأن يقتنع بأن علم الناسخ والمنسوخ ليس من العلوم القرآنية بالأصل وإنما هو علم تاريخي دخيل على علوم القرآن وأن الناسخ والمنسوخ يقع على محور السيرورة والصيرورة للإسلام من نوح حتى محمد (ص).

النص القرآني وأسباب النزول

إن أسباب النزول – إن صحت – تبين تاريخية الفهم والتفاعل الإنساني مع آيات التنزيل في زمن التنزيل، أما نحن فلا تعنينا هذه الأسباب في شيء. لأن النص القرآني كينونة في ذاته، مغلق ذاتياً، ومكتف ذاتياً. ولأن فهم هذا النص هو التاريخي. أما النص ذاته فلا. ولأن التطور التاريخي غير قادر على إلغاء آية قرآنية أو حكم قرآني تحت شعار تغير الأحكام بتغير الزمان. ولأن النص القرآني مقدس بذاته حي بذاته وكينونة بذاته، أي أنه لا يخضع لحتمية التاريخ على محور السيرورة ولا لحتمية الغائية على محور الصيرورة كما يتوهم البعض، وأحكام الإرث خير مثال على ما نريد ونقصد.

ثمة ثلاث آيات في سورة النساء تحكم موضوع الإرث هي: 11 و12 و176. ورد عند الواحدي خبران فيها. فيقول في أسباب النزول ص 107: … قوله: {يوصيكم الله في أولادكم … الآية} حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال جاءت امرأة بابنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان بنتا ثابت بن قيس أو قالت سعد بن الربيع، قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما فلم يدع لهما مالاً إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله فوالله ما ينكحان أبداً إلا ولهما مال، فقال يقضي الله في ذلك، فنزلت سورة النساء وفيها يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين إلى آخر الآية، فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك ” أهـ. ويقول في أسباب النزول ص 139:

“حدثنا ابن أبي عدي عن هشام بن عبد الله عن ابن الزبير عن جابر قال اشتكيت فدخل عليّ رسول الله (ص) وعندي سبع أخوات فنفخ في وجهي فأفقت وقلت يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلثين، قال اجلس، فقلت الشطر، قال اجلس، ثم خرج فتركني ثم دخل عليّ وقال يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك الثلثين، وكان جابر يقول نزلت هذه الآية فيّ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ” أهـ.

ولقد تم وضع المواريث على أساس هذه الأسباب، وعلى أساس ما في أخبارها من سنة نبوية، فنتج لدينا أمران مختلفان تماماً:

  1. آيات الإرث كما هي في التنزيل الحكيم (لا تحمل الصفة التاريخية) (العبرة في عموم اللفظ لافي خصوص السبب) وعموم اللفظ في الأساس في التحليل والاجتهاد. حيث الليونة في عموم اللفظ ومناسبة النزول إن صحت هي الصيرورة الأولى التاريخية والجغرافية.
  2. علم الفرائض والمواريث السائد الآن في توزيع التركات (يحمل الصفة التاريخية)

فإذا نظرنا في كتب المواريث وتطبيقاتها العلمية، وجدنا فيها إشكاليات غير مقبولة، ووجدنا أنفسنا معها أمام أحد أمرين. إما أن نقول إن ما جاء في كتب المواريث هو عين محتوى آيات الإرث، ونجعل بذلك الآيات تحمل الصفة التاريخية. أو أن نحاول تعديل كتب المواريث لنفي ما فيها من إشكاليات، فنكون كمن ينقض آيات الإرث ذاتها. والسبب أن الفقهاء أعطوا السنة القولية وأخبار الصحابة وأسس الفقه صفة الكينونة المطلقة كما لو أن كتب المواريث والفرائض مستقلة بذاتها بعيداً عن آيات الإرث في التنزيل الحكيم، وهذا غير صحيح!!.

إن آيات التشريع ذات الكينونة المطلقة (وهي ما نسميه الشريعة الإسلامية) شيء والفقه الإسلامي الذي يمثل تفاعل الناس وفهمهم للتشريع في لحظة زمانية تاريخية معينة شيء آخر تماماً. إذ أن الشريعة الإسلامية إلهية، بينما الفقه الإسلامي إنساني تاريخي وبدون وعي هذا الفرق وأخذه بعين الاعتبار لا أمل لنا بالخروج من المأزق بأن الإسلام إلهي والفقه الإسلامي والتفسير إنساني وهذا هو الفرق بين الإسلام والمسلمين. فالإسلام هو التنزيل الحكيم، والمسلمون هم تفاعل تاريخي اجتماعي إنساني مع التنزيل، أي التشخيص الواقعي التاريخي للتنزيل، وسيكون هناك فرق بينهما في الماضي والحاضر والمستقبل.

فإذا رأينا أن الفقه الإسلامي الذي بين أيدينا يمثل القراءة الأولى والفهم التطبيقي الأول (التشخيص الأول) للنصوص والأحكام السماوية، فلا يبقى لنا سوى أن نقوم بالقراءة الثانية(16)، ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين، في ضوء إشكاليتنا ونظمنا المعرفية المعاصرة. وإذا فعلنا ذلك، لا نكون قد خرجنا على الأصول التي أرساها الفقهاء أنفسهم حين قالوا “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” ولا نطالبهم بأكثر من الالتزام بما قالوا.

إن القول بالاكتفاء بالقراءة الأولى للتنزيل الحكيم التي تمت في القرن السابع والثامن الميلاديين، والإصرار على أن التفاسير مطلقة مقدسة تمثل عين المقاصد الإلهية أمر بالغ الخطورة. فثمة خمس عشرة آية في النساء والنحل والمؤمنون والنور والروم والأحزاب والمعارج تحكي عن ملك اليمين نزلت حين كان نظام الرق سائداً ومعروفاً في المجتمعات الإنسانية كافة، عربية ورومية وفارسية وهندية، فاعتبر المفسرون وأصحاب أسباب النزول أن ملك اليمين هو الرق في قراءاتهم الأولى للآيات. وكان فهمهم هذا يتطابق تماماً مع واقعهم السائد المشهود.

ولا شك أنهم وقفوا أمام إشكالية قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} النور 31. وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} الأحزاب 55. إشكالية أن نظام الرق يعطي الحق للرجل بأن يطأ ملك يمينه، لكنه لا يعطي ذات الحق للمرأة بأن يطأها ملك يمينها، انطلاقاً من ذكورية المجتمعات التي تتبنى هذا النظام، ومن نظرة الدونية التي تنظر بها هذه المجتمعات إلى المرأة(17). ولا شك في أنهم مازالوا يقفون حائرين حتى اليوم أمام هذه الإشكالية التي أوجدها إصرارهم على أن ملك اليمين هو الرق ولا شيء غير ذلك.

لكن ثمة إشكالية أكبر تهمنا الآن، هي أن نظام الرق قد اندثر من كافة المجتمعات، وطوته السيرورة التاريخية في خزانة الذكريات، فهل نطوي الآيات التي يزعم الزاعمون أنها تتعلق به، ونثبت بذلك أن التنزيل الحكيم خاضع للحتمية التاريخية، ونلغي القول بأنه صالح لكل زمان ومكان، ونقعد نتفرج على كتاب الله بين أيدينا وهو يسقط آية بعد أخرى في طاحونة التاريخ، لمجرد أننا لا نسمح بقراءة ثانية لهذا الكتاب الكريم، ولا نسمح لأحد بالخروج من دائرة القراءة الأولى؟.

قراءة لآية حد السرقة

أمامنا مثال على وجوب القراءة الثانية لكتاب الله، هو عقوبة السارق، التي سيتضح بقراءتنا لها ثانية أنها عقوبة حدودية وليست حدية، أي أن لها حداً أعلى وحداً أدنى، وأن معظم أهل الأرض ملتزمون بها بفطرتهم دون أن يسمعوا بالآية، وأن التشريع الإسلامي تشريع مدني إنساني يتحرك ضمن هذه الحدود. قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} المائدة 38، 39

ونبدأ بفعل قطع لأن المشكلة فيه فنقول: القاف والطاء والعين أصل واحد صحيح يدل على صرمٍ، وإبانة شيء من شيء. فقطع الشيء جزه وأبان بعضه عن بعض، وقطع الصلاة صرمها وأبطلها، وقطع القول جزم، وقطعه حقه منعه منه، وقطع النهر عبره، وقطع لسانه أسكته بالإحسان إليه، وقطعه بالحجة أفحمه، والقطيعة الضريبة يفرضها السيد على عبده، وأقطعه الأرض وهبها له بما فيها وما عليها، وقَطِعَت اليد يانت من داءٍ أو قطعٍ عرض لها، وقطع فلان اختنق به(18) وقطع عنق دابته باعها، وقطع الحوض ملأه إلى نصفه ثم قطع عنه الماء، وقطعني الثوب كفاني. (أنظر القاموس للفيروزابادي).

