نحو الأسس الجديدة للفقه الإسلامي

لقد تحدثنا حتى الآن عما في بعض كتب التراث، كالتفاسير وكتب الحديث والدراسات والأدبيات الإسلامية، لكننا نرى أن جوهر القضية ليس في هذه الكتب بل في الأصول التي تأسست وتجذرت في القرن الثاني الهجري ووضعت أسس المنطلقات لهذه الكتب وغيرها وللفقه الإسلامي بكل فروعه. ونرى أنه لابد من إعادة تأسيس هذه الأصول من جذورها، ولابد من إعادة النظر في الجذور التي انطلق منها السلف تطبيقياً في قول ما قالوه وكتابة ما كتبوه.

لقد بدأ في القرن الثاني الهجري، صدر العصر العباسي، وضع أسس الفقه الإسلامي على يد الإمام الشافعي (150 – 204 هـ)، في كتابه “الرسالة”، وتواكب ذلك مع وضع سيبويه لعلم العربية في كتابه المشهور، الذي أقر فيه الترادف، إلى جانب من سبقه مثل الخليل، ومن عاصره مثل الكسائي. ولا ريب في أن الشافعي تأثر بمذهب الترادف هذا، إلى حد صرفه عن التشدد في رواية الحديث النبوي باللفظ، وتجويزه الرواية بالمعنى. لكن هذه الإشكالية اللغوية لم تكن هي الوحيدة التي أثرت فيما رآه الشافعي وأرساه وكتبه، فثمة إشكاليات عديدة أخرى نستعرضها فيما يلي:

1 – إشكالية اجتماعية دينية: فقد انطلق الشافعي من أن عصر النبوة والخلفاء الراشدين الأربعة هو عصر الإسلام، وأن كل ما طبق فيه من قرارات وتعليمات وأوامر ونواه هو عين الإسلام. وكما أن كل شيء كان حراماً في العصر الجاهلي، كذلك كل ما تم إقراره في عصر النبوة والراشدين هو الحلال وماتم النهي عنه هو الحرام. ومن هنا انبذرت بذور ذهنية التحريم في العقل العربي الإسلامي، وعلى هذا الأساس تم تعريف الكتاب والسنة والإجماع والقياس واعتبرت مصادر للتشريع.

يقول الشافعي: ” على أنه ليس لأحد أبداً أن يقول لشيء حل ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس” الرسالة ص90. ويقول ” كل ما سنَّ رسول الله مما ليس فيه كتاب وفيما كتبنا في كتابنا هذا من ذكر ما منَّ الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة، دليل على أن الحكمة سنة رسول الله.. فيجمع القبول لما في كتاب الله ولسنة رسوله القبول لكل واحد منهما على الله ” الرسالة ص 32،33. ولقد رددنا على هذا القول في مكان آخر من هذا الكتاب فانظره. والإشكالية هنا، هي أن عصر النبي والراشدين بكل أبعاده وسلوكياته وثقافته أصبح جزءاً من الدين، أي تم تحويل الثقافة إلى دين.

والسبب في ذلك هو التداخل والالتباس في مفهومي الإسلام والإيمان انطلاقاً من الترادف. فقد ساد الاعتقاد بأن المؤمنين بمحمد (ص) وبرسالته هم وحدهم المسلمون، وبأن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام، فتحول الإسلام بذلك إلى دين محلي فقد عالميته، وانطمس البعد الإنساني الشامل للإسلام كرحمة للعالمين، وكدين بدأ بنوح وختم بمحمد (ص)، وكمثل أخلاقية وقيم عليا خضعت للتراكم والتطور والتنوع. وتواكب ذلك مع كون الدولة العربية الإسلامية في ذلك الوقت، أكبر دولة في العالم، فتصدى الفقهاء لوضع منظومة حقوقية لهذه الدولة تحت عنوان الفقه الإسلامي وما هو إلا القانون المدني لهذه الدولة وهو غير ملزم لأحد.

