الفصل الثالث: الجهاد والقتال | الجهاد

1 – الجهاد

يعتبر البحث في هذا الموضوع من أخطر البحوث في الثقافة الإسلامية وأشدها حساسية وتعقيداً وتفريعاً، وبخاصة في ضوء ما نعيشه اليوم من أحداث، يختلط فيها السياسي بالعقائدي والتوسعي بالاستعماري والإبداعي بالإبتداعي، ويتم فيه عن قصد طمس الفرق بين الجهاد والقتال والقتل، وبين التخريب ومقاومة الاحتلال الداخلي المتمثل بالدولة الأمنية المخابراتية المستبدة، والنموذج الهتلري واللينيني خير ممثل لهذه الدولة حيث انتهى الاستبداد الفرد بالمفهوم المعاصر والفرد بعبادة الإله بالمفهوم التاريخي، والاحتلال الخارجي المتمثل بالغزو.

لقد سبقنا العشرات إلى تأليف كتب خاصة به، أو بحث الجهاد وتخصيص فصول من كتب لبحثه إلى جانب البحث في أمور أخرى، لا بل إن الباحث لا يكاد يجد كتاباً في الفقه الإسلامي – منذ نشأته في القرن الثاني الهجري وحتى اليوم – إلا وفيه ذكر للجهاد، سواءاً جاء هذا الذكر مطولاً أم مختصراً، مفصلاً أم موجزاً. إلا أنها جميعاً خلطت بين الجهاد والقتال والقتل والحرب والغزو – حيناً بسبب الجهل وحيناً بسبب التقليد الأعمى وأحياناً إرضاءً لسلاطين الاستبداد وخدمة للسياسة الإقصائية والتي غدت من سمات الفقه السياسي الإسلامي منذ السقيفة، واستحدثت جملة من علوم فرعية، كالناسخ والمنسوخ وأسباب النزول والقراءات، زعموا أنها أهم من الأبجدية عند قارئ التنزيل الحكيم، وانطلقت من القول بالترادف فوقع أصحابها في التباس كبير ضاع معه الفرق بين الشاهد والشهيد والشاهدين والشهداء، والأب والوالد، والعباد والعبيد، والإسراف والتبذير.

في الجانب الأول، تم تبني هذا الفهم المغلوط والمشوه للجهاد من قبل جميع التنظيمات والأحزاب الدينية والمجموعات المسلحة، التي تسعى تحت عناوين متعددة وبراقة إلى الاستيلاء على الحكم حصراً، في مختلف الأزمنة والعصور الماضية، بدءاً من أصحاب الفتنة الكبرى التي انتهت باغتيال الخليفة الثالث في القرن الأول الهجري، وانتهاء بالحركات المسلحة في مصر وإيران وأفغانستان التي انتهت بمصر إلى خلع الملك فاروق، وبإيران إلى خلع الشاه رضا بهلوي، وبأفغانستان إلى قيام حكم يقوده طلاب الفقه (طالبان) في القرن الرابع عشر الهجري، مروراً بين هذين القرنين بعشرات التنظيمات التي نجحت مرة وإلى حين في الاستيلاء على الحكم وأخفقت مرات، كالزبيرية والحرورية والقرامطة والأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية.

في الجانب الثاني، استغل أصحاب الهجمات الشرسة على الإسلام والمسلمين هذا الفهم المغلوط والمشوه للجهاد والقتال الذي ساد في كتب الفقه التراثية واستندت إليه جميع عمليات الغزو التوسعية تحت ستار نشر الدعوة، في التشهير بالدين الإسلامي واتهامه بأنه دين السيف والعنف والإرهاب ودين القهر والتسلط والانتقام، وقد ساعدها على هذا الاستغلال طروحات الإسلام السياسي وسلوكيات ما يسمى بالحركات الجهادية، حيث قدموا لها أطروحات العداء على طبق من ذهب.

إن هدفنا الأول في هذا البحث هو تعريف الجهاد وتعريف القتال بشكل عام، وتحديد الجهاد في سبيل الله والقتال في سبيل الله بشكل خاص، وتعيين الفعل الذي إن قمنا به كان جهاداً في سبيل الله سواء ترافق معه عنف أم لم يترافق، وهل كل قتال في سبيل الله جهاد، وكل جهاد في سبيل الله قتال.

وهدفنا الثاني إزالة الالتباس الكبير الراسخ في الفكر العربي الإسلامي في مفهوم الشهادة والشهيد، والناسخ والمنسوخ، والقصص القرآني، وأحكام الرسالة.

الجهاد مصدر الفعل الرباعي (جاهد)، على وزن (فاعَلَ) كالجدال والقتال والخصام. والجهاد فعل إنساني واع لا يقوم إلا بطرفين، ويكون الطرف فيه فرداً أو يكون جماعة، حيث يبذل كل طرف وسعه في مغالبة صاحبه. ولقد وهم بعض أصحاب المعاجم – وتابعهم في ذلك العديد من أنصاف المثقفين – فظنوا أن ألِفَ المشاركة في الجهاد زائدة وأن الأصل في الجهاد ثلاثي هو الجهد، وراحوا في معاجمهم يعرّفون الجهد تحت عنوان الجهاد، وهذا خلط فاحش، لأن الألف أصلية في الفعل الرباعي، وإسقاطها يحول الجهاد إلى جهد والجدال إلى جدل والقتال إلى قتل.

إننا لم نجد أبلغ من تعريف النبي (ص) للجهاد، في حديث رواه صاحب كنز العمال – إن صح – أنه قال لأصحابه: قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه (أنظر كنز العمال ج4 ص 116 الحديث رقم 17799).

وإذا كنا نعجب من تحول الجهاد إلى جهد عند أهل اللغة وأصحاب المعاجم، فقد ذهب الفقهاء إلى أبعد من ذلك حين تحول الجهاد عندهم – اصطلاحاً – إلى قتال في سبيل الله. يقول القسطلاني في شرح صحيح البخاري (ج5 ص 30): الجهاد في الإصطلاح يعني قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله. أهـ. ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه {ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم} أهـ (انظر نهج البلاغة، الخطبة 27). ويقول ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية (ج2 ص 5) والإمام الشافعي في كتاب الأم (ج4 ص 168): الجهاد فريضة يجب القيام به سواء أحصل من الكفار اعتداء أم لم يحصل. أهـ. وهذا تحول عجيب كأن أصحابه لم يقرؤوا قوله تعالى: {وَوَصّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} العنكبوت 8، وقوله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدّنْيَا مَعْرُوفًا} لقمان 15. فالحديث في الآيتين يدور حول بر الوالدين وطاعتهما، ويستحيل عند العقلاء أن يكون جهاد الوالدين قتالاً(1).

لكن الأعجب من هذا وذاك أن الفقهاء وأصحاب التراث لم يكتفوا بتحويل الجهاد إلى قتال، بل حولوا الجهاد إلى غزو والقتال إلى قتل. يقول الإمام الشوكاني في كتاب السبل الجرار (ج4 ص 518، 519): وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، لحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية أو القتل، فهو معلوم من الضرورة الدينية، وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم وفي تركهم إذا تركوا المقاتلة فذلك منسوخ باتفاق المسلمين، بما ورد من إيجاب مقاتلتهم على كل حال، وقصدهم في ديارهم، في حال القدرة عليهم والتمكن من حربهم. أهـ.

والمتأمل في الفقرة السابقة لا يحتاج إلى جهد كبير، ولا إلى عبقرية خاصة، ليفهم أن القول بالنسخ هو الوسيلة المغلوطة المشوهة الأهم لترسيخ المعاني الإصطلاحية الفقهية الجديدة للجهاد والقتال، بعيداً عن معناهما الأصلي في التنزيل الحكيم، وعن التعريف النبوي للجهاد كما ورد في كنز العمال وسبقت الإشارة إليه.

لقد تم توظيف واستعمال موضوع الناسخ والمنسوخ عند الفقهاء بشكل أساسي لأمرين اثنين:

آ – إزالة تناقضات ظاهرة توهم المفسرون والفقهاء وجودها بين آيات الأحكام، مثالها قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران 102 وقوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم} التغابن 16. والتناقض واقع في الظاهر بين حكمين، الأول في عبارة {اتقوا الله حق تقاته} من آية آل عمران 102، والثاني في عبارة {فاتقوا الله ما استطعتم} من آية التغابن 16، ولحل هذا التناقض زعموا أن آية آل عمران منسوخة بآية التغابن. يقول الإمام الرازي في تفسيره الكبير (ج8 ص 141} لآية آل عمران 102: “قال بعضهم هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس (رض) أنه قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين، لأن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وان يذكر فلا ينسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك. فأنزل الله تعالى بعدها {فاتقوا الله ما استطعتم} لتنسخ أول آية آل عمران وتترك آخرها وهو قوله {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أهـ (2).

ب – رفع التناقض الظاهري بين آيات القتال في سورتي التوبة والأنفال وغيرهما وبين قوله تعالى {لاإكراه في الدين} البقرة 256، وقوله تعالى {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيكفر} الكهف 28، وقوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} النحل 125.

والتناقض واقع عندهم بين آية البقرة 256 وبين قوله تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم} التوبة 73، بعد أن اعتبروا الجهاد قتالاً. وواقع عندهم بين آية الكهف 28 وبين قوله تعالى {قَاتِلُوا الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنْ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة 29، بعد أن اعتبروا القتال قتلاً. وواقع عندهم بين آية النحل 125 وبين قوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ} التوبة 5، وتلك هي آية السيف كما يسميها علماؤنا الأفاضل، التي أشار إليها الشيخ محمد الغزالي في كتابه “كيف نتعامل مع القرآن” ص 82، 83 في فقرة ننقلها بحرفيتها:

“والزعم بأن 120 آية من آيات التنزيل الحكيم نسخت بآية السيف حماقة غريبة دلت على أن الجماهير المسلمة في أيام التخلف العقلي والعلمي من حضارتنا جهلوا القرآن، ونسوا بهذا الجهل كيف يدعون إلى الله. ولعل من أسباب فشل الدعوة الإسلامية في أداء رسالتها الظن بأن السيف هو الذي يؤدي واجب التبليغ وهذا باطل باتفاق العقلاء.