ونلاحظ في كل هذه المعاني أنها كما يقول ابن فارس جاءت من أصل صحيح واحد هو الصرم والبتر والإبانة، إنما ليس باستعمال آلة حادة بالضرورة. فقاطع الطريق وقاطع الرحم وقاطع النهر وقاطع الصلاة لم يستعمل سكيناً أو ساطوراً في قطع ما يقطع. إضافة إلى المعاني البعيدة الأخرى التي أضفاها أصحاب المعاجم على هذا الأصل، مثل: قطع: باع / قطع: كفى / قطع: اختنق. ومع ذلك يصر الفقهاء والمفسرون وأصحاب أسباب النزول على تجاهل كل المعاني لفعل قطع واعتماد معنى واحداً بعينه هو البتر.

ويسألني سائل: فأين البتر في التنزيل الحكيم إن لم يكن بفعل قطع؟ أقول لقد ورد فعل البتر بالآلات الحادة في التنزيل الحكيم بصيغة قطّع كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ..} يوسف 31.

ونفهم أن امرأة العزيز أقامت وليمة دعت إليها اللواتي لمنها في مراودة يوسف عن نفسه، وقدمت إليهن السكاكين مع الأطعمة التي يحتاج الآكل معها إلى سكين كاللحم أو البرتقال أو التفاح أو غيره، وبينما هن منهمكات بالتقطيع والتقشير قالت له أخرج إليهن، فلما رأينه وهو على ما هو من وسامة وجمال، انشغلن عما بين أيديهن دهشةً وإكباراً، فقطَّعن أيديهن!! و هذا أمر يحصل ألوف المرات في الحياة العادية مع النساء في المطابخ، حين يشغل إحداهن أمر وهي تفرم البصل أو البقدونس فتجرح إصبعها، وهذا كل ما في الأمر، فنقول أنها قطعت يدها، وليس معنى ذلك أنها بترت كفها من الرسغ أو من المرفق.

وننتقل إلى قوله تعالى بلسان فرعون للسحرة: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} الشعراء 49. هنا لا يمكن أن يكون التقطيع للأيدي والأرجل بتراً وجزاً، وإلا لما تحقق له الصلب بعد التقطيع، إذ كيف تصلب جثة بلا أيدي ولا أرجل. وأي معنى لصلب جثة مات صاحبها بعد قطع أطرافه، نقول هذا لأن فعل الصلب في الآية معطوف على فعل التقطيع، وهذا يختلف تماماً عن قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} المائدة 33.

هنا فقط يمكن أن نقول إن التقطيع يعني البتر، باعتبار وجود (أو) الفاصلة بين الخيارات الأربعة، فجزاء الحرابة والفساد في الأرض إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل أو النفي. ولا بأس هنا بإلقاء نظرة سريعة على الآيات التي ورد فعل قطع فيها بمعان لا علاقة لها بالبتر ولا بالسكاكين ولا بالسواطير:

  • {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ} آل عمران 127.
  • {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} الأنفال 7.
  • {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} البقرة 27.
  • {وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} التوبة 121.
  • {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}الأنعام 45.
  • {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي} النمل 32.
  • {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} الواقعة 32، 33.
  • {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} الحجر 65.
  • {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ} العنكبوت29.
  • فقوله تعالى {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني ليهلك طائفةً منهم.
  • وقوله {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} يعني ويستأصل آثارهم عن آخرهم.
  • وقوله {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} يعني لا يصلون الرحم ولا يقومون بحقوق القرابة.
  • وقوله {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا} يعني ولا يعبرون وادياً بشكل عرضاني.
  • وقوله {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ} يعني استؤصلت شأفتهم.
  • وقوله {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا} يعني مقررة وجازمة.
  • وقوله عن الفاكهة أنها {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} يعني لا ينعدم وجودها في أي فصل من الفصول، فه‎ موجودة دائماً.
  • وقوله {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ}يعني فسر بأهلك بالقسم الأخير من الليل.
  • وقوله تعالى {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} يعني عند الرازي (التفسير الكبير ج25 ص58) إنكم تقضون الشهوة بالرجال مما يؤدي إلى قطع السبيل مع النساء المشتمل على بقاء النوع. ويعني عند السيوطي (تفسير الجلالين ص528) تقطعون طريق المارة بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم حتى ترك الناس المرور بكم، وأما تفسير السيوطي فليس عندنا بشيء، لأن الآية تفقد اتساقها وترابطها وتتحول إلى خليط غير متجانس من الكلام لا ينظمه منطق. تعالى الله عما يصفون.

لقد استخدم التنزيل الحكيم فعل قَطَع كما رأينا بمعان متعددة لا علاقة لها بالبتر الذي لا يفهم البعض غيره، ولا علاقة لها بالسكاكين ولا بالسواطير، واستخدم لنقل معنى البتر فعل قطّع، لكنه حتى في هذا لم يكن مطلقاً. فصيغة التأكيد والتكرار الناشئة عن تضعيف عين الفعل الثلاثي قاعدة عامة تشمل جميع الأفعال بما فيها فعل قطع بمعانيه المتعددة التي أشرنا إليها سالفاً. وإليك عدداً من آيات كتاب الله ورد فيها فعل قطّع ليس بمعنى التقطيع والبتر بالسكاكين والآلات الحادة. يقول تعالى:

  • {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} محمد 22
  • {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} الرعد 31.
  • {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الحج 19.
  • {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} الأنعام 94.
  • {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ} البقرة 166.
  • {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} الأنبياء 93.
  • {لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} التوبة 110.
  • {وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} الأعراف 160.

فتقطيع الأرحام بإنكار حق القرابة، وتقطيع الأرض بالسير فيها، وتقطيع الثياب بكفايتها للابسيها، وتقطيع البين بالتباعد، وتقطيع الأسباب باليأس من وجود الوسيلة اللازمة، وتقطيع الأمر بتمسك كل طرف من أطرافه بوجهة نظره، وتقطيع القلوب باختناقها، وتقطيع القوم إلى أسباط وأمم بتقسيمهم، كل هذا لا يحتاج إلى أدوات جارحة أو إلى سكاكين وسواطير.

ولعل من المفيد الوقوف عند آية الأنعام 94، وعند قوله تعالى {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} والبعض قرأ البين بالنصب ورآه أجود، والبعض قرأها بالرفع ورآه أجود. والناصبون اعتبروه ظرفاً قدروا وجود اسم قبله، والرافعون اعتبروه اسماً هو الوصل استناداً إلى أن البين من ألفاظ الأضداد. وإذا جاز الاختلاف في البين وهو لا يخرج عن معنيين اثنين صحيحين، فلماذا لا يجوز في القطع وله عدد من المعاني كلها صحيحة؟ ولماذا الإصرار الفاحش على اعتماد معنى واحد بعينه، ثم نكفر من يأخذ بآخر؟

نعود بعد هذا كله إلى قوله تعالى في المائدة 38 {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ونلاحظ أن الواو في أولها تعطف ما بعدها على الآية 33 قبلها {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وأن العطف تقوية وحدة الموضوع. فالآية 33 تتحدث عن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، والآية 38 تتحدث عن جزاء السارق والسارقة.

فإذا نظرنا في لفظ السارق، نجد أنها وردت بصيغة اسم الفاعل من فعل سرق، التي تدل على دوام وطول ممارسة الفاعل لهذا الفعل، كقولنا كاتب. ونفهم أنه سبحانه يعني السارق الذي داوم على السرقة ومارسها طويلاً حتى أصبحت مهنة له، ويحدد له جزاءه ذكراً كان أم أنثى بقطع الأيدي. ونفهم أنه تعالى لا يعني أبداً الإنسان الذي سرق مرة واحدة، لأنه لو عنى ذلك لقال: {ومن يسرق}، تماماً مثلما فعل بقتل النفس حين قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ} النساء 93، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} النساء 92.ألا ترى معي أن القتل مرة واحدة يكفي لإنزال العقوبة بالفاعل؟

ننتقل إلى قوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، فإذا بنا أمام سيل عارم من الآراء والاجتهادات والأحكام، ولكل منها مستنده، ولكل منها أدلته وشواهده (أنظر التفسير الكبير للرازي ج11 ص223-229).