2 – الإشكالية السياسية: كانت المعركة على أشدها، عند إرساء أسس الفقه الإسلامي، بين العباسيين والطالبيين، وكان لها أكبر الأثر على فقه السلطة، بالاعتماد على العديد من الأحاديث النبوية وأحاديث الغيبيات التي تدعم هذا الطرف وتدين الطرف الآخر، ورسخ بالتالي القول بأن الحديث وحي وبأن الوحي وحيان، تثبيتاً لدعوى طرف على الطرف الآخر وتدعيماً لموقفه الإيديولوجي.

فتكرست مثلاً مقولة أن الولد في آية المواريث هو الذكر وأن البنت لا تحجب، رغم أن مطلع الآية يوصي بالأولاد، والأولاد فيهم الذكر وفيهم الأنثى، ورغم أن اللسان العربي يطلق لفظ الولد على الذكر والأنثى.

كل ذلك بدافع سياسي سلطوي. فلولا هذه التخريجة على ركاكتها – وقد تبناها الشافعي – لزالت الشرعية عن الأسرة العباسية التي كانت تحكم أكبر وأغنى دول العالم في ذلك الزمن، ولانتقل حق الحكم مباشرة إلى المعارضة، أي إلى الطالبيين وإلى الشيعة.

وبما أن الإشكالية التي يعيشها المرء هي التي تحدد له ما يراه وما لا يراه ضمن النظام المعرفي المتبع، وانطلاقاً من الإشكاليتين السالفتين الاجتماعية والسياسية، فقد تم وضع التفاسير لآيات الأحكام في كتاب الله تعالى، من خلال قراءة أولى تحكمها الإشكاليات المذكورة، كما تم وضع أسس الفقه وتعاريف الكتاب والسنة والإجماع والقياس.

ومن هنا، فإن علينا التمييز بكل وضوح بين آيات الأحكام في التنزيل الحكيم، وبين فهمها وتفسيرها تطبيقياً في الفقه الموروث، كما علينا التمييز وبكل وضوح بين آيات العقيدة في التنزيل الحكيم، وبين علم الكلام وعلم أصول العقيدة في التراث الموروث، الذي أخذ شكله وتأسست قواعده في ضوء إشكاليات شرحنا بعضها. فآيات الأحكام والعقيدة في التنزيل الحكيم هي كينونة في ذاتها، بينما التفاسير والفقه وعلوم العقيدة والكلام صيرورة تاريخية، وهذا ليس ذاك.

أي أن آيات المواريث في التنزيل شيء، وعلم الفرائض في الفقه الموروث شيء آخر. فآيات المواريث كينونة، وعلم الفرائض صيرورة، والتفاسير والفقه يمثلان القراءة الأولى لكتاب الله. ونضرب على ذلك كله مثالاً في الآيات التالية:

  • {ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} الأعراف 34.
  • {والله خلقكم وما تعملون} الصافات 96.
  • {لكل أجل كتاب} الرعد 38.
  • {هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض} فاطر 3.

هذه الآيات كينونة في ذاتها. أما ما وصل إليه الفقه والفقهاء، وكتبوه تحت تأثير إشكالياتهم محكومين بأرضيتهم المعرفية، من أن: العمر محتوم، والرزق مقسوم، والأعمال مكتوبة، فهو الصيرورة الأولى التاريخية التي استقرت عندها القراءة الأولى لآيات الذكر الحكيم.

3 – الإشكالية اللغوية: لقد وجد الفقهاء أنفسهم وسط جو عام لغوي يقول بالترادف، ويجيز رواية الحديث بالمعنى، ويفسر آيات التنزيل على وجه ظاهري يدخل بمعظمه تحت بند التشخيص، وينطلق في فهم الآيات من ذات الآلية التي ينطلق منها في فهم الشعر الجاهلي رغم أن أجمل الشعر أكذبه. ولهذا لم يتم التفريق بين: الكتاب والقرآن، وبين الذِّكر والفرقان، وبين اللوح المحفوظ والإمام المبين، وبين جاء وأتى، وبين الأم والوالدة والأب والوالد، وبين الشاهد والشهيد، وبين العباد والعبيد، وبين الحظ والنصيب، وبين النهي والتحريم، وبين النبي والرسول، وبين الحرب والقتال، وبين الغزو والجهاد، وبين الفعل والعمل، ولم يقتصر منطلقهم هذا في الترادف على المفردات، بل امتد أحياناً ليشمل الجمل والتراكيب والصياغة، حين قرأوا قوله تعالى {للذكر مثل حظ الأنثيين} النساء 11.