والقول بالنسخ، والحكم بتحنيط بعض الآيات، قول باطل، فليس في القرآن أبداً آية يمكن أن يقال أنها عطلت عن العمل وحكم عليها بالموت. كل آية يمكن أن تعمل، لكن الحكيم هو الذي يعرف الظروف والمجالات التي تعمل فيها” أهـ.

لاريب في أن النسخ، بمعنييه: الإبطال والتعديل، موجود ذكره في التنزيل الحكيم في قوله تعالى {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} البقرة 106، وقوله تعالى {وَإِذَا بَدّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُوا إِنّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} النحل 101، ولكنه نسخ بين الشرائع والرسالات وليس بين آيات الرسالة الواحدة بدلالة السياق في آية البقرة 106، حيث الإشارة إلى هذا المعنى واضحة في قوله تعالى {مَا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبّكُمْ} البقرة 105، وبدلالة السياق في آية النحل 101 حيث الإشارة واضحة أيضاً في قوله تعالى {قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبّكَ بِالْحَقّ لِيُثَبّتَ الّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل 102، وبدلالة قوله تعالى {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} المائدة 15. أما ما زعمه أصحاب كتب الناسخ والمنسوخ وعلى رأسهم: هبة الله بن سلامة، وأبو جعفر النحاس، وجلال الدين السيوطي، من أن قوله تعالى {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} الأعراف 199 نسخ ثلثه الأول بآية الزكاة، ونسخ ثلثه الثالث بآية السيف، وبقي ثلثه الثاني. وما زعموه من أن عبد الله بن مسعود قال: أقرأني رسول الله (ص) آية فحفظتها وكتبتها في مصحفي، فلما كان الليل عدت إلى مضجعي فلم أرجع منها بشيء (أي لم يتذكر شيئاً مما حفظ) وغدوت على مصحفي فإذا الورقة بيضاء، فأخبرت النبي (ص) فقال لي: يا ابن مسعود تلك رفعت البارحة – وهذا المثال على قوله تعالى: {أو ننسها} الإنساء – (أنظر كتاب الناسخ والمنسوخ للإمام المحقق أبي القاسم هبة الله بن سلامة ص 5) فهذا هراء لا وزن له عندنا، لأن النسخ لا يكون إلا بين رسالات سماوية يفصل بينها قرون ولا يكون في آيات رسالة واحدة يفصل بينها ساعات. والإنساء هو لرسالات سابقة لم يذكرها رب العالمين وإنما نوه لها بقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ} غافر 78، والإنساء ورد في قوله تعالى {ومنهم من لم نقصص} أي دخلوا دائرة النسيان.

سيقول قائلهم: إن صح ما تقول، فيجب أن نرى في التنزيل الحكيم:

  1. أحكاماً من رسالات سابقة يوجد في التنزيل الحكيم ما هو خير منها وهذا معنى عبارة {نأت بخير منها}..
  2. وأحكاماً من رسالات سابقة يوجد في التنزيل الحكيم ما يماثلها وهذا معنى عبارة {أو بمثلها}.

والجواب: نعم، إننا نجد كل ذلك موضحاً في التنزيل الحكيم بعشرات الأمثلة، نختار منها النموذجين التاليين عن المجموعة الثانية:

آ – يأتي التوحيد على رأس الأحكام في جميع الرسالات السماوية بدءاً من نوح (ع) وانتهاء بمحمد (ص)، كنموذج من نماذج المجموعة الثانية، ففي التنزيل الحكيم عبارة هي {يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره} تتكرر بصورة طبق الأصل في القصص القرآني على لسان جميع الأنبياء والرسل.

ب – يقول تعالى في جانب واصفاً التوراة {وإذ آتينا موسى وهارون والفرقان وضياء وذكرى للمتقين} الأنبياء 48، ثم يقول في جانب آخر واصفاً التنزيل الحكيم {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} البقرة 185، والتماثل بين الرسالتين نراه واضحاً في نقطتين: الأولى أن كلتيهما هدى ونور للمتقين، والثانية أن ثمة فرقاناً واحداً نزل مع الرسالتين هو الوصايا العشر عند موسى وآيات الأنعام 151، 152، 153 عند محمد (ص).

أما نماذج المجموعة الأولى فهي:

آ – “إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان” (العهد القديم، سفر التشريع، الآية 22) {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة} النور 2. هذان حكمان مختلفان في موضوع واحد هو الزنا. الأول في التوراة والثاني في التنزيل الحكيم، نسخ الله تعالى الرجم في الأول وأتى بالجلد في الثاني، والثاني خير من الأول.

من المفيد هنا أن نقف عند عبارة مشهورة في أناجيل النصارى للسيد المسيح (ع) حول مسألة الرجم يقول فيها “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”. فرغم هذا الغلو في التسامح والغفران إلا أن المسيح (ع) لم يخرج بعبارته مطلقاً عن دوره التشريعي الذي وصفه تعالى بقوله {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} آل عمران 50. والذي لا يختلف أبداً عن الدور التشريعي لمحمد (ص) كما وصفه تعالى بقوله {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} الأعراف 157.

الطريف أن علماءنا الأفاضل اليوم تركوا كتاب ربهم الذي لا يأتيه الريب من بين يديه ولا من خلفه إلى كتب أخبار وأحاديث آحاد، وزعموا أن الرجم هو عقوبة الزنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ب – {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} المائدة 45. هذا حكم توراتي بدلالة قوله تعالى قبلها {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} المائدة 44. وكان قبل ذلك حكماً بابلياً نصت عليه شريعة حمورابي في المواد 196، 197، 200، 229، 230. ثم جاءت الشريعة المحمدية بخير منه، وذلك في قوله تعالى {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} الإسراء 33. هنا بقي تحريم قتل النفس البشرية كما كان عند موسى، إلا أنه أضاف عبارة {إلا بالحق} ليتوسع بذلك مفهوم قتل النفس ليشمل الحيوان والنبات، فكلاهما نفس. فقتل الحيوان للانتفاع بلحمه وجلده وشعره هو قتل بحق أما غير ذلك فلا، وقتل الأشجار للانتفاع بأخشابها هو قتل بحق أما غير ذلك فلا.

ج – ولقد فرق كتاب موسى، تماماً كما فرقت الرسالة المحمدية، بين القتل العمد والقتل الخطأ. أما القتل العمد فعقوبته واحدة في الرسالتين، وأما القتل الخطأ فكانت عقوبته تصل في كتاب موسى إلى النفي لإحدى ثلاث مدن بعينها، بينما مالت الرسالة المحمدية إلى التخفيف فخفضت العقوبة إلى صيام شهرين متتاليين كحد أدنى وذلك في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصّدّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} النساء 92.

فإن سألني سائل كيف نفهم قوله تعالى {لاإكراه في الدين} وقوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} مع آيات أخرى من سورة التوبة والأنفال وسور أخرى؟ أقول: إن آية {لاإكراه في الدين} هي من آيات الرسالة المحمدية، أما آيات القتال فهي من القصص المحمدي تدخل في الأنباء، لا في الأحكام، وتؤخذ منها العبر فقط، ولا تؤخذ منها أحكام شرعية، تماماً كما في آيات قصص موسى وعيسى ويوسف وبقية الرسل والأنبياء. فآيات القصص كانت أخباراً بالنسبة لأصحابها، فأصبحت أنباء بالنسبة لمن بعدهم وهي تدخل في النبوة، وهي أحداث حصلت لا خيار لنا فيها. أما آيات الأحكام كالإرث ولا إكراه في الدين، فلنا الخيار فيها إلى يومنا هذا.

ننتقل الآن إلى مسألة أخرى جرى فهمها بشكل مغلوط ومشوه هي مسالة الشهادة والشهيد.

الشين والهاء والدال (ش هـ د) أصل صحيح في اللسان ومفردة قرآنية وردت مشتقاتها في 160 موضعاً من التنزيل الحكيم، أولها في قوله تعالى {وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين} البقرة 23، وآخرها في قوله تعالى {والله على كل شيء شهيد} البروج 9. والشهيد من أسماء الله الحسنى، أي الحاضر القيوم في كل زمان ومكان يسمع ويبصر ويعلم بدلالة قوله تعالى {وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} الحديد 4، وقوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} ق 16، ولا عجب في ذلك إذ لا يمكن – عقلاً – أن يكون الله سميعاً بصيراً إلا إذا كان حاضراً شهيداً. والشهيد والشاهد اسم فاعل مفرد لفعل (شهد)، مثناه شهيدان للشهيد وشاهدان للشاهد، وجمعه شهداء للشهيد وشاهدين للشاهد وشهود للشهيد والشاهد. والفرق بين الشهيد والشاهد هو أن شهادة الأول حضورية سمعية بصرية يشهد فيها بما رأى بأم عينه وسمع، أما الثاني فشهادته شهادة معرفة وخبرة يشهد فيها بصدق أو بكذب واقعة دون أن يكون حاضراً فيها يسمع ويبصر، مثالها في قوله تعالى بعد أن روى لنا خبر يوسف مع امرأة العزيز {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصّادِقِينَ} يوسف 26، 27. فالشاهد هنا لم يكن شهيداً حاضراً ما جرى، بل قامت شهادته على الأدلة من جهة وعلى الخبرة والدراية والأرضية المعرفية من جهة أخرى. ولم يكن من أقارب امرأة العزيز كما زعمت طائفة عظيمة من المفسرين – حسب قول الرازي في تفسيره الكبير ج 18 ص 99 – بل كان من أهل الحكمة والخبرة في أمثال هذه الوقائع.