فالقائلون بالبتر يوجبونه على الذي يسرق، منطلقين من عموم الآية بشرطها وجزائها. ورغم أن الوجوب يشمل الأيدي، إلا أن انعقاد الإجماع أخرج الآية من العموم إلى الخصوص فصار البتر لليدين بدءاً باليمنى وليس للأيدي عموماً. لكنهم اختلفوا في تحديد معنى اليد، فمنهم من قال الأصابع، ومنهم من قال الأصابع والكف والساعد حتى المرفق، ومنهم من ذهب بحدود اليد إلى المنكبين.

ثم اختلف كل من هؤلاء في نصاب المسروق الذي يسمى معه الفعل سرقة، واشترطوا لوجوب القطع / البتر شرطين: قدر النصاب، وأن تكون السرقة من الحرز. فذهب بعضهم إلى أن القدر غير معتبر، وأن القطع واجب في القليل والكثير، فالقليل الحقير عند الغني الموسر كثير وعظيم عند الفقير المدقع وذهب آخرون إلى أن الحرز غير معتبر، فالسرقة أخذ مال الغير دون علمه وموافقته سواءً كان هذا المال في حرز أم لا. أما القائلون بالنصاب والحرز فقد اختلفوا في مقدار النصاب، فهو ثلاثة دراهم مرة وخمسة دراهم مرة أخرى وعشرة دراهم مرة ثالثة وربع دينار مرة رابعة وثمن مجن مرة خامسة.

ثم اختلفوا حول جواز تكرر القطع / البتر مع تكرر ارتكاب السرقة، ثم اختلفوا هل يملك السيد إقامة الحد على مماليكه، فمنهم من أجازه كالشافعي ومنهم من لم يجزه كالنعمان. ثم اختلفوا هل يجمع القطع والغرم، فمنهم من أجاز جمع التغريم والتعويض مع القطع. ومنهم من لم يجزه.

أما القائلون بعدم البتر ومنهم الإمام أبو مسلم الخرساني، فتكاد لا تجد لهم في كتب التراث سوى بعض السطور والعبارات المتناثرة هنا وهناك، ولعل ذلك يعود إلى تجنب النساخ والوراقين لمؤلفاتهم، لمعارضتها لجمهور فقهاء السلطان من جهة، وخطورة الإقبال عليها والأخذ بما فيها من جهة أخرى، شأنها شأن مؤلفات المعتزلة والقرامطة والخوارج.

هل القطع في فعل {فاقطعوا} هو البتر بالسكين أو الساطور؟ وهل اليد في قوله تعالى: {أيديهم} هي الطرف العلوي من الإنسان المنتهي بخمس أصابع؟ وإذا كان ذلك، فهل نهاية اليد، والحد الذي لا يجوز للبتر تجاوزه، هي الكف، أم الرسغ، أم المرفق، أم المنكب؟

هل المقصد الإلهي من قوله تعالى: {أيديهم} هو العموم في الآية؟ وهل صيغة الجمع تشير كما يرى الشافعي إلى المرات الثانية والثالثة والرابعة التي يسرق فيها السارق المقطوع اليد في المرة الأولى، فالرجل عنده إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى إلى المرفق وفي الثانية رجله اليسرى إلى مفصل القدم وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة يده اليمنى، بدلالة قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهم} والأيدي لفظ جمع أقله ثلاثة؟

وننتقل إلى قوله تعالى {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} المائدة 39. فنجد أن القائلين بالعموم والخصوص إن وجدوا حقلاً لاختلافهم في الآية السابقة، فإنهم لن يجدوا حقلاً في هذه الآية يختلفون فيه، فالتوبة الصالحة وقبول الله لأنه غفور رحيم، أمر هام يشمل جميع أنواع الظلم بما فيها الشرك، رغم أنها جاءت تعقيباً لمخصوص هو السرقة. ونجد الفقهاء مرة أخرى يختلفون حول جواز أن توقف التوبة القطع أو عدم جوازه، لكنهم يتقفون جميعاً على أن التوبة جائزة بعد القطع !! ونعود نحن إلى التساؤل:

من أين يأكل الذي قطعت يده اليمنى من المرفق ثم تاب؟ وكيف نوفق بين وضعه، وبين الحديث النبوي: التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وما فائدة الرحمة في ختام الآية الثانية، وقد أصبح عاطلاً عن العمل؟ وهل المجتمع ملزم في هذه الحالة بصرف إعانة عجز دائم لهذا المبتور التائب يواجه بها متطلبات حياته بعد التوبة؟ فإذا أخذنا بالحديث النبوي القائل بأن المولود يولد على الفطرة، ثم يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه، وأخذنا بما يشير إليه صراحة من اثر الأسرة والبيئة والمجتمع على تشكيل سلوك الفرد ومعتقداته ومنطلقاته، فإلى أي حد سيتأثر فهمنا لآية القطع في السرقة.

لقد التزم جمهور العلماء من القائلين بالبتر تفسيراً مشخصاً لليد في الآية فانصرف فقههم إلى الأصابع والكف والساعد، فلماذا هذا التشخيص البدائي، وأمامُهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} الفتح 10 وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} يس 9 وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الفتح 24.

فاليد هي الغلبة والنصر وهي الحفظ، واليد هي الإمام وهي القدرة والتمكن. وكف اليد هو المنع وليس الكف التي تتفرع منها الأصابع. فلماذا لا نفهم قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهم} من هذه الزاوية؟ لماذا يصر فقهاؤنا التشخيصيون على اعتبار جزاء السرقة كجزاء الحرابة مضافاً إليه الإفساد في الأرض؟ وهل يعقل أن هذا هو ذاك في حكم الله، كما يزعم تراجمة الله ومفسرو أحكامه؟

لماذا لا يكون قطع الأيدي هو كف الأيدي بالسجن مثلاً؟ أو لماذا لا نعتبر بتر الأطراف هو الحد الأعلى لعقوبة السرقة، فنطبقها على السارق الذي لا يقلع ولا يتوب، شأن الكي عند العرب حين تعجز باقي العلاجات؟ علماً أننا إن فعلنا ذلك صار للتوبة معنى ولرحمة الله ومغفرته معنى.

المشرعون في أمريكا لم يسمعوا بإجماع الفقهاء ولا بجمهور العلماء، ولم يسمعوا بأحكام الإسلام والقرآن، ومع ذلك فقد هدتهم فطرتهم إلى تشريع ما يسمى “بالضربة الثالثة”.

فالرئيس كلينتون يتحدث عن هذه الضربة في كتابه “الحلم والتاريخ”، فيوضح أن رجال العصابات والعنف يخضعون في المرة الأولى والثانية إلى نصوص القانون بما فيه من عقوبات، أما في المرة الثالثة فالحكم هو الإعدام!!

ونحن لا ندعو بالطبع إلى نبذ أحكام الإسلام واستبدالها بالإعدام كما هو عند الرئيس كلينتون، لكننا نشير إلى وضوح فكرة الحدود في الفطرة الإنسانية، والى أن التشريع الإسلامي تشريع مدني إنساني يتحرك بمرونة وحنيفبة ضمن حدود عليا وحدود دنيا هي حدود الله. يصدق ذلك كله قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} الروم 30.

ثمة كثيرون يقارنون بين عصر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر، وبين وضعنا نحن الآن في القرن العشرين. لهؤلاء أقول لا محل لهذه المقارنة، فمشكلتنا لا تشبه أبداً المشكلة الأوربية في عصر التنوير. المشكلة هناك كانت بين الكنيسة والناس مشكلة علمية، حول التفسير التوراتي للكون، الذي تبناه مسيحيو أوروبا كما ورد في العهد القديم، دون أن يتبعوا معه شريعة موسى في الكتاب (العهد القديم). المشكلة بين الكنيسة والناس هناك لم تكن في مجال التشريع، وإفعل ولا تفعل، كما هي الآن، بل كانت في مجال الموجود وغير الموجود، مجال هل الأرض كروية أم مسطحة، ومجال هل الأرض هي التي تدور حول الشمس أم الشمس هي التي تدور حول الأرض.