ففهموها وطبقوها كما لو أنه سبحانه قال “للذكر مثلا حظ الأنثى”، وحين قرأوا قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين} النساء11. ففهموها وطبقوها كما لو أنه سبحانه قال “فإن كن نساء اثنتين فما فوق”.

لقد تواكب تدوين الحديث والتفاسير، وتأسيس أصول الفقه مع تدوين كتب اللغة وتقعيدها، وتأسيس أصول النحو والصرف فيها. ولكن، كما انتصرت مدرسة الحديث (الشافعي) على مدرسة الرأي (أبو حنيفة)، وكما انتصر النقل على العقل، فقد انتصر القالب النحوي القواعدي على الدلالة والمعنى في النظم. وأهمل بالتالي الجانب البلاغي حين اعتبرت البلاغة وجهاً جمالياً للفظ لا علاقة له بالدلالات والمعاني(6) فأهمل بذلك دور المتلقي للبلاغ، الذي يتوجه إليه الخطاب في الآيات أساساً.

ورغم أننا نجد في عصر تأسيس الفقه (القرن الثاني الهجري) بذوراً واضحة المعالم لعلم الدلالة ومعاني النظم، كما عند الجاحظ (150-255 هـ) في البيان والتبيين وفي كتبه الأخرى، إلا أن هذا الجانب لم تتضح معالمه وتستقر أسسه إلا بعد ذلك بوقت طويل (حوالي القرن الخامس الهجري) على يد الإمام الجرجاني.

عندما وقف الفقهاء والمفسرون عند المستوى النحوي القواعدي في فهم الجملة القرآنية، فقد التزموا عملياً بما يقوله علماء اللغة، من وجود ألفاظ زائدة في التنزيل الحكيم، واقروا تطبيقياً بوجود حشو في الذكر الحكيم، رغم أنهم ينفون نظرياً وجوده فيه. فحين قال علماء اللغة مثلاً:

إني أفيدك فائدة * ما بعد إذا زائدة

التزم الفقهاء والمفسرون بهذا، ليصبح لديهم:

{ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة 282 يساوي “ولا يأب الشهداء إذا دعوا” وهذه مساواة باطلة أقل ما يقال فيها أنها زعم باطل بإمكان تبديل قول الله في كتابه العزيز، ووهم بوجود زوائد في التنزيل الحكيم، استبعادها أو تجاهلها لا يغير من المعنى زيادة ولا نقصاً، تعالى الله عما يصفون.

الفرق بين (إن) و (إذا)

لقد نصت كتب النحو والصرف على أن (إن) و (إذا) أداتا شرط غير جازم. ولم يعن كثير من النحويين بحكم استغراقهم في تخصصهم ببيان الفرق في الدلالة بينهما، وبخاصة في آيات التنزيل الحكيم. إلا أننا نجد عند أحدهم(7) رسالة في الفرق بين (إن) و (إذا)، إلى جانب “إعراب القرآن الكريم”، و “شرح اللمع لابن جني”، ميز فيها بين ما تحمله كل منهما من دلالة ومعنى، رغم اتفاقهما من الجانب التقعيدي.

يقول العكبري إن الفعل بعد “إذا” حتمي لاشك في وقوعه، أما بعد “إن” فاحتمالي مشكوك بوقوعه. كما في قوله تعالى:

  • {إذا الشمس كورت * وإذا النجوم انكدرت} التكوير 1،2. وهذا يعني إن التكوير والانكدار حاصل حتماً فيما يستقبل من الزمن بدلالة “إذا”.
  • {إذا جاء نصر الله والفتح} الفتح 1. وهذا يعني أن النصر والفتح قادمان بلا ريب.

هذا في حالة أن الجملة بعد “إذا” تفيد الإخبار. أما إذا أفادت الجملة التكليف، انصب عمل “إذا” على حتمية التكليف وليس على وقوعه، كما في قوله تعالى:

  • {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} المائدة 6. وهذا يعني أن قيام المؤمنين إلى الصلاة تكليف حتمي لاشك فيه.
  • {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} البقرة 282، وهذا يعني أن كتابة المؤمنين في حال التداين تكليف حتمي لاشك فيه.