نأتي الآن لننظر في نماذج من آيات التنزيل الحكيم ورد فيها أحد مشتقات الأصل (ش هـ د):

  1. {شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ} البقرة 185، تلك هي آية التكليف بالصيام التي تشمل كل من حضر الشهر ورأى هلاله بصراً أو سمعاً أو فلكياً، أي من شهد الشهر شهادة شاهد أو شهادة شهيد، لا يستثنى من ذلك إلا المريض والمسافر والقادر على الفدية.
  2. {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} المائدة 117. في هذه الآية ينفي المسيح بن مريم (ع) أن يكون هو الذي دعا الناس إلى عبادته وعبادة أمه، حسب منطوق الآية 116 السابقة، ويبين أن دعوته كانت لعبادة الله، وأنه راقب وأشرف على قيامهم بذلك طوال فترة حضوره بينهم حصراً، لكنه بعد غيابه ووفاته غير مسؤول عما فعلوه، وهذا معنى عبارة {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}.
  3. {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشّهَدَاءِ} البقرة 282. هذه الآية تتحدث عن صفقات البيع والشراء وتأمر بتوثيقها بعقود خطية يشهد على صحة ما فيها شهيدان حضرا واقعة البيع وسمعاها وأبصراها.
  4. {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} النساء 15. هذه الآية تبين أن ثبوت السحاق لا يتم إلا بشهادة أربعة رجال حضروا واقعة السحاق وسمعوها ورأوها بكل تفاصيلها.

ونفهم من تأمل هذه الآيات أن:

آ – الحضورية شرط أساسي ووحيد في تحديد وتعريف من هو الشهيد، فإن ثبت غياب الشهيد – زمانياً أو مكانياً – عن الواقعة التي تدور حولها شهادته لم يعد شهيداً.

ب – لا يمكن أن يكون الإنسان شهيداً لشيء ما إلا وهو على قيد الحياة. فالشهادة أياً كان نوعها تقف بالموت، والله حي باقٍ لذا فهو على كل شيء شهيد، وبالموت لا تحصل الشهادة بل تنقطع.

ج – وأن هذه الحضورية على قيد الحياة، المدعومة والقائمة على السمع والبصر، هي التي تجعل من شهادة الشهيد شهادة قطعية، ومن شهادة الشاهد شهادة ظنية مهما بلغت أدلته من القوة وخبرته من العمق.

د – وأن القتال والقتل لا علاقة لهما البتة بالشاهد ولا بالشهيد، إذ لا ذكر لهما – لا تصريحاً ولا تلميحاً – في جميع مواضع التنزيل الحكيم ال- 160.

هـ – وأن كل عقد بيع يحمل شهادة شاهدين، ولا يحمل شهادة شهيدين حضرا واقعة البيع وسمعاها وأبصراها، باطل بالضرورة لمخالفته نص آية البقرة 282.

و – وأن الشهادة الحضورية تشمل مجالات عديدة مختلفة، ذكرت الآيات بعضاً منها. وعندنا أن الصحفي الذي يحضر المعارك لتغطية وقائعها وأخبارها هو شهيد مادام حياً سواء قتل بعد ذلك أم لم يقتل، وسجين الرأي الذي رأى مناكير سلطات القمع في بلاده ودعا إلى تغييرها وأعلن شهادة الحق في وجه ظالميه، فأودع في السجن مع القتلة والخونة واللصوص هو شهيد سواء مات في هذا السبيل أم لم يمت، ولا مبرر إطلاقاً لأن نمسخ هذا المفهوم الرحب للشهادة والشهيد بآفاقه المتعددة ونحصره فقط وفقط بالقتلى في المعارك والغزوات، كما فعل فقهاء سلاطين الاحتلال الداخلي والخارجي وعلماء بلاطات وقصور أمراء الإستبداد في العهد الأموي والعباسي والمملوكي والعثماني، وكما يفعل علماؤنا الأفاضل اليوم تقليداً معصوب العينين لأجدادهم بالأمس، وتكريساً لأهداف سلطوية وسياسية سنعرض لها بالتفصيل في الصفحات التالية ونحن نتحدث عن القتال عموماً، وعن القتال في سبيل الله خصوصاً.

هذه الحضورية التي فهمها عيسى المسيح بكل دقة في قوله لربه بآية المائدة 117: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، وهذه التعددية في آفاق الشهادة والشهيد، فهمها النبي (ص) بكل دقة أيضاً وأفهمها لصحابته.

نقول هذا وأمامنا 139 حديثاً نبوياً رواها أصحاب الصحيح وأهل السنن والموطآت والمسانيد، أو لعلها 139 رواية لحديث واحد، يعدد النبي (ص) فيها أكثر من إثني عشر تعريفاً للشهيد اخترنا منها التالي:

  1. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (ص) ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال: إن شهداء أمتي إذن لقليل. قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد.
  2. وروى أبو داود في سننه عن سعيد بن زيد عن النبي (ص) قال: من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد (هذه الرواية أوردها النسائي في المجتبى وزاد فيها (ومن قتل دون دمه فهو شهيد).
  3. وروى النسائي في سننه عن عقبة بن عامر أن رسول الله (ص) قال: خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد: المقتول في سبيل الله، والغرق في سبيل الله، والمبطون في سبيل الله، والمطعون في سبيل الله، والنفساء في سبيل الله.
  4. وروى عن أبي جعفر قال: قال رسول الله (ص): من قتل دون مظلمته فهو شهيد.
  5. وروى أبو داود عن أبي مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد، ومن وقصه فرسه أو بعيره، أو لدغته هامة، أو مات على فراشه بأي حتف شاءه الله فإنه شهيد وله الجنة.

ثمة أمور تستوقف المتأمل في هذه الأحاديث النبوية – أو الروايات – إن صحت – أولها هذا التنوع المدهش عند النبي (ص) في رؤيته للشهادة ومجالاتها، الذي يتفق تماماً مع الرواية القرآنية لها ماعدا أنه أضيف لها الموت أو القتل خلافاً تماماً لما ورد في التنزيل الحكيم. فكما جاء التنزيل الحكيم ليوضح عدداً من الحالات يكون الشهيد فيها شهيداً، رأيناها آنفاً في تأملنا لآيات: البقرة 185، والمائدة 117، والبقرة 282، والنساء 15، واستنتجنا منها على التوالي أن الشهيد هو كل من يرى هلال رمضان رؤية بصرية أو سمعية أو فلكية حسابية، ثم يعلن هذه الشهادة الحضورية بالصوم عملاً بالأمر الإلهي. وأن شهادة أن لا إله إلا الله هي شهادة شاهد، لأننا لم نتعرف على الله سبحانه بالسمع والبصر، وإنما بالخبر والتأمل والاستنتاج، لذا فالإيمان بالله واليوم الآخر هو مسلّمَة تقوم على التسليم وهو الإسلام، والإيمان بأن التنزيل موحى من الله، وأن محمداً (ص) نبي ورسول يقوم على التصديق وهو الإيمان. ولو كنا نتعرف على الله بشهادة شهيد لما كان للإيمان معنى، ويصبح الإله مجسماً، سبحانه وتعالى عما يصفون، لذا قال تعالى {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيرا} الأحزاب 45. وأن الشهيد هو كل من يحضر وقائع البيع والشراء في الأسواق، ثم يعلن هذه الشهادة الحضورية ويوثقها بالتوقيع على العقود المبرمة، وأن الشهيد هو كل من يحضر بالسمع والبصر واقعة فحش وزنا، ثم لا يأبى أن يعلن ما سمعه ورآه إن هو دعي إلى ذلك، لذا فإن واجب الشهداء هو قوله تعالى {ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا} البقرة 282.

كذلك يأتي الفهم النبوي لهذا التنوع في الشهادة والشهيد ليشمل الموتى والقتلى بدليل قوله: {ص) في الخبر رقم 5: فمات أو قتل، وقوله: أو مات على فراشه بأي حتف شاءه الله، وقوله في الخبر رقم 3: من قبض في شيء منهن.

ثانيها، أن النبي (ص) في الخبر رقم 1 يصحح لأصحابه تعريفهم للشهيد ويصوب لهم فهمهم ورؤيتهم لمسألة الشهادة، ويستنكر تضييقهم لهذا المفهوم الرحب الواسع وحصره بقتلى المعارك والغزوات، وهذا معنى قوله: {ص): إن شهداء أمتي إذن لقليل. ومع ذلك يصر علماؤنا الأفاضل اليوم على الأخذ بما أخطأ الأصحاب فيه رغم تعليق النبي (ص) عليه واستنكاره له.

ثالثها، أن النبي (ص) يقرر بمنتهى الوضوح أن الشهيد هو كل من:

1 – قتل في سبيل الله..

2 – ومن مات في سبيل الله ميتة طبيعية على فراشه…

آ – أو مات بالطاعون أو غيره…

ب – أو مات غرقاً…

ج – أو مات ملدوغاً أو معقوصاً أو موقوصاً..

3 – ومن قتل أو مات دون ماله.

4 – ومن قتل أو مات دون أهله..

5 – ومن قتل أو مات دون دينه…

6 – ومن قتل أو مات دون دمه..

7 – ومن قتل أو مات دون مظلمته.

8 – ومن قتل أو مات دون مرابطاً في حراسة الثغور.

9 – ومن مات في طلب العلم..

10 – ومن خرج في رزقه ورزق عياله فمات…

11 – ومن مات بأي مرض.

رابعها، أن النبي (ص) لم يغفل دور المرأة وموقعها وحصتها من التكريم الإلهي الذي خص به تعالى الشهداء حين وضعهم في مكان واحد ومرتبة واحدة مع الأنبياء والصديقين. ففي خبر عقبة بن عامر عند النسائي اعتبر النبي (ص) المقبوضة في نفاسها من الشهداء.