إن مشكلتنا مع المؤسسة الدينية مشكلة معاكسة تماماً. فرجال الدين عندنا يقبلون على استحياء التأويلات العلمية للآيات القرآنية على ضوء مكتشفات القرن العشرين. ويصرون في الوقت ذاته على تقديس التفاسير التراثية المتناقضة مع العديد من الحقائق العلمية الثابتة، دون أن يفكروا بتنقيحها ونقدها. المشكلة معهم هي في الفقه والتشريع والفلسفة، وفي العلوم الإنسانية عموماً.

المشكلة معهم هي أنهم يشعرون بكرتونية طروحاتهم، ويخافون على الإسلام الذي يمثلونه أن ينهزم، ويتابعهم على ذلك جماعات العوام وأنصاف المثقفين بحسن نية، وأصحاب الأغراض وذوو الأدمغة المغسولة بسوء نية. سلاحهم المشهور التكفير، والاتهامات الجاهزة لكل من ينوي الخروج عن وصايتهم وولايتهم، بالزندقة والعمالة وهدم الإسلام وسب الصحابة وإنكار السنة.

لكننا مطمئنون تماماً إلى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد 17. إننا مطمئنون تماماً ونطمئن كل من يؤمن بالله وبالإسلام لله، أن الله لا ينهزم، وأن الإسلام لا ينهزم. فالله موجود في فطرة الإنسان، والإسلام موجود في ثقافات كل أهل الأرض. الوحيد الذي سينهزم هو الفقه التاريخي المتحجر وسدنته وهاماناته ومؤسساته، الوحيد الذي سينهزم هو تصوراتنا وفهومنا الملتوية القائمة على تقديس المعصومين وعلى ترسيخ الوصاية والولاية لورثة الأنبياء، الوحيد الذي سينهزم هو ذهنية التحريم، أما الله والإسلام فلا.

البعثة المحمدية حتى تكامل الفقه الإسلامي التاريخي

كان العرب عند بداية البعثة المحمدية مجموعة قبائل متفرقة، لكل قبيلة مجالها اليومي الحيوي الخاص بها، و كان الرعي و الغزو المهن الرئيسية السائدة عندهم، إضافة إلى التجارة التي تركزت بشكل رئيسي في مكة، و الزراعة قي الطائف ويثرب واليمن.

لم تكن عند العرب حكومة مركزية، لكنهم كانوا واعين تماماً لما يجري حولهم، و يدركون أن أنظمة الدولة المركزية الممتدة حولهم تقوم على الرق و العبودية، رغم أن مفهوم الرق كان سائداً عندهم أيضاً، إما بالسبي في الغزوات، أو بالشراء من أسواق النخاسة.

كان العرب متفرقين، هذا صحيح، لكنهم كانوا أحراراً غير تابعين في معظمهم لأحد. و النظام الاجتماعي عندهم يقوم على الأسرة العشيرة و القبيلة. فقريش مثلاً كانت تتألف من عشرة بطون، أحدها بنو هاشم الذين ينتسبون مع بني أمية إلى بني عبد مناف، وكان الرسول الأعظم منهم. و قد مارس النبي (ص) مهنة قومه في الرعي و التجارة.

أما من الناحية الأخلاقية، فقد اتصفوا بكل ما يتصف أمثالهم من حمية أسرية وعشائرية وقبلية، وكرم وصدق ووفاء، ولم يكن لديهم معايير أخلاقية مزدوجة.(النفاق مثلاً لم يكن له وجود في مكة، إذ لم يرد ذكر النفاق و المنافقين إلا في الآيات المدنية). ولقد ساعد مفهوم الانتماء الأسري في حماية الرسول الأعظم خلال المرحلة المكية (أبو طالب / المطعم بن عدي). كان النبي عند أهل المرحلة المكية صادقاً، لكنهم لم يروا من دعوته إلا الجانب السياسي، جانب الزعامة للأسرة و القبيلة، دون أن يخطر في بالهم أن الدعوة ستتمكن من إقامة دولة مركزية.

و من هنا نفهم كيف كانوا يرون الأمور حين عرضوا عليه الثروة و الملك، دون أن يفكروا بقتله أو اعتقاله إلا في أواخر المرحلة المكية، حتى بعد أن فكروا بذلك رسموا خطة يضيع بها دمه بين العرب، لا خوفاً من بني هاشم من الناحية العسكرية، بل خوفاً من العار الذي سيلحق بهم.

من الناحية العقائدية، كان العرب وثنيين، لكنهم كانوا يعترفون بالإله الواحد، وما الأصنام عندهم إلا لتقربهم إليه زلفى. أما من الناحية الفكرية والدينية، فقد كانوا منفتحين على (الآخر)، وكان هذا الآخر مقبولاً لديهم. فمن العرب من هو نصراني أو يهودي أو حنيفي أو وثني، ولم يكن أحد منهم يشعر بالعار أو النقيصة من وجود الآخر. و كان لسانهم العربي قد بلغ مرحلة من التطور يستطيع معها حمل المعاني السماوية المنزلة في الرسالة المحمدية.

هذه المزايا التي اجتمعت للعرب زمن النزول، من اعتزاز بالحرية ونفور من التبعية واحترام الآخر والتعايش معه وتقديس المروءة وإكرام الضيف وتلبية المستغيث والوفاء بالعهود، كل هذا جعلهم مَؤهلين لحمل الرسالة السماوية المنزلة. إنما بقيت عندهم مشكلة الزعامة والسياسة والملك. فقد كانت الزعامة موزعة بين رؤوس القبائل والمفهوم التنظيمي للدولة المركزية غير موجود عندهم، وبالتالي دفع الأموال لهذه الدولة المركزية مهما كان شكلها (ضرائب / زكاة / إتاوة)، والخضوع لزعامة مركزية تختفي تحتها الزعامات الأسرية والعشائرية والقبلية، كان بعيداً عن تصوراتهم، بعيداً عن وعيهم السياسي.

من الناحية الاجتماعية كانت مسألة الرق (سبياً أو شراء) موجودة ومقبولة في وعيهم الاجتماعي. ولما كانوا يعيشون على الرعي والغزو والتجارة، وكانت الزراعة والمهن الأخرى الصناعية بيد الأغراب والموالي، فقد كان دور المرأة ثانوياً في حياتهم، إذ كانت في جميع حالاتها الاجتماعية تنسب إلى الرجل، وكان مفهوم ولي الأمر سائداً قبل عصر التنزيل. فرغم أن السيدة خديجة بنت خويلد كانت صاحبة مال وتجارة وقرار مستقل، إلا أن النبي (ص) حين خطبها قبل البعثة، جاء في وفد من ذكور بني هاشم، واستقبلهم الذكور من أهل خديجة، وتمت الخطبة والزواج.

ومازالت ذهنية ولي الأمر بالنسبة للمرأة هي التي تحكم وعينا الاجتماعي حتى اليوم. أما حرية الفكر وحرية الكلمة عند العرب في عصور ما قبل التنزيل فمن نافلة القول الحديث عنها، ونحن أمام أخبار الأسواق والمواسم، وأمام شعراء، بيت واحد من أحدهم يرفع قبائل بكاملها وينزل قبائل بكاملها، ولعل أبلغ ما يحضرنا في هذا المجال، قول من قال: ما زالت قريش تفخر علينا بالسقاية والسدانة والرسالة إلا الشعر، حتى جاء ابن أبي ربيعة فسادتنا في كل شيء.

لا أريد أن أستفيض في ما استفاض فيه الكثيرون، أريد أن أركز على بعض طبائع القوم الذين أسس النبي (ص) منهم وبينهم دولة مركزية فتية عاصمتها المدينة المنورة تضم كل شبه جزيرة العرب، كان فيها (ص) نبياً ورسولاً ومؤسس دولة، وامتزجت فيه هذه الجوانب الثلاثة، ومع ذلك نسمع أبا سفيان يقول للعباس، يوم فتح مكة، إن ملك ابن أخيك غدا عظيماً.