خامسها، أن للمرأة حصة النصف من كل ما عدده النبي (ص) في أحاديثه من صفات الشهيد. فالشهيد لفظ مفرد جمعه شهداء وأشهاد، يدخل فيه الذكر والأنثى، أي أنه اسم مذكر لا مؤنث له، فنقول : هذا شهيد وهذه شهيد. ومثله الزوج بدلالة قوله تعالى لآدم {اسكن أنت وزوجك الجنة} الأعراف 19. ومثله الأرمل.

قد يعجب متعجب من قولنا، وقد يستنكره عبيد التراث ومقدسوه، زاعمين أن ما ذهبنا إليه سيقود بالضرورة إلى دخول أفراد الأمة كلها – برجالها ونسائها – في قائمة الشهداء، إذ لا يخلو الرجل من علم يطلبه، ومن رزق يسعى إليه، ومن مظلمة تلحق به في دمه أو في ماله أو في أهله أو في دينه ومعتقده أو مرض يصيبه، ولا تخلو المرأة من مولود تلده، ومن حيض تحيضه، ومن علم تحصله، ومن رزق تلتمسه، ومن مظلمة تلحق بها. لهؤلاء المتعجبين والمستنكرين نقول: أولاً: إن ما قلناه وذهبنا إليه هو ما قاله تعالى في تنزيله الحكيم، وما ذهب إليه النبي (ص) في أحاديثه إن صحت ماعدا الموت لأن ربط هذه الأمور بالموت يتعارض عمودياً مع التنزيل الحكيم. ثانيا، يقول تعالى في آخر آية من سورة الحج {وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس} الحج 78(3)، والواو في كلمة {وتكونوا} تعني بلا ريب ولا خلاف أفراد الأمة المحمدية جميعاً رجالاً ونساء، وهذا غير قوله تعالى عن الأمم الأخرى {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} النساء 41، والشهيد يجب أن يكون حاضراً سميعاً بصيراً، ولا شهادة لغائب. وشهادة الأمة المحمدية اليوم غير موجودة لأنها غائبة عن الفعل الحضاري وعن صناعة التاريخ.

في ضوء هذا كله، نتوجه بالسؤال إلى علمائنا الأفاضل: هل القتيل في حادث سير أو في حادث غرق هو شهيد؟ فإن كان كذلك – كما يزعمون – من أنه واقف على باب الجنة ليشفع لأبويه وليفتح الباب لسبعين من عشيرته – فشهيد في سبيل ماذا؟ وعلى ماذا؟ وتحت أي عنوان مما ذكرنا؟ وإن كان شهيداً فهو شهيد حادث السير أو حادث الغرق ولا علاقة للجنة أو النار في ذلك، وهذه تدخل في قوله تعالى {نحن قدرنا بينكم الموت} الواقعة 60.

وهكذا حسب التعريف النبوي إن صح أن الشهداء هم كل الأحياء على الإطلاق، ولا يمكن أن يكونوا شهداء إلا وهم أحياء فمنهم شهيد المرض ومنهم شهيد الحرب. وفي هذه الحالة تصبح كل مقابر المسلمين وغير المسلمين هي مقابر الشهداء. فإن ذكر الموت مع الشهادة فهذا يعني أن الموت أو القتل أوقف هذه الشهادة. أما الشهداء المذكورون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهم من أدى شهادة علنية ودفع حياته ثمناً لها دون أن يؤذي أحداً وخاصة إن كان أعزلاً. وكما أن أبو بكر الصديق اكتسب هذا اللقب في حياته لا بوفاته وكذلك الشهداء فالذي أدى شهادة علنية ولو على عقد بيع وتسببت هذه الشهادة بقتله، فهو مع الأنبياء والصديقين، ولا علاقة للقتل والقتال في ذلك. فكل شهداء الرأي إذا ماتوا جراء هذه الشهادة أو بقوا أحياء وأصروا على هذه الشهادة حتى موتهم، فهم شهداء مع الأنبياء والصديقين. وليس كل من يموت أو يُقتل هو من دفع حياته ثمناً لأداء شهادة علنية تسببت في قتله أو وفاته فهؤلاء قليل، والشهيد مثلاً هو الصحفي الذي قتل في ارض المعركة لنقلها وحصراً هو الوحيد في المعركة الذي لا يحمل سلاحاً ولا يقاتل.

وفي ضوء هذا كله، نتوجه اليوم إلى علمائنا بأسئلة أكبر:

أولها، هل الذي يفجر نفسه بين المسالمين في الأسواق العامة وفي المناطق السكنية هو شهيد؟ والذين قتلوا جراء هذا التفجير بدون ذنب، هل هم شهداء؟ ثانيها، إن كان من يخرج في مظاهرة سلمية احتجاجاً على ظلم وقع أو على قمع حصل هو شهيد عند الله والناس، فهل الذين يتصدون لقمعه ومنعه بالقوة من أداء شهادته تحت عنوان حفظ الأمن وخلف ستار إقرار النظام من جيش وشرطة وقوات أمن هم شهداء؟ ثالثها، هل الخروج لحصار القرى الآمنة المسالمة وقتل أهلها بحجة نشر الإسلام والدعوة إليه هو جهاد وشهادة في سبيل الله؟ أم هو غزو وعدوان يبتغي عرض الحياة الدنيا لا علاقة له بجهاد ولا بشهادة؟ فقهاء السلاطين منذ العصر الأموي إلى اليوم يجيبون: نعم، والله ورسوله يقولان: لا، والأمة مشغولة بمفسدات الصيام ونواقض الوضوء، فلاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

إننا نفهم أن المدافع عن وطنه وأرضه وماله وأهله وعقيدته في وجه عدوان يقع على واحدة منها، هو دفاع مشروع سواء قتل أم لم يقتل، ونفهم أن الخارج للدعوة إلى دين الله – رجلاً كان أم امرأة – له الجنة سواء قتل أم لم يقتل شرط أن تكون دعوته هذه في سبيل الله. وأن الساعي في طلب العلم أو في رزقه ورزق عياله مأجور سواء قتل أم لم يقتل، شرط أن يكون سعيه هذا في سبيل الله، وأن المرأة في حيضها ونفاسها لها أجر سواء ماتت أثناء الحيض والنفاس أم لم تمت، وأن الرافض للظلم سواء وقع عليه أم على غيره، والمدافع عن حرية الاختيار في وجه القمع والإكراه، له الجنة قتل أم لم يقتل، شرط أن يكون رفضه ودفاعه في سبيل الله. وهذا كله لا علاقة له مطلقاً بالشهيد الحاضر السامع المبصر كما رأيناه في آيات التنزيل الحكيم، ولا بالشهداء الذين يقول فيهم تعالى:

  • {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} البقرة 23.
  • {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُدًا} الكهف 51.
  • {يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} المائدة 8.

والآيات كما هو واضح تماماً لا تشير من قريب ولا من بعيد إلى القتلى في المعارك، ولا إلى الاستشهاد في سبيل الله، كما يفهمه علماؤنا الأفاضل ويتغنون به على المنابر، الذي لا أصل له البتة في التنزيل الحكيم فالآيتان الوحيدتان اللتان ورد فيهما الأمر الإلهي بالاستشهاد هما:

  • {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} البقرة 282، وهذا في مجال البيع والشراء.
  • {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} النساء 15، وهذا في مجال إثبات الزنا.

ونسأل الآن منظمة مثل حماس أو القاعدة: هل إذا طلبنا منكم أن تدعوا شهداءكم تفهمون أننا نسأل أن تدعوا الشيخ أحمد ياسين والدكتور الرنتيسي، وأن تدعوا منفذي ما أطلقتم عليه غزوة نيويورك؟(4) وإن قلنا لكم أن تستشهدوا رجلين، تفهمون إرسال رجلين في عملية انتحارية والتي تسمونها استشهادية؟ ما هذا الافتراء على الله ورسوله؟؟؟

والسؤال الآن: ما معنى عبارة: “في سبيل الله”؟ ومتى ولماذا بدأ تحريف مفهوم الشهيد والشهادة والاستشهاد؟

الحرف (في) – كما يقول أهل اللسان وأصحاب المعاجم – من حروف الجر، أشهر معانيها:

1 – الظرفية المكانية أو الزمانية، سواء على وجه الحقيقة أم على وجه المجاز. ففي قوله تعالى {قل سيروا في الأرض} العنكبوت 20، دلالة الحرف فيه مكانية على وجه الحقيقة. أما في قوله تعالى {فأوجس في نفسه خيفة موسى} طه 67، فدلالته مكانية على وجه المجاز. وأما دلالته الزمانية فكما في قوله تعالى {في بضع سنين} الروم 4.

2 – السببية. كقول النبي (ص) – إن صح – : دخلت امرأة النار في هرة حبستها .. الحديث. أي بسبب هرة حبستها.

3 – المصاحبة بمعنى (مع). كقوله تعالى {قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم} الأعراف 38.

إلا أنها في كل الأحوال تدل على الداخل المستور والمضمون الخفي كقولنا: نظرت في الأمر، أي تأملت ما خفي منه.

وكلمة (السبيل) هي الطريق والمنهج، سواء أكانت طريق خير ومنهج فلاح أم غير ذلك فأما بالمعنى المباشر للطريق فكما في قوله تعالى {واتخذ سبيله في البحر عجبا} الكهف 63، وأما بمعنى الطريقة والمنهج فكما في قوله تعالى {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} النحل 125.

ومن هنا نجد في التنزيل الحكيم مواضع تتحدث عن سبيل الله، أي عن طريقه ومنهجه، ومواضع تتحدث عن سبيل الطاغوت، كما في قوله تعالى {الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} النساء 76.

ولقد وردت عبارة {في سبيل الله} سبعين مرة في التنزيل الحكيم، أولها في قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} البقرة 190، وآخرها في قوله تعالى {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} المزمل 20. واقترنت في هذه المواضع بالقتال حيناً، وبالانفاق حيناً آخر، وبالجهاد والهجرة تارة، وبالضرب في الأرض تارة أخرى، لكنها في جميع هذه المواضع لا تخرج عن معنى واحد هو: ضمن طريق الله ووفقاً لمنهجه. أما ما زعمه المفسرون والفقهاء – وما زال علماؤنا الأفاضل يأخذون بهذا الزعم تقليداً أعمى إلى اليوم – من أن معنى عبارة “في سبيل الله” هو: من أجل الله تقرباً وقرباناً، فليس عندنا بشيء، لتعارضه مع دلالات الألفاظ في اللسان من جانب، وطمسه للمقاصد الإلهية من جانب آخر. فالله – تبارك اسمه وجل ثناؤه – ليس بحاجة أصلاً لمن يقاتل من أجله.

فالإنفاق(5) لا يكون في سبيل الله إلا إذا جرى وفق ما رسمه الله له في منهجه الحنيف، بعيداً عن التبذير (في الحلال)، بريئاً من التقتير (تحريم الحلال)، سالماً من الإسراف (الوقوع في الحرام). فإن شابَهُ شيء من هذا كله تحول إلى إنفاق في سبيل الطاغوت. يقول تعالى:

  • {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ} البقرة 195.
  • {الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ} البقرة 262.
  • {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} محمد 38.

والمتأمل في آيات الإنفاق في سبيل الله لا يحتاج إلى إجازة في علم القراءات ولا إلى دكتوراه في علم الأديان المقارن ليفهم أن الإنفاق على طعام العيال وشرابهم إنفاق في سبيل الله، وأن الصدقات لمحتاجيها سالمة من المن والأذى إنفاق في سبيل الله، وأن بناء المدارس والمستوصفات إنفاق في سبيل الله. وليفهم – بالمقابل – أن إقامة المعسكرات السرية وتزويد المتدربين بالقنابل والمتفجرات لنسف المؤسسات العامة وتفجير الأسواق بمن فيها (وخاصة إن كانوا من المدنيين غير المقاتلين أي إن كانوا لا يبغون قتالاً) ليس إنفاقاً في سبيل الله.

والضرب هو السير السريع في السفر، سواء كان بقصد التجارة أم السياحة والنزهة أم لطلب العلم والمعرفة، أما قولهم: معنى “ضربتم في سبيل” أي غزوتم وسرتم إلى الجهاد (انظر تفسير الرازي ج11 ص 3) فليس عندنا بشيء بدلالة قوله تعالى {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا} النساء 94:

1 – في عبارة {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ} يشير تعالى إلى أن الضرب في سبيل الله حتمي واقع لاريب فيه بدلالة (إذا) كما في قوله تعالى {إذا الشمس كورت} التكوير 1، وهذا الحتم لا يمكن أن تدخل فيه حرب ولا قتال، لأن الأصل في الحياة هو السلم والسلام والحرب هي الطارئ العارض، ولأنها كذلك فوقوعها محتمل لكنه غير محتوم. (لقد فصلنا القول في الفرق بين (إذا) و(إن) في كتابنا الثالث “الإسلام والإيمان” فانظره هناك).

2 – اعتمد المفسرون لهذه الآية فيما ذهبوا إليه على قراءة بعينها هي {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} وفيها: السّلم (بفتح السين أو بكسرها) نقيض الحرب، وفيها : مؤمناً (بكسر الميم) نقيض كافراً أو مشركاً. وتركوا، ترسيخاً لآية السيف، قراءة أخرى هي (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً) وفيها: السلام بمعنى التحية، وفيها: مؤَمناً بمعنى آمناً ومسالماً.

3 – إن عبارة {تبتغون عرض الحياة الدنيا} تنسجم مع التجارة والسياحة وطلب العلم، فهذه كلها فيها منافع دنيوية يبتغيها الضارب في سبيل الله، لكنها لا تنسجم مطلقاً مع الدعوة إلى الهدى والإيمان لعدم وجود منفعة دنيوية فيها.

والضرب لا يكون في سبيل الله إلا إذا جاء ملتزماً طريق الله ومطبقاً منهجه. ولعل أبرز معالم هذا المنهج الإلهي وذلك الطريق الرباني هو قوله تعالى {..وقولوا للناس حسناً} البقرة 83، وقوله تعالى {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} النحل 125.

أما السعي في سبيل الله طلباً للرزق فنجده في قوله تعالى {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللّهِ} النساء 100. فالهجرة في الآية سعي في طلب الرزق وليست قتالاً لنشر الدعوة إلى الدين كما يزعم المفسرون والفقهاء بدلالة عبارة {يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}.

والسعي في طلب الرزق لا يكون في سبيل الله إلا إذا التزم الساعي بالمنهج الإلهي في سعيه. فإن كان تاجراً فلا احتكار ولا أرباح فاحشة، وإن كان بائعاً فلا خداع ولا تطفيف، وإن كان منتجاً فلا غش في المواصفات، وإن كان حرفياً نجاراً أو خياطاً فلا إخلاف في المواعيد ولا إهمال في الإتقان، فإن شابَ سعيه شيء من هذا كله لم يعد سعياً في سبيل الله.

قلنا إن فعل استشهد ورد مرتين في التنزيل الحكيم، الأولى في آية البقرة 282 والثانية في آية النساء 15. والاستشهاد في الآيتين يعني طلب الشهادة الحضورية المؤيدة بالسمع والبصر. والسؤال الآن: متى تم تحريف هذه المعنى؟ ومتى بدأ الاستشهاد يعني الموت في ارض المعركة؟

لقد رأينا كيف قسّم النبي (ص) الجهاد إلى جهادين، في رواية صاحب كنز العمال، جهاد أصغر هو القتال، وجهاد أكبر هو جهاد النفس ومغالبة الهوى. ورأينا كيف جرى طمس الجهاد الأكبر عند السادة الفقهاء حين وضعوا للجهاد معنى اصطلاحياً انتهوا معه إلى القول: الجهاد في الاصطلاح يعني: قتال الكفار لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله (انظر شرح القسطلاني لصحيح البخاري ج 5 ص 30) وإلى القول: إنما الجهاد هو القتال في سبيل الله. الذي نجده مكرراً ومكرساً في جميع مؤلفاتهم تحت عنوان: الدعوة إلى الإسلام واجبة بالجهاد الابتدائي. فكانت النتيجة أن تحول الجهاد إلى غزو والقتال إلى قتل بعد ولادة جهاد جديد هو الجهاد الابتدائي وهو يعني أن يبدأ المسلمون بالقتال وهذا ما فعله تنظيم القاعدة في ما يسميها غزوة نيويورك، إذ مارس الجهاد الابتدائي حيث بدأ بالهجوم على اليهود والنصارى حسب ما يزعم. وأصبح الجهاد عنده غزواً.

إنه من العجيب أن يسمي أصحاب التراث حروب الرسول بأنها غزوات، مع أنها كانت كلها دفاعية، حتى غزوة تبوك. والغزو دائماً له معنى سلبي، ولا يحمل أي معنى إيجابي. فنقول إن هتلر غزا أوربا ولا نقول حارب. ونقول فرنسا قاومت الغزو الهتلري، ونفهم لماذا سميت غزوات لأن القبائل العربية في الجاهلية كانت تغزو بعضها بعضاً، فارتبطت الحرب أو العنف عندهم بالغزو.

وإذا كان المتأمل لا يجد أية صعوبة في رؤية الأسباب النفعية المادية خلف ذلك التحول، وفي فهم الدوافع السلطوية القمعية وراءه، فهو لن يجد أيضاً أية صعوبة في رؤية وفهم هذه الدوافع وتلك الأسباب الكامنة خلف سلخ معاني الشهادة والشهيد والاستشهاد عن عمومها في التنزيل الحكيم، وتوظيفها في أهداف سنشرحها لاحقاً من خلال الزعم بأن الشهداء هم العسكر حصراً وبأن الشهيد هو من يسقط قتيلاً في ارض المعركة تحديداً، رغم أن الشهيد حسب معناه القرآني لا يبقى شهيداً لحظة موته أو مقتله، وهذا ما أشار إليه عيسى المسيح (ع) بكل وضوح في حواره مع ربه سبحانه في آية المائدة 117، وما قصده النبي (ص) وهو يعدد أصناف الشهداء والمجالات التي تتجلى فيها شهاداتهم. فطالب الرزق وطالب العلم وطالب العدل والمطالب بحرية الرأي والعقيدة كلهم شهداء ما داموا أحياء يجاهدون، أما من قتل أو مات ثمناً لأداء شهادة علنية حتى ولو على عقد بيع ودون أن يتأذى أحد، فينطبق عليهم قوله تعالى {أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} النساء 69، وكالطبيب الهولندي الذي دفع حياته ثمناً لأداء شهادته ووصف مرض الكوليرا سريرياً كطبيب. أما القول بأن الشهيد لا يصير شهيداً إلا إذا قتل في أرض المعركة وبأن جسده لا يبلى إلى يوم القيامة وبأنه يشفع في سبعين من عصاة قومه فيدخلهم الجنة فهذا هراء قال به الفقهاء، وإننا نبرأ إلى الله ورسوله (ص) من هذا القول.

لقد اخترنا فقرتين من كتب التراجم والأخبار فيهما ما يلقي بعض الضوء على ما نحن فيه، ويساعد على تلمس جواب لسؤال طرحناه: متى ولماذا بدأ الاستشهاد يأخذ معنى السقوط في أرض المعركة.

1 – كتب الأشتر إلى عثمان بن عفان يقول: “من مالك بن الحارث إلى الخليفة الخاطئ المبتلى الحائد عن سنة نبيه النابذ لحكم القرآن وراء ظهره.