لم تكن المشكلة التي نشأت منذ اللحظة الأولى بعد وفاة النبي مشكلة نبوة أو مشكلة رسالة، إذ لا أحد وضع هاتين موضع الشك والتساؤل. حتى حروب الردة كانت حروباً سياسيةً وحدويةً لمنع الانفصال والمحافظة على الدولة ومركزيتها. بقي الملك ووراثة الدولة هو المشكلة الأساسية، فحاول كل طرف ينادي بأنه الوريث الأحق لهذه الدولة، أن يسبغ على دعواه صفة الشرعية، اتكاء على آيات الرسالة وعلى أحاديث النبوة، فاختلط مفهوم الرسالة بمفهوم النبوة بمفهوم الملك، وأصبحت المشكلة البحث عن غطاء أيديولوجي يعطي الحكم صفة الشرعية، وكان الأمر عسيراً بالغ الصعوبة، باعتباره جديداً عليهم، يرتبط كما أشرنا بمفهوم الأسرة والعشيرة والقبيلة، إلا أن الحاجة في الجانب المقابل كانت ملحة لغطاء أيديولوجي جديد لوراثة الملك.

والمتأمل في آيات الكتاب كلها، لا يجد نصاً يحدد شكل الحكم، أو مسألة وراثة الملك، إلا في آية واحدة هي قوله تعالى{وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} النمل 16. لكنهم اختلفوا في تفسيرها، فمنهم من قال المال والملك لأن النبوة عطية مبتدأة ولا تورث، ومنهم من قال بل النبوة، فرد عليهم آخرون بحديث نبوي مشهور يقول: نحن معشر الأنبياء لا نورث(19). لكنهم جميعاً تحاشوا أن يتخذوا من الآية غطاء أيديولوجياً يمنح دعواهم الشرعية المطلوبة، لعدم وجود ابن ذكر للنبي يرثه كما ورث سليمان داوود.

ولم يجد الباحثون عن الشرعية في التنزيل الحكيم سوى آيات الإرث وآيات طاعة أولي الأمر، وكلا النوعين يصلح أن يكون غطاء منشوداً. فالنبي كمؤسس للدولة وقائد لها يورث القيادة لمن هو أقرب طبقاً لأحكام آيات الإرث، وهذا هو الغطاء الإيديولوجي الذي استخدمه العباسيون لشرعية حكمهم، بعد أن حصروا معنى الولد في الآية بالذكر، ورسخوا مقولة أن البنت لا تحجب، وأرسوا قاعدة أن الإرث في آية النحل هو للمال و الملك، وتم بذلك إبعاد فاطمة كوإرثة، كما تم إبعاد علي كرم الله وجهه باعتباره ابن عم النبي والعم أولى.

أما طاعة أولي الأمر، فهي الأساس الذي أقام عليه الأمويون حكمهم، وهي ما نفهمه اليوم بسياسة الأمر الواقع، التي تحرم معارضة ولي الأمر بعد استقراره في ولاية الأمر، كائنة ما كانت الطريقة التي استلم بها ولاية الأمر. ونسبوا للنبي أمره بوجوب طاعة الولي ولو أخذ الأموال وجلد الظهور، وروجوا مقولة (الطاعة لمن غلب) وجعلوا منها غطاء مبرراً ومسوغاً يعطي حكمهم صفة الشرعية.

فإذا عدنا إلى ما قبل الحكم الأموي، والى زمن وفاة النبي (ص)، وجدنا أن كل هذه الأغطية لم يكن لهل محل في النزاع. فحين توفي الرسول الأعظم، كان ثمة أنصار ومهاجرون، أنصار فيهم الأوس والخزرج، ومهاجرون فيهم قريش ببطونها العشرة. وكان صحابة الرسول من هؤلاء وأولئك، كلهم عاش معه وعرفه وسمع أقواله ورأى أفعاله. ورغم أن ما حدث في السقيفة لا يخرج عن كونه مسألة سياسية تمركز الخلاف فيها بين مهاجرين وأنصار، إلا أننا لم نجد أحداً احتج بحديث النبي (ص): الأئمة من قريش.

ولم يخرج النقاش يومها عن الأسبقية في نشر الرسالة وفي تأسيس وتثبيت دعائم الدولة، حتى أن الأنصار رضوا يومئذ أن يكون الحكم بالتناوب، لولا أن عمر بن الخطاب سارع بمبايعة أبي بكر، حسماً للخلاف والنزاع أن يستشري ويستفحل، ورفض سعد بن عبادة زعيم الأنصار أن يبايع، فداسته الأقدام وهو مريض، ثم مات بحوران في خلافة عمر وزعموا أن الجن قتلته.

وما كادت خلافة عمر بن الخطاب تقارب نهايتها حتى كانت الدولة قد كبرت والغنائم تتدفق كالسيل إلى المدينة المنورة، ودخل في العملية عنصر جديد إلى جانب الملك ورئاسة الدولة هو المال. وانتقلت الخلافة إلى عثمان، وبدأت مظاهر العصبية الأسرية تطبع السلطة بشكل واضح. ومضى عثمان يعين أقاربه من بني أمية في السلطة، لا على أساس الأمانة والكفاءة بل على أساس القرابة. ولا على أساس البلاء الحسن في الإسلام والماضي الناصع، بل على أساس الرابطة الأسرية وحدها. ولعل تعيينه لأخيه من أمه عبد الله بن أبي سَرْح على خراج مصر(20)، أحد الأدلة الكثيرة التاريخية على ما نقول.

فالدولة لم تكن وقتها بحاجة إلى المال، وقد صار عندها أكواماً بعد فتح الشام، وكان يجدر بالولاة أن يرفقوا في تحصيل المفروض على الأرض والغلال، لكن العمال والولاة أمثال ابن أبي سرح، لم يكن همهم سوى زيادة حصيلتهم من خيرات الأرض، ولو أدى ذلك إلى بوارها. لعل خير ما يوضح لنا هذه الروح، الحوار الذي دار بين عمرو بن العاص (وكان يجمع بعد فتح مصر إمارة الجند وولاية الخراج ثم عزله عثمان) وبين ابن أبي سرح والي الخراج الجديد، وقد جاءه الأخير متباهياً وغامزاً فقال:

  • لقد درت الناقة بعدك يا أبا عبد الله..
  • فقال عمرو:
  • لكن فصيلها نفق جوعاً..

يعني أنكم أخذتم كل اللبن ولم تتركوا للرضيع شيئاً. وهذا كله أدى إلى ولادة الاتجاهات والخلافات الكثيرة المتعددة.

وعندما استلم علي بن أبي طالب الخلافة، كان مفهوم التعصب الأسري قد غدا واضحاً تماماً، وكانت القوة المالية والعسكرية والسياسية قد خلصت لبني أمية، فاستطاعوا أن يجعلوا من قميص عثمان حجة ومشكلة، في وقت كان فيه الكثير من كبار الصحابة قد ذهب، وفي وقت كان وضع الحديث النبوي قد عمَّ، ثم استشرى بعد انتصار الأمويين وبانتهاء المرحلة الراشدة بشكل مرعب.

إننا نتفق مع كل من يقول بخطورة وضع الأحاديث النبوية، فالكذب على لسان النبي ليس كالكذب على لسان غيره، ولقد عرضنا لهذا بالتفصيل في موضع آخر من هذا الكتاب فلا نعيد. لكننا ننبه هنا إلى ما هو أخطر من الوضع. إنه تأويل الآيات والأحاديث الصحيحة تأويلاً يخرج بها عن مقاصدها، ويبترها عن سياقها الذي قيلت فيه. واقرأ معي هذا الخبر يرويه البخاري في صحيحه ج9 ص68:

(عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدثنا حديثاً حسناً، فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن حدثنا عن القتال في الفتنة، فالله تعالى يقول{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} , فقال أتدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد (ص) يقاتل المشركين وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك) أهـ.

يشير الرجل في الخبر إلى الآية 39 من سورة الأنفال:

{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيبتر الآية عن سياقها، فالله تعالى يقول في الآية 38: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ..} والله تعالى يتابع في الآية 39 ليقول {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا …}.

فمفهوم الفتنة ومعناها والمقصود بالقتال لا يمكن أن يتحدد إلا ضمن السياق، ورحم الله ابن عمر. ومع ذلك كله فقد ذهب كثير من القدامى إلى فهم الفتنة بالمعنى الذي ذهب إليه الرجل، وتابعهم تقليداً الكثير من المحدثين نذكر منهم طه حسين في كتابه الشهير (الفتنة الكبرى).