أما بعد، فقد قرأنا كتابك. فانهَ نفسك وعمالك عن الظلم والعدوان وتسيير الصالحين نسمح لك بطاعتنا. وزعمت أننا قد ظلمنا أنفسنا وذلك ظنك الذي أرداك فأراك الجور عدلاً والباطل حقاً. وأما محبتنا فأن تنزع وتتوب وتستغفر الله من تجنيك على خيارنا وتسييرك صلحائنا وإخراجك إيانا من ديارنا وتوليتك الأحداث علينا وأن تولي مصرنا عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري وحذيفة فقد رضيناهما، واحبس عنا سعيدك ووليدك ومن يدعوك إليه الهوى من أهل بيتك إن شاء الله والسلام. (أنظر أنساب الأشراف للبلاذري ص 46″).

2 – فأرسل عثمان بن عفان إلى معاوية بن أبي سفيان وإلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح وإلى سعيد بن العاص وإلى عبد الله بن عامر(6)، فجمعهم ليشاورهم في أمر ما طُلب إليه وما بلغه عنهم. فلما اجتمعوا عنده قال لهم: إن لكل امرئ نصحاء، وأنتم نصحائي وأهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم، وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فأشيروا علي.

آ – فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تقطع عنهم أعطياتهم فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه، وما هو فيه من دبرة دابته وقمل فروه، وأن ترمي بهم على الثغور وتحجرهم في المغازي حتى يذلوا لك.

ب – ثم أقبل عثمان بن سعيد بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت ترى رأينا فاحسم عنك الداء واقطع عنك ما تخاف واعمل برأيي تصب. قال: وما هو؟ قال: إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا فلا يجتمع لهم أمر.

ج – ثم أقبل على معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم، وأنا ضامن لك ما قبلي.

د – ثم أقبل عبد الله بن سعد فقال: ما رأيك؟ قال: الناس يا أمير المؤمنين أهل طمع، فأعطهم تعطف عليك قلوبهم. أهـ. (انظر تاريخ الرسل والملوك للطبري ج4 ص333).

في الفقرة الأولى نحن أمام فارس مقاتل كان من أسياد قومه ومن مشاهير شيعة علي، هو مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي المعروف بالأشتر، ذكره العسقلاني ضمن من ذكرهم في كتاب الإصابة وقال: له إدراك، بينما اعتبره ابن سعد وابن حبان من التابعين. شهد اليرموك وحضر خطبة عمر بن الخطاب في الجابية، ثم صحب الإمام علي وقاتل معه في الجمل وصفين وله في فتوح الشام مشاهد وآثار (انظر الإصابة في تمييز الصحابة للعسقلاني ج4 ص 482).

وفي الفقرة الأولى نحن أمام نموذج رائع مذهل من نماذج البلاغة في الإيجاز، لا تزيد سطوره عن العشرة ولا تتجاوز ألفاظه المئة، ومع ذلك استطاع الكاتب أن يجمع فيها بين البساطة والدقة والعمق والوضوح وهو يلخص مآخذ المعارضين لعثمان بن عفان في آخر سنتين من حكمه ومطالبهم منه ومواقفهم تجاهه. فيعدد في رسالته تلك المآخذ التي جعلت – في رأيه – من الخليفة خاطئاً نابذاً لحكم القرآن حائداً عن السنة، فأصبح:

  1. ظالماً ومعتدياً..
  2. لا ينهى نفسه ولا عماله عن الظلم والعدوان..
  3. يتجنى على الأخيار..
  4. يسّير الصلحاء والصالحين..
  5. يخرجهم من ديارهم..
  6. يولّي عليهم الأحداث…
  7. يتبع دعوة هواه في تعيين الولاة من أهل بيته واقاربه وأنصاره.

الرسالة – في رأينا – أولاً: مرآة لموقف شيعة علي الذين يعتبرون عثمان أساساً ثالث غاصب لحقّ إمامهم في الخلافة، وهذا أهم عدوان ارتكبه عثمان. وهي ثانياً إعلان بالعصيان يرفعه الأشتر باسم أهل الكوفة إن لم يتراجع الظالم المعتدي عن ظلمه وعدوانه ويعيد الحق المغتصب لصاحبه. وهي ثالثاً حكم بالقتل بتهمة نبذ حكم القرآن وترك السنة، له سابقة في حروب الردة التي جرى فيها قتل المرتدين بتهمة ترك السنة.

لقد استجاب عثمان لمطالب الأشتر باسم أهل الكوفة في رسالته فولّى أبا موسى عبد الله بن قيس الأشعري على صلاة الكوفة وحربها، وحذيفة بن اليمان على خراجها وعزل الوليد بن عقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص المذكورين في الرسالة. لكن ذلك لم يشفع له عند الأشتر وأصحابه، فالحيثية الأهم لحكم القتل كانت التنازل عن الخلافة وهذا مالم يستجب له عثمان.

الطريف أن التهمة رقم 7 ليست تهمة في الحقيقة بل هي من طبائع الأمور، من ذاك الوقت إلى يومنا هذا. لأن مفهوم الأسرة والعشيرة والقبيلة ثم أضيفت إليها الطائفة أقوى من مفهوم الوطن والمواطنة. وإلا فماذا نقول في تولية الإمام علي لعبد الله بن عباس على البصرة؟ وفي توليته للأشتر على مصر؟ بعد أن أصبح خليفة للمسلمين.

إننا لا يهمنا هنا على الأقل أن نؤيد مع الخصوم المتشددين، ولا أن نستنكر مع الموالين المتعصبين، ولا أن نتجاهل مع المعتدلين المحايدين وما حدث وحصل، كما فعل صاحب كتاب “العواصم من القواصم” وغيره. ولا يهمنا هنا على الأقل أن نحاكم هؤلاء وهؤلاء وأولئك، في جريمة قتل سياسية ما زلنا نعيش عقابيلها في يومنا هذا. ما يهمنا – كما سبق أن قلنا – هو أن نرصد متى ولماذا تحول معنى الاستشهاد والشهادة والشهيد من إطاره اللغوي العام إلى إطار اصطلاحي خاص، ليدل حصراً على السقوط في أرض المعركة. لهذه الغاية نعود لننظر في التهمتين 4 و5 الموجهتين لعثمان وعماله في رسالة الأشتر.

أما التسيير فكان يتم على صورتين. الأولى: إرسال المعارضين للحكم والناقدين للحاكم إلى المركز مخفورين محروسين ليرى الخليفة فيهم رأيه: والثانية إرسالهم إلى الثغور أو مع البعوث الغازية مجاهدين في سبيل الله. ولما كان من المستحيل في هذه الحالة إرسالهم مخفورين، فقد ولدت الحاجة إلى خفير وجداني داخلي يقتنع الغازي معه بأنه مجاهد. ومن هنا ومنذ ذلك الوقت نهاية العصر الراشدي وبداية العصر الأموي وقبل ظهور الفقه وعلومه، أصبح الغزو جهاداً والغزاة شهداء والسيف تذكرة مرور إلى الجنة.

وأما الإخراج من الديار فصورته واحدة هي النفي، الذي كان معروفاً في عصر عثمان والأشتر. فالرّبَذَةُ قرية خربة موحشة قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز تبعد ثلاثة أيام عن المدينة المنورة، نفي إليها أبو ذر الغفاري على يد عثمان ومعاوية، واقام بها إلى أن مات عام 32 هـ، وجبل الدخان موضع قاحل لم نجد له ذكراً عند ياقوت في معجم البلدان والأرجح عندنا بدلالة اسمه أنه بركان شبه خامد في منطقة المدينة المنورة. وارض القردة هي المنفى الذي هدد عمر بن الخطاب بإرسال أبي هريرة إليه إن هو لم يترك الإكثار من رواية الحديث.

ننتقل الآن إلى خبر اجتماع الشورى الذي عقده الخليفة الثالث عثمان مع ولاته الأربعة كما ورد في تاريخ الطبري.

في هذه الفقرة الثانية نحن أمام أربعة آراء متنافرة، كأن كل رأي فيها يمثل حلاً من وجهة نظر صاحبه يتناسب مع طبيعة المشكلة في ولايته، وهذا ليس من الشورى التي أشار إليها تعالى بقوله في وصف الذين آمنوا بربهم {وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} الشورى 38. وليس من الشورى التي التزمها النبي (ص) في حياته العملية حتى لو كان القرار فيها مخالفاً لرأيه الخاص. إنها الشورى التي عرضها الفقهاء فيما بعد (المُعلِمة غير الملزمة) التي تكرس حكم الفرد وتفتح الباب على مصراعيه للإستبداد من جانب، ولِكَمّ الأفواه وإخراس المعارضين من جانب آخر. الشورى عند الله ورسوله قرار يلزم الأخذ به بعد استعراض جميع الآراء واختيار أنسبها وأصلحها، أما عند فقهاء بني أمية والعباس ومن بعدهم فالشورى مجرد رأي للاستئناس ورفع العتب.

أما معاوية، فكان يرى أن يترك الخليفة لواليه وعامله أمر مواجهة المشكلة وحلها بما يراه مناسباً لولايته، إن شاء نفى وإن شاء وصل وإن شاء حبس أو قتل. بعبارة أخرى، كان معاوية يطلب مزيداً من الصلاحيات تكرس استقلاله في ولايته عن مركز الخلافة.

وأما ابن أبي سرح، فكان يرى في المال دواء لكل داء، لكن هذا العلاج إن نفع مع بطانة كالمحيطة به في مصر، فهو لا يجدي نفعاً مع المعارضين في الكوفة كالأشتر النخعي، ولا مع الناقدين في الشام كأبي ذر الغفاري.

وأما سعيد بن العاص فرأيه عجيب يدعو إلى اغتيال قادة المعارضة وقتل رؤوسها. وهذا إن انسجم مع رجل كالحجاج في دمشق وروبسبيير في باريس وإيفان الرهيب في موسكو، فهو لا ينسجم مع صورة الصحابي التي رسمها العسقلاني بسعيد في كتاب الإصابة (ج2 ص47) وهو يقول: .. كان من فصحاء قريش ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن. قال ابن أبي داود في كتاب المصاحف أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص لأنه كان أشبههم لهجة برسول الله (ص). ولي الكوفة لعثمان والمدينة لمعاوية. روى الزبير عن طريق عبد العزيز بن أبان عن خالد بن سعيد عن أبيه عن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى النبي (ص) ببردة فقالت: إني نذرت أن أعطي هذه لأكرم العرب. فقال: أعطيها لهذا الغلام، يعني سعيداً هذا. أهـ.

يبقى أخيراً أن نقف عند رأي عبد الله بن عامر والي البصرة، الذي يتلخص في ثلاث نقاط:

  1. قطع الأعطيات عن المعارضين بحيث تشغلهم الفاقة عما هم فيه، وبحيث يدفعهم ضيق العيش إلى الإنخراط في صفوف المرتزقة طمعاً بالغنائم والمسلوبات.
  2. الرمي بهم إلى الثغور، أي تسييرهم لقتال الأعداء في الخطوط الأمامية، وهذا ما أشار إليه الأشتر في رسالته إلى عثمان المذكورة آنفاً. وفكرة تسيير المعارضين إلى الخطوط الأمامية، على أمل أن يقتلوا هناك، فكرة شائعة عند العديد من الملوك والحكام. فبعض المفسرين الإسلاميين اعتمد في تفسيره رواية توراتية تزعم أن داود (ع) أرسل أوربا قائد جيوشه إلى الخطوط الأمامية مع الأعداء ليقتل، كي يستولي داود بعده على زوجته الجميلة. وسواء صحت الرواية أم لم تصح (والأرجح عندنا أنها مفتراة) فالفكرة كانت موجودة شائعة كما ذكرنا.
  3. التجمير في المغازي. والتجمير – كما يقول الزمخشري في أساس البلاغة – هو حبس الأمير الغزاة في الثغر وفي نحر العدو فلا يقتلهم.

ويبدو أن رأي عبد الله بن عامر، بنقاطه الثلاث، أصبح عقيدة سياسية أموية بدءاً من عثمان بن عفان وانتهاء بصقر قريش عبد الرحمن الداخل، مروراً بسلاطين الأسرة السفيانية وأمراء الأسرة المروانية، يستطيع المتأمل معها أن يفهم كيف ولماذا تحول الجهاد – خدمة لهذه العقيدة السياسية – إلى غزو، وتحول الشهيد إلى عسكري يسقط في أرض المعركة دفاعاً عن النظام الحاكم، وتحولت الدعوة للهدى من حكمة وموعظة وحوار بالتي هي أحسن إلى حملات مسلحة لسلب الأموال ونهب الممتلكات وهتك الأعراض، ولا علاقة لها بالمنهج الإلهي المتمثل بعبارة (في سبيل الله) لا من قريب ولا من بعيد وحتى يومنا هذا عندما تريد الدولة المستبدة إبعاد شخص ما لا تريد تصفيته جسدياً فإنها تعينه بالسلك الدبلوماسي ليعيش بعيداً في المنفى.

سيصيح بي عبدة التراث وأهله مستنكرين: أنت تدعو إلى تعطيل الجهاد وتركه. وسأجيب بكل هدوء: نعم إنني أدعو إلى ترك وتعطيل الجهاد الفقهي الذي رفع رايته فقهاء عصور الاستبداد، وأدعو إلى ترك الجهاد العثماني الذي تحول إلى سنجق يهدد به الخليفة خصومه من الدول الأخرى، لكنني أدعو بالمقابل إلى التمسك بالجهاد الذي أمر به الله ورسوله، وإلا فخبروني عن رجل يطالب بدفن زوجته في مقابر الشهداء لأنها توفيت بالنفاس، وعن زوجة تطالب بحصة زوجها من الامتيازات والمكاسب التي يغدقها الحكام على الشهداء لأنه مات في طلب رزقه ورزق عياله أو مات مبطونا، أيجوز عندكم أم لا يجوز؟

سيعود المستنكرون إلى الصياح إذ لا يتقنون سواه: ألا يسعك ما وسع الأمة على مدى ثلاثة عشر قرناً؟ وسأجيب مرة أخرى بكل هدوء: وهل وسع إبراهيم الخليل أن يعبد الأصنام وقد وسع ذلك قومه كلهم؟ المشكلة أنكم تعانون من عقدة نقص هي الدونية، وترون أنفسكم غباراً على أحذية السلف، أما نحن فقد كرّمنا تعالى بالسمع والبصر والفؤاد لنسمع ونرى ونفهم ولا نقبل أن نكون غباراً على حذاء أحد. والمشكلة أننا نستشهد على ما نقول بالله وبكتاب الله، وأنت تستشهدون على ما تقولون بالسيوطي وبالدهلوي وبابن عابدين، وشتان ما بين شهادة شهيدنا وشهادة شاهدكم، فالأولى حضورية قطعية والثانية غيابية ظنية، والظن – كما يقرر سبحانه في آية النجم 28 – لا يغني من الحق شيئاً.

المشكلة أنكم تقرؤون فلا تفهمون، وإن فهمتم تحرفون، وإلا فخبروني عن الإمام الشافعي حين أفتى بأن الولد الذي يحجب ميراث الأعمام ذكر، وأمامه قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم} النساء 11، هل كان الشافعي لا يعرف أن الولد قد يكون ذكراً وقد يكون أنثى؟ وهل قرأ قوله تعالى {والوالدات يرضعن أولادهن} فهل الوالدة ترضع الذكر فقط؟ وهل فعل الولادة يقع على الذكر ولا يقع على الأنثى؟ وأنه لو قصد الذكور حصراً لخرجت الإناث من وصيته وهذا محال؟

والجواب: لقد كان الشافعي يعرف ذلك كله، فهو فصيح من حيث النسب لكونه قرشياً وفصيحاً من حيث الثقافة لكونه يحفظ عشرة آلاف بيت من الشعر، لكنه فضل أن يداهن سلطانه العباسي المستبد أبا جعفر المنصور فكانت النتيجة أنه باع دينه بدنيا غيره، غير عابئ بأن تتسبب فتواه هذه بحرمان مليارات البنات من إرثهن منذ أن أصدرها إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.

ونحن – هنا على الأقل – لسنا بصدد محاكمة الشافعي بعد أن انتقل لبين يدي أحكم الحاكمين، لكننا ملزمون بالدعوة إلى ترك العمل بهذه الفتوى السياسية المخالفة لنصوص التنزيل الحكيم. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وملزمون توخياً للإنصاف بالإشارة على عديد من الفقهاء الصادقين في الحق والمخلصين له، كانت لهم مواقف تختلف كثيراً عن موقف الشافعي.

“دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك، فقال الوليد: ما حديثٌ يحدثنا به أهل الشام؟ يحدثوننا أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب عليه السيئات. قال الزهري: باطل ياأمير المؤمنين، أنبي خليفة أكرم على الله أم خليفة غير نبي؟ قال: بل نبي خليفة. قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داود {يَادَاوُودُ إِنّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقّ وَلَا تَتّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ إِنّ الّذِينَ يَضِلّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} ص 26، فهذا وعيد الله لنبي خليفة فما ظنك بخليفة غير نبي. قال الوليد: إن الناس ليغووننا عن ديننا” (انظر العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي ج1 ص 60).

رحم الله الزهري، فالتراث لم ينصف وقوفه في وجه واضعي الأحاديث النبوية، ورد ما يخالف التنزيل الحكيم منها والحكم ببطلانه. وليس ذلك بعجيب. فالتراث بالأصل – في معظمه – يمثل ما سمح السلاطين بنشره ورضوا عن وضعه بين ايدي الناس، ولم تنته هذه الظاهرة إلا حديثاً بقيام ثورة المعلوماتية.

وليت المسألة اقتصرت على وضع الأحاديث النبوية خدمة لمقاصد سياسية وسلطوية ومذهبية، بل تعدته إلى وضع تفاسير لآيات التنزيل الحكيم تصب في مصلحة تلك المقاصد ذاتها. مثالها قوله تعالى {إنا فتحنا لك فتحاً مبينا} الفتح 1، وقوله تعالى {إذا جاء نصر الله والفتح} النصر 1، وقوله تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} آل عمران 169.

يقول الرازي في تفسير آية الفتح 1: “في الفتح وجوه: أحدها فتح مكة وهو ظاهر، وثانيها فتح الروم وغيرها، وثالثها الفتح في صلح الحديبية، ورابعها فتح الإسلام بالسيف والسنان وبالحجة والبرهان، فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن قد فتحت، فكيف قال تعالى (فتحنا) بلفظ الماضي؟ نقول: الجواب عنه من وجهين: أحدهما، فتحنا في حكمنا وتقديرنا. ثانيهما، ما قدره الله تعالى فهو كائن لا دافع له وواقع لا راد له” أهـ. (انظر التفسير الكبير ج 28 ص 67).

ويقول في تفسير آية النصر 1: “والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة بدليل أنه تعالى ذكره مقروناً بالنصر، وقد كان (ص) يجد النصر دون الفتح كبدر والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير فإنه فتح البلد لكنه لم يأخذ القوم، أما في فتح مكة فقد اجتمع له الأمران النصر والفتح وصار له الخلق كالأرقاء حتى أعتقهم.