قلنا إن الأمويين وضعوا لحكمهم غطاء أيديولوجياً يقوم على طاعة أولي الأمر، تكريساً لواقع قضاه الله ولا سبيل إلى رده. فكان عليهم أن يقولبوا مفهوم القضاء والقدر بما يتناسب مع دعم وتثبيت ملكهم، لذا أسرع فقهاء السلطان إلى وضع تعريف يقول بأن قضاء الله هو علمه الأزلي، وأن قدره هو نفاذ هذا العلم. فالله يعلم منذ الأزل أن بني أمية سيستلمون الحكم، إن كان هذا قضاءه فلا سبيل إلى وقف القدر القاضي بنفاذ هذا القضاء، وكل من يعارض أو يحارب حكم بني أمية فهو إنما يعارض ويحارب قضاء الله وقدره. وبذلك ضمنوا الشرعية لملكهم من جهة، وبرروا مظالم حكامهم من جهة أخرى.

تروي الأخبار أن الوليد بن عبد الملك قال للزهري: ما حديث يحدثنا به أهل الشام، أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات؟ قال باطل يا أمير المؤمنين. أنبي خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال بل نبي خليفة. قال فان الله تعالى يقول لنبيه داوود {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ص 23. فهذا وعيد لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي؟ قال (إن الناس ليغووننا عن ديننا) وراح الأمويون وراح عصرهم.. وبقي التعريف المشوه للقضاء والقدر معمولاً به حتى اليوم.

وقلنا إن العباسيين اتخذوا لحكمهم غطاء أيديولوجياً يقوم على أساس القرابة من الرسول (ص) وحقهم في ميراثه. لكن هذا الغطاء إن أجدى ونفع بمساعدة أهل خراسان في استعادة الملك الذي استلبه بنو أمية من بني هاشم إلا أنه لا يجدي نفعاً في الخلاف مع الطالبيين والكل هاشمي. فكان على العباسيين أن يقولبوا آيات الإرث والوصية بشكل تصلح معه لأن تكون غطاء شرعياً لحكمهم، فصار الولد ذكراً، رغم قوله تعالى {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ} النساء 4.

ورغم أن سامع هذا القول وقارئه لا يحتاج اليوم إلى دكتوراه في علوم القرآن واللغة، ليفهم أن الأولاد فيهم الذكور وفيهم الإناث، وأن الولد يكون ذكراً ويكون أنثى. ثم صارت الأنثى لا تحجب، لإخراج فاطمة وأبنائها من اللعبة السياسية، ثم أرسوا قاعدة “لا وصية لوإرث” لإخراج الإمام علي وأبنائه وأحفاده من لعبة الحكم والملك، ونسبوها للنبي (ص)، فأسسوا بذلك لأخطر سابقة عرفها التاريخ الإسلامي، هي أن السنة، أي الحديث النبوي، ناسخة للقرآن، وأن القرآن أحوج إلى السنة من السنة للقرآن، تعالى الله عما يصفون.

لقد كان الإمام الشافعي على رأس من قال بهذا، رغم أنه في كتابه “الرسالة” ينكر دور الآحاد في مجال العقائد، ومع ذلك يأخذ بحديث آحاد من أهل المغازي، فكان تناقضه مع ذاته في هذه المسألة أبلغ في إثارة الدهشة من تناقضه مع غيره، لكنها السياسة.. والسير في ركاب أهل الحكم.. التي وجد الشافعي نفسه معها أمام مفترقات خطرة. فإن هو قال بأن البنت ولد، وبأنها تحجب كالذكر تماماً، صار شيعياً، وإن هو قال بالتفريق في مسألة إرث الأنبياء بين النبوة والملك، صار خارجياً. وهما أمران عند العباسيين أحلاهما مر!!

كان العباسيون يرتكزون في مشروعية حكمهم وتغطيته على أحكام آيات الإرث بعد صقلها لصالحهم من جهة، وعلى إرادة الله واختياره من جهة أخرى. وإذا كان الأمويون قد أوجدوا مفهوماً للقضاء والقدر، فتحوا به باب القول بالجبرية، الذي يدخل تحت عنوان حتمية المحكوم والحاكم على حد سواء، فإن العباسيين أوجدوا مفهوماً للإرادة الإلهية، أخرجوا به الحاكم من خندق الجبرية، إلى فضاء الحكم باسم إرادة الله ومشيئته.

ففي حين يقول عثمان بن عفان، وهو من بني أمية، لمعارضين يطلبون منه التخلي عن الخلافة: والله لا أخلع ثوباً ألبسنيه الله. واضعاً بذلك أساس القضاء والقدر والجبر عند الأمويين من بعده، نجد أبا جعفر المنصور يقول في خطبة له: (أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وأنا خازنه على فيئه، أعمل بمشيئته وأقسم بإرادته وأعطي بإذنه، قد جعلني الله عليه قفلاً إذا شاء فتحني لأعطياتكم وفيئكم وأرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفلني أقفلني..).

فالحاكم العباسي إنما يعمل فيعطي أو يمنع بمشيئة الله تعالى، باعتباره خليفة النبي ومن أهل بيته الذين أراد الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً. وهذا ما نراه في خطابهم للناس. أما في خطابهم للطالبيين، منافسيهم الهاشميين على الخلافة، فقد كان يبرز واضحاً الاتكاء على تفسير آيات الإرث. ولعل أبرز ما يمثل هذا الاتجاه في التغطية الإيديولوجية، الإمام محمد النفس الزكية.

يروي الطبري في تاريخه مج7 ص566، أن الإمام محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية (رض) خرج على طاعة أبي جعفر المنصور وخلع طاعة بني العباس بعد أن عمل المنصور في الطالبيين سجناً وتقتيلاً، فأرسل إليه المنصور يدعوه إلى التوبة ويعطيه الأمان له ولمن بايعه، فرد عليه الإمام محمد يدعوه إلى الدخول في طاعته وبيعته، آمناً على نفسه وماله، ويختم الرسالة قائلاً:

(وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني.. أمان ابن هبيرة، أم أمان أبي مسلم؟).

لكنه يسهب في مطلع رسالته بالاعتداد بنسبه إلى فاطمة والنبي وبأرومته الممتدة إلى الإمام علي كرم الله وجهه (وإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء)، ثم يمضي ليغمز بالمنصور ويعرض بأمه، وكانت بربرية تدعى سلامة (وإني أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أباً، لم تعرقّ فيّ العجم، ولم تنازع فيّ أمهات الأولاد). فيرد عليه المنصور برسالة يوضح فيها بجلاء ارتكاز العباسيين على آيات الإرث في إثبات الشرعية لحكمهم فيقول:

(…فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء، لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، لأن الله جعل العم أباً وبدأ به في كتابه على الوالد الأدنى فقال جل ثناؤه عن نبيه يوسف {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} يوسف 38.

بهذه الفقرة، ومن خلال ثغرة عدم وضوح الفرق بين الأب والوالد، واتكاء على روح الذكورية السائدة يومها، يمهد المنصور ليتابع قائلاً:

(.. وأما قولك إنكم بنو رسول الله (ص)، فان الله تعالى يقول في كتابه {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الأحزاب 40. ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها؟ ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها بين المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يرثون..).

ثم يختم رسالته، يرد على فخر الإمام بنسبه فيقول:

(..لقد بعث الله محمد (ص) وله عمومة أربعة، أنذرهم ودعاهم، فأجاب منهم اثنان أحدهما أبي، وأبى منهم اثنان أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه..).

(..وزعمت أنك أوسط بني هاشم نسباً، وأصرحهم أماً وأباً، أنك لم تلدك العجم، أراك فخرت على من هو خير منك نسباً وأباً، إبراهيم بن رسول الله (ص)، وأمه أم ولد، وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات أولاد..).

إن الرسائل المتبادلة بين الإمام محمد النفس الزكية والمنصور لا تتعدى بكامل نصوصها ثلاث صفحات، تصلح لأن تكون أرضية لبحث مستفيض في علم الكلام والعقائد وعلم الاجتماع. ومع ذلك قل من وقف عندها بتفصيل دقيق واضح ومتعمق.

فالمتأمل يجد الرجلين يتفاخران بالأنساب بروح قبلية جاهلية واضحة، وكأنهما نسيا في غمرة صراعهما على السلطة، أبسط تعاليم الرسالة المحمدية{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.

والمتأمل يقف طويلاً أمام قول المنصور (..لأن الله جعل العم أباً وبدأ به في كتابه..) ثم يستشهد بالآية 38 من سورة يوسف. لكن سياق الآبائية في الآية سياق ملة ونبوة ومعتقد، وليس سياق سلطان وحكم، إضافة إلى أن الآبائية شيء والوالدية شيء آخر، مما ينتج عنه أن شاهد الآية عند المنصور ليس كما ينبغي. ويذكرنا هذا بآية اعتاد الهاشميون دائماً إشهارها في وجه الأمويين هي قوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ..} النمل 16.