القول الثاني، أن المراد فتح خيبر وكان ذلك على يد علي (ع) والقصة مشهورة. والقول الثالث، أنه فتح الطائف وقصته طويلة. والقول الرابع، المراد النصر على الكفار وفتح بلاد الشرك على الإطلاق وهو قول أبي مسلم. والقول الخامس، أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم، ومنه قوله تعالى {وقل رب زدني علماً} طه 114. لكن حصول العلم لابد وأن يكون مسبوقاً بانشراح الصدر وصفاء القلب وذلك هو المراد من قوله تعالى {إذا جاء نصر الله}، ويمكن أن يكون المراد بنصر الله الإعانة على الطاعات والخيرات. أهـ. (انظر التفسير الكبير ج 32 ص 143).

والإمام الرازي – كباقي المفسرين – ينطلق من تفسير الآيتين من المعنى المقصود الشائع المشهور للنصر والفتح، ليقرر أنهما صورتان يتجسد فيهما الجهاد القتالي الذي ينتهي بالنصر على الأعداء، قتلاً وأسراً وهزيمة، يعقبه فتح للبلد بعد حصارها ودك أسوارها، وقد يجتمع النصر والفتح معاً في معركة واحدة وقد لا يجتمعان. والفتح في الآيتين عند الرازي وغيره من المفسرين، سواء أكان في مكة أم في خيبر أم في الطائف أم في الحديبية، لا يخرج عما ذكرناه. فإن كان ذلك كذلك – وهو ليس كذلك بكل تأكيد – فكيف نفهم الفتح في الآيات التالية:

  1. {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} الأعراف 89..
  2. {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} الأعراف 96.
  3. {فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} المائدة 52.

أقول كيف نفهم الفتح طبقاً للمشهور عند علمائنا الأفاضل من مفسرين وفقهاء وهو يحمل في الآية الأولى معنى الحكم، وفي الثانية معنى الرزق، وفي الثالثة معنى التوفيق؟ والأهم من هذا كله كيف نفهم اسم الله سبحانه “الفتاح” في قوله تعالى {قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العظيم} سبأ 26؟ هل نفهم منه أن الفتاح هو الذي يفتح البلاد بعد حصارها ودك أسوارها؟

المشكلة عند الرازي وغيره من المفسرين أنهم قرؤوا الآية الأولى من سورة الفتح مفصولة في الشكل والمضمون عما تلاها من آيات، فتوهموا أن الفتح في الآية هو فتح مكة. غافلين عن (اللام السببية) في قوله تعالى: {ليغفر} في مطلع الآية الثانية التي تعني أن الله جعل من الفتح في الآية الأولى سبباً لأربع نتائج شرحها على التوالي في الآيتين 2و3، الأولى: مغفرة الذنوب والثانية: إتمام النعمة والثالثة: الهداية إلى الصراط المستقيم والرابعة: النصرة دعماً وتأييداً وعوناً. وفتح مكة – أو غيرها – عسكرياً لا يمكن أن يكون سبباً في هذه النتائج الأربع.

يقول الإمام الرازي في تفسير آية آل عمران 169: “إعلم أن ظاهر الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون ذلك حقيقة أو مجازاً. فإن كان المراد منه هو الحقيقة، فإما أن يكون المراد أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء أو أنهم أحياء في الحال. وبتقدير أن يكون الثاني هو المراد، فإما أن يكون المراد إثبات الحياة الروحانية أو إثبات الحياة الجسمانية، وهذا ضبط الوجوه التي يمكن ذكرها في تفسير هذه الآية” أهـ. (أنظر التفسير الكبير ج9 ص 72، 73). وكما يفصل الرازي أقوال المفسرين في هذه الوجوه في موضعين: الأول، في تفسير قوله تعالى {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} البقرة 154. والثاني، في تفسير آية آل عمران 169 التي نحن بصددها، كذلك يفعل الإمام الطبرسي في مجمع البيان فيقول:

“عن ابن عباس أن آية البقرة 154 نزلت في قتلى بدر وهو يومئذ أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وكانوا يقولون مات فلان فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهى فيها أن يسمى من قتل في الجهاد أمواتاً بل هم أحياء. وفيه أقوال: (أحدها) وهو الصحيح، أنهم أحياء على الحقيقة إلى أن تقوم الساعة. وهو قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وإليه ذهب الحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء واختاره الجبائي والرماني وجميع المفسرين. (الثاني) أن المشركين كانوا يقولون إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم في الحروب بغير سبب ثم يموتون فيذهبون، فأعلمهم الله أن الأمر ليس على ما قالوه، وأنهم سيحيون يوم القيامة ويثابون. (الثالث) معناه لا تقولوا أمواتاً في الدين بل هم أحياء بالطاعة والهدى، ومثله قوله تعالى {أوَ من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} الأنعام 122، فجعل الضلال موتاً والهداية حياة. (الرابع) أن المراد أنهم أحياء لما نالوا من جميل الذكر والثناء، كما روي عن أمير المؤمنين (ع) من قوله: هلك خُزّان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة. والمعتمد هو القول الأول لأن عليه إجماع المفسرين” أهـ. (انظر مجمع البيان للطبرسي ج1 ص 236). ويقول في تفسير آية آل عمران 169:

“قيل نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً، وقيل نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلاً، وقيل نزلت في شهداء بئر معونة وكانوا سبعين رجلاً. لما حكى الله قول المنافقين في المقتولين الشهداء (يقصد في الآية 168 السابقة) ذكر بعده ما أعد الله للشهداء من الكرامة وما خصهم به من النعيم في دار المقامة” أهـ. (انظر مجمع البيان للطبرسي ج1 ص 537).

وتستوقفنا في هذه الفقرات أمور. أولها: هذا الإصرار العجيب لدى المفسرين على حصر مفهوم الشهادة والشهيد بقتلى المعارك تخصيصاً خلافاً لقوله تعالى {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الحديد 19. والجدير بالذكر أنه ذكر من بقي حياً بعد معركة أحد على أنهم شهداء وذلك في قوله تعالى {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللّهُ لَا يُحِبّ الظّالِمِينَ} آل عمران 140. هذا من جانب وللأحاديث النبوية – إن صحت – من جانب آخر، حسبما شرحناه بالتفصيل في الصفحات السابقة، وإضافتهم وهم يفسرون ألفاظاً إلى الايات ليست موجودة بالأصل، مثالها (الجهاد) و(الشهداء).

ثانيها: التمسك بظاهر الألفاظ على حقيقتها وترك المجاز، رغم ما ينتج عن ذلك من تجسيم بحق الله تعالى من جانب، ومن تضاد وتناقض مع قوانين الكون المادية من جانب آخر. أما التجسيم، فحين زعموا أن القتلى أحياء مادياً على وجه الحقيقة استتبع ذلك لزوماً أن تكون “العندية” في عبارة (عند ربهم) عندية مكانية وهذا مستحيل على الله تعالى لأن العندية المكانية من صفات الأجسام. وأما التضاد والتناقض مع قوانين الكون المادية، فقد زعموا أن أجساد الأنبياء والشهداء محرمة على الأرض، فهي على حالها طرية غضة إلى يوم القيامة، وهم أحياء في قبورهم يرزقون من نعيم الجنة غدواً وعشياً.

ثالثها: الخلط بين النفس والروح، وبين الموت والوفاة، فالنفس هي التي يتوفاها خالقها لتعود تراباً كما كانت أول مرة، بدلالة قوله تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها} الزمر 42، أما الروح فتذهب – ولا نقول تصعد – إلى بارئها الذي نفخها في مخلوقه الأول فصار بفضلها عاقلاً مدركاً مميزاً. والموت في التنزيل الحكيم له معنيان: الأول مادي على الحقيقة كما في قوله تعالى {كل نفس ذائقة الموت} الأنبياء 35، ويعني هلاك الجسد المادي الترابي. والثاني موت مجازي كما في قوله تعالى {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً..} الأنعام 122.

رابعها: قوله {ولا تحسبن} وقوله {عند ربهم} في آل عمران 169، وقوله {ولكن لا تشعرون} في البقرة 154 فيما نرى لصرف القارئ والسامع عن وجه الحقيقة على وجه المجاز. فالماضي من (تحسبن) هو (حَسِبَ) بمعنى ظن وتوهم، ورد في التنزيل الحكيم بهذا المعنى في خمسة وأربعين موضعاً منها قوله تعالى {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} إبراهيم 42، وقوله تعالى {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} القيامة 3. والخطاب في قوله {ولا تحسبن} موجّه لمخاطب مذكر مفرد هو الإنسان عموماً ذكراً كان أم أنثى، من خلال توجيهه للنبي (ص) خصوصاً. والله تعالى ينهى نبيه الكريم عن توهم أن القتلى في سبيله أموات ستذهب ريحهم كما ذهبت ريح غيرهم بل هم أحياء، وأن للموت والحياة وجهاً مجازياً هو غير الموت الذي تراه بعينك وتلمسه بيدك وتتوهم معه أنه نهاية المطاف. ولو جاء الموت والحياة في الآيتين على وجه الحقيقة لجاء الخبر فيهما كاذباً تكذبه الحواس. أما قوله {عند ربهم} فمعناه مجازي هو: في تقدير ربهم وحسب معاييره وجهة نظره، ولا يمكن أن نفهمه على وجه الحقيقة لأنه يؤدي للتجسيم. ومثله في قوله تعالى {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب} آل عمران 59 وقوله تعالى {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون} الصف 3.

قلنا في شرحنا لعبارة {في سبيل الله} أنها تعني (ضمن طريق الله ووفق منهجه)، وقلنا كيف يكون السعي على الرزق في سبيل الله، وكيف يكون طلب العلم في سبيل الله، وكيف يكون الضرب في الأرض في سبيل الله. بقي أن نشرح كيف يكون القتال قتالاً في سبيل الله، وما هي الأوامر والنواهي التي يجب على المقاتل الالتزام بها ليكون قتاله في سبيل الله، وليكون من الذين قال فيهم تعالى {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله} التوبة 111.

اترك تعليقاً