كشاهد على حقهم في وراثة النبي بالملك والنبوة، غافلين عن أن الآية تتحدث عن والد وولدهما أنبياء بالأصل، مما لا ينطبق على ما يطالبون به، ويجعل استشهادهم بالآية ليس على ما ينبغي.

والمتأمل يقف عند قول المنصور (ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها أن الجد أبا الأم والخال لا يرثون) فيجد نفسه أمام أمور. الأول إشارته إلى أن السنة هي الحاكمة على القرآن في موضوع الإرث، وهو ما ذهب إليه الشافعي. والثاني زعمه إجماع جميع المسلمين على أن السنة جاءت بهذا، بينما يعلم الكل منذ عصر المنصور إلى اليوم، أن المسلمين لم يجمعوا على أمر من أي نوع خلال تاريخهم بأكمله، إلا شهادة الإسلام وشهادة الإيمان، وأنهم اختلفوا ومازالوا مختلفين على الصلاة والزكاة والصوم والحج وإقامة الحدود. أما الثالث، فإشارته إلى ميراث الجد والخال والخالة، وليس هذا موضع الخلاف بين العباسيين والطالبيين.

والمتأمل يقف طويلاً عند قول المنصور (..ولكنكم بنو ابنته، وإنها لقرابة قريبة، ولكنها لا تحوز الميراث، ولا ترث الولاية، ولا تجوز لها الإمامة..)، وفيه أيضاً مسائل. الأولى أنه يعتبر الإرث النبوي ملكاً وسلطاناً ونبوة، ناسياً أن النبوة اصطفاء شخصي ذاتي تقرره المشيئة الإلهية لإنسان بعينه، وليست متاعاً يقبل القسمة، ويؤول إلى أصحاب الحق فيه كل بحسب نصيبه.

الثانية أنه يعتبر البنت لا تحجب، وأن باقي تركة النبي تؤول إلى العم، ناسياً أن هذا بالأصل تأويل واجتهاد فقهاء العباسيين ولا إجماع عليه كما يزعم. الثالثة قوله: (ولا ترث ولا تجوز لها الإمامة) فأما الولاية فهي ولاية الأمر أي الحكم والسلطان. وهو هنا يقرر ذلك منطلقاً من أنها أنثى ناقصة عقل ودين من جهة، ومن أنها لا تحجب العم عن ميراثه من جهة أخرى. وأما الإمامة فهي خلافة النبي بنبوته وعصمته، ورغم أن هذا المصطلح لم يظهر عند الإمامية – كما يقول الدكتور موسى الموسوي – إلا في القرن الثالث الهجري بمعناه الذي نعرفه اليوم، إلا أنه كان معروفاً ومتداولاً منذ القرن الأول، بدليل وروده عند المنصور، بمعناه العام.

إن الوقوف بالتحليل أمام مثل هذه الوثائق على قلتها وندرتها، يبين لنا بوضوح كيف لعبت العصبية الأسرية والقبلية من جهة، والصراع على الحكم وتغطيته شرعياً من جهة ثانية، والروح الذكورية المتطرفة من جهة ثالثة، دوراً أساسياً في صياغة الفقه الإسلامي منذ تأصيله أول مرة، ودوراً أساسياً في تثبيت تأويل آيات الأحكام وجعل الحديث النبوي قادراً على نسخها، ودوراً أساسياً في نظرة الفقهاء إلى المرأة، وخاصة في مسائل الإرث والحجاب والقوامة واستلامها المناصب القيادية في المجتمع.

موجبات القراءة المعاصرة

لقد أطلنا التفصيل في هذا كله، لنصل بعده إلى القول بأننا نعود اليوم لنقرأ من جديد آيات الإرث وأحكام الحجاب والقوامة ومفهوم النشوز والإعراض، بعيداً عن كل موروث أموي وعباسي، وبعيداً عن كل تأويل وفقه يهدف إلى إثبات حق هؤلاء وأولئك في الحكم. فمن السخف بمكان أن يدافع المرء اليوم عن تطبيق منحرف لآيات الإرث فرضته سلطة أموية أو عباسية لإبعاد الهاشميين تارة والطالبيين تارة، والأسخف أن يتوهم أنه بدفاعه هذا إنما يدافع عن الإسلام.

ومن المثير للسخرية أن يتمسك المرء اليوم بنظرة فوقية إلى المرأة، جاءته من عصور حكمتها الروح الذكورية كانت فيها المرأة والكلب الأسود والحمار من مبطلات صلاة الرجل، والأكثر إثارة للسخرية أن يظن بتمسكه هذا أنه يتمسك بالكتاب المنزل.

وإذا ذهب فقهاء السلطنة في عصور التدوين وتأصيل الفقه إلى ما ذهبوا إليه خوفاً من مروان وعبد الملك والمنصور، فليس ثمة ما يجبرنا على التزام مذهبهم ذاك، إلا نفراً من أصحاب الأخيلة المريضة التي تخشى أن تطيح بها رياح التجديد.

لقد أطلنا التفصيل في التفاصيل، لنصل بعده إلى توضيح الصيرورة التاريخية والسياسية التي أوجدت الفقه الإسلامي التاريخي وأسسه وأصوله التي وصلتنا، وما زلنا نعتمدها ونطبقها، فاستحال معها أن نجد مصداقاً لقوله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} الأعراف 158.

إن للعلوم، وعلم الرياضيات خاصة، علاقة مباشرة بفهم وتطبيق آيات الإرث. فماهي الصيرورة العلمية، والأرضية المعرفية التي حكمت فهم وتطبيق هذه الآيات أموياً وعباسياً؟

لقد كان علم الحساب بعملياته الأربع هو السائد زمن التنزيل، إضافة إلى أن العرب كانوا أهل بيان ولم يكونوا أهل حساب. وما زلنا حتى اليوم لا نخرج في تطبيق أحكام الأرث عن العمليات الحسابية الأربع. لكننا حين قرأنا آيات الإرث بعين القرن العشرين، استندنا في تطبيقها وفهمها بالإضافة للعمليات الحسابية، إلى ما يلي:

  1. الهندسة التحليلية.
  2. التحليل الرياضي.
  3. نظرية المجموعات في الرياضيات الحديثة.

فان سألني سائل: ألم يعرف العرب المسلمون هذه العلوم من قبل؟ أقول: لقد تأسست الهندسة التحليلية على يد ديكارت في القرن السابع عشر، وتأسس التحليل الرياضي على يد نيوتن في القرن الثامن عشر، وعرفت نظرية المجموعات في القرن العشرين. حيث كان العرب المسلمون وما زالوا يغطون في سبات عميق، العلوم عندهم هي علوم الحلال والحرام، والعلماء الوحيدون عندهم هم رجال الدين الذين يدعون بكل صراحة إلى نبذ العلوم الدنيوية لأنها تلهي عن ذكر الله، ولأنها غير ضرورية(21). وينسبون إلى النبي (ص) قوله: إنما العلم آية محكمة أوسنة قائمة أو فريضة عادلة.

كما استندنا في تطبيق آيات الإرث إلى كافة المعارف والعلوم الإنسانية التي لم تقصر في تطورها عن علم الرياضيات، سواء في حقل الفلسفة أو المنطق أو الألسنيات أو علم النفس والاجتماع، فكانت المحرك الأول الذي أدخلنا في عالم المعلوماتية المذهل.

القاضي اليوم لا يحتاج إلى إلقاء الطفل في النار، ليعرف من هي أم الطفل الحقيقية كما تروي الأخبار، يكفي خلال دقائق أن يقوم بتحليل الجينات مخبرياً ليحصل على الجواب. ودارس الفقه اليوم لا يحتاج إلى استظهار الشافية والكافية وألفية ابن مالك وحاشية ابن عابدين والقرآن الكريم وكتب الحديث النبوي، وحفظها عن ظهر قلب. يكفي بنقرة زر واحدة على مفكرة جيبه ليحصل على ما يريد. باختصار نقول: لقد حولت ثورة المعلوماتية اليوم الفقيه الباحث من ببغاء يردد ما حفظه، إلى قارئ محلل.

وإذا كان علماء الأصول قد قرروا نظرياً مبدأ (تغير الأحكام بتغير الأزمان) فإننا نقرر نظرياً، وعملياً بعونه تعالى، أن الأحكام تتغير أيضاً بتغير النظام المعرفي، ولا عجب أبداً إن انتهينا في قراءتنا المعاصرة لآيات الإرث في ضوء الرياضيات الحديثة إلى أحكام ونتائج تختلف عن مثيلاتها عند أهل القرن الثامن الميلادي. والمسألة أولاً وأخيراً ليست مسألة ذكاء وغباء، ولا مسألة تقوى وعدم تقوى، إنها ببساطة مسألة إشكالية نعيشها ونظام معرفي نقف عليه سمحا لنا أن نرى ما لم يستطع السابقون رؤيته.

قال لي أحدهم ذات يوم باسماً: كتبك ثقيلة الحجم، عسيرة الهضم، لك فيها أسلوب لم نعتده عند كتاب الفكر الديني، وأود لو لخصت لي ما تدعو إليه في كلمات. قلت: إنني أدعو ببساطة إلى تناول كتاب الله بقراءة معاصرة، فاربدَّ وجهه متجهماً. فسألته: ما الذي يزعجكم في هذا؟ أهي القراءة؟ أم المعاصرة؟ أما القراءة، فقد كان من شرفها أنها أول فعل أمر نزل به الوحي الأمين، على المصطفى المعتكف في غار حراء، قال: اقرأ. قال: ما أقرأ؟ قال اقرأ باسم ربك الذي خلق.

والقراءة استدلال وتأمل وإدراك واستعراض وتحليل يصل بعدها القارئ إلى فهم ما يقرأ. ومع ذلك تصرون على أن القراءة هي فك الخط وفهم صور الحروف، ولو أدى بكم ذلك إلى التماس تخريجات لم تعد تقنع حتى طلاب المعاهد الشرعية.

وأما المعاصرة، فهي من العصر، ويكفيها فخراً أن الله تعالى جعلها محلاً للقسم في كتابه الكريم. ومع ذلك كله فلا شيء نراه يخيفكم أكثر من الحداثة والمعاصرة والتطور، حتى أصبحتم مصداقاً لقوله تعالى {…قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا…} المائدة 104، وقوله تعالى {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} الزخرف22.

إن داء الآبائية لا يقتصر على عرقلة السيرورة والصيرورة التاريخية والمعرفية، بل يدفع المصابين به إلى تكفير الآخرين وتكذيبهم، وإلى اتباع الهوى، الذي أشار إليه سبحانه بقوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} القمر 2و 3.

للوهلة الأولى لا تبدو العلاقة واضحة بين التكذيب واتباع الهوى بالأمر المستقر من جهة، وبالسيرورة التاريخية للإنسانية جمعاء من جهة أخرى، لكن الأمثلة التالية توضح هذه العلاقة تماماً، وتدفع قارئ الآية أن يصيح بأعلى صوته: صدق الله العظيم.

  1. كان دوران الشمس حول الأرض أمراً مستقراً في أذهان الناس وراسخاً في معتقداتهم العلمية والدينية. إلى أن جاء رجل أسمه كوبرنيكوس فقال إن العكس هو الصحيح، فكذبوه. واتبعوا أهواءهم فأحرقوه. لماذا؟ لأن المستقر من الأمور في أذهان الناس وقناعاتهم، يتحول مع الزمن إلى مؤسسات تحميها هامانات، يرتبط وجودهم بهذه المعتقدات وتلك المستقرات. من هنا يأتي التكفير والتكذيب كردة فعل أولى، تليها ردة الفعل الثانية دفاعاً عن البقاء وعن الامتيازات فيأتي اتباع الهوى بالقتل والنفي ومصادرة الفكر والعقل.
  2. كانت عبادة الأصنام أمراً مستقراً في زمن إبراهيم، وقناعة راسخة عند قومه، حتى جاء يدعو إلى عبادة الواحد الأحد، فكذبوه. وأغلقوا عقولهم عن سماع حججه (وهذا هو اتباع الهوى) وألقوه في النار.
  3. كانت الرؤية كدليل على وجود الأشياء أمراً مستقراً في أذهان الناس حتى جاء باستور يقول بوجود كائنات دقيقة هي سبب كثير من الأمراض لا تراها العين، ومع ذلك فهي موجودة، فكذبوه. واتبعوا أهواءهم فطردوه من باريس.

ونحن ندعو اليوم إلى القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم، ولآيات الإرث والحجاب والقوامة والتعددية الزوجية، ولأحكام الحدود كما جاءت، وللجهاد والحرب والقتال والغزو، واعين تماماً أننا سنكفر ونكذب، وأن الماضين في دروب الآبائية سيكيلون التهم ذاتها التي نعرفها كما يعرفونها، وسيقيمون الدنيا ويقعدونها، وسيتبعون أهواءهم لاحباً بالحقيقة وبالله ورسوله، بل حباً بامتيازاتهم ودفاعاً عن وجودهم. إنما سيأتي يوم يغدو فيه الجديد الذي نقوله مألوفاً ومتداولاً بين الناس طبقاً للقانون الإلهي الذي يجزم بأن الزبد يذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس هو الذي يبقى، وسيرى الذين ظلموا أي منقلب سينقلبون.

توكلت على الله.. فهو الهادي إلى سواء السبيل. وصدق من قال: لا صلاح لدنيا هذه الأمة إلا بصلاح دينها.

(15) من أراد تفصيل القول في الناسخ والمنسوخ فلينظر “دراسات إسلامية معاصرة / الدولة والمجتمع” ص 271-301

(16) يجب أن يفسر القرآن في كل زمان تفسيراً جديداً، يفسره الأديب ويفسره الحقوقي ويفسره الفلكي ويفسره عالم النفس وعالم الاجتماع والمؤرخ، كل واحد منهم يجد فيه مجالاً لعلمه واختصاصه، ودليلاً من اختصاصه وعلمه على أن القرآن كلام الله. (علي الطنطاوي / كتاب تعريف عام بدين الإسلام ص 183).

(17) كان من الطبيعي أن تتأثر اللغة وأن يتأثر اللغويون بالروح الذكورية السائدة عند عرب الجاهلية حيث نجد فعل وطأ محصوراً بفاعل واحد هو الرجل أما المرأة فهي موطوءة دائماً في مقام المفعول به. وأن يمتد هذا التأثير إلى يومنا الحاضر، فيزعم اللغويون أن خطاب الإناث بصيغة التذكير تكريم، وخطاب الذكر بصيغة الأنثى تحقير، وأفردوا باباً اسمه التغليب يوجب خطاب النساء بصيغة التذكير إن وجد بينهن رجل واحد، رغم منافاة ذلك كله للمساواة الإلهية في التنزيل الحكيم. فتأمل!

(18) يقول تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} الحج 15. والمعنى من كان يتوهم أن الله لن ينصر رسوله في الدنيا والآخرة فليمدد جبلاً أو سلماً أو آية واسطة أخرى إلى السماء ثم ليختنق فينظر هل يفيده ما يفعل ويذهب غيظه (أنظر التفسير الكبير للرازي ج 23 ص16).

(19) أنظر التفسير الكبير للرازي ج23 ص186.

(20) من المعروف المشهور أن عبد الله ارتد عن الإسلام أيام النبي (ص) فأباح النبي دمه يوم الفتح ثم تاب وعاد.

(21) يقول الإمام أبو حامد الغزالي: وكل شريعة لا تظهر إلا بلغة، فيصير تعلم تلك اللغة آلة لعلم كتاب الله وسنة نبيه، ومن الآلات علم الكتابة والخط، إلا أن ذلك ليس ضرورياً إذ كان الرسول (ص) أمياً. (إحياء علوم الدين ج1 ص17).

(1) تعليقات
  1. دكتور محمد انا لا اعتقد ببتر الايدي والارجل من خلاف بقوله تعالي ان يقتلوا او يصلبوا او تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف. فماهو تعليقك. اذا فهمنا ان القطع غير البتر والفصل


    الأخ رياض
    هذه الآية فيها سرد تاريخي للعقوبة، حيث نقرأ من التاريخ أن السيد المسيح صلب بين لصين، أي أن اللص كان يتم صلبه، أي أن هذه العقوبات كانت موجودة في حينها، لكن الآية من تفصيل المحكم وخاضعة للاجتهاد الإنساني، واليوم عقوبة السطو المسلح أو تهديد الناس بالسلاح أو الخطف، كلها عقوبات شديدة، حدها الأعلى قد يصل إلى الإعدام.

اترك تعليقاً