أما أمثلة ” إن” الاحتمالية ففي قوله تعالى:

  • {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم} النساء3. وهذا يعني أن الخوف من عدم الإقساط في اليتامى ليس حتمياً، وأنه قد يحصل ويقع وقد لا يحصل ولا يقع، والله سبحانه يدلنا في حالة وقوعه على ما نفعل.
  • {وإن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم }البقرة 271. وهذا يعني أن للصدقات احتمالين: الإبداء والإخفاء والثاني خير. وليس في الآية ما يحتم وقوع أحدهما.
  • {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم }آل عمران 144. هنا أيضاً يضع تعالى نهاية العمر للإنسان في أحد احتمالين: الموت أو القتل، وكلاهما محتمل الوقوع.

ويختم الإمام العكبري رسالته بتعليق طريف، يشير فيه إلى الحوار بين عيسى المسيح وربه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} المائدة 115. يقول: أرأيت لو وضع المسيح “إذا” مكان “إن” لانخسفت به الأرض!!.

ومثال آخر، آية من التنزيل فيها (إن وإذا) في قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين}البقرة. لاحظ: ذكر ظاهرة الموت بعد “إذا” وهو حتمي الوقوع ولكن ذكر ظاهرة وجود الخير لدى الإنسان ليوصي به كظاهرة احتمالية بعد أداة “إن”.

(ما) الزائدة

نعود إلى مسألة ” ما ” الزائدة. فنرى أهل النحو والصرف يعتبرونها زائدة في أكثر من موضع:

  • بعد “إذا”. كما في قوله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة 282.
  • بعد “إن” الشرطية. كما في قوله تعالى:{إما يبلغن عندك الكبر} الإسراء 23.
  • بعد “كثيراً ” كقولك: كثيراً ما نصحتك.
  • بعد “قليلاً”. كقوله تعالى: {قليلاً ما تشكرون}. المؤمنون 78.
  • بعد “أيان”. كقول الشاعر:

إذا النعجة العجفاء كانت بقفرة فأيان ما تعدل به الريح تنزل.

  • بعد أين، بين، دون.
  • بعد أيُّ الجارّة. كقوله تعالى: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي} القصص 28.
  • بعد “إنَّ” وأخواتها (وتسمى الكافَّة): كقوله تعالى {إنما المؤمنون أخوة} الحجرات 10.

وقول امرئ القيس:

ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وقول النابغة الذيباني:

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد.

وقول الفرزدق:

أعد نظراً يا عبد قيس لعلَّما أضاءت لك النار الحمار المقيدا

  • بين جار ومجرور. كما بقوله تعالى: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم} آل عمران 159.
  • وقوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا} نوح 25.
  • وكقولك: عما قريب ننتصر.

ولا يقف النحويون في القول بالزيادة عند (ما)، كما رأينا في الأمثلة السابقة بل يذهبون إلى القول بوجود ما يسمى “شبه الزائد”، كما في “حاشا” إن جاء ما بعدها مجروراً. ويذهبون إلى وجود أحرف أخرى زائدة(8). نعدد منها الأمثلة التالية:

  • الباء زائدة في خبر ليس. كقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين} التين 8.
  • الفاء زائدة حين تتصل بـ “إذا” الفجائية. كما في قوله تعالى: {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} يس 51.
  • أن زائدة عندما تأتي بعد ” لما” الحينية. كما في قوله تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا} يوسف 96.
  • إن زائدة بعد ” ما ” المهملة بمعنى ليس، كما في قول الشاعر:

بني غدانة ما إن أنتم ذهب ولا صريف ولكن أنتم الخزف.

  • كان زائدة عندما تقع بين “ما” التعجبية وفعلها. كقولك: ما كان أجمل الربيع.

وغير هذا كثير يضيق المجال عن حصره.

لقد أثر التقعيد والقوالب اللغوية النحوية على المفسرين تأثيراً واضحاً، فقال بعضهم مثلاً، إن إبليس كان من الملائكة. واستشهدوا على صحة قولهم هذا بأمرين: أحاديث نبوية تدل على أنه من جنسهم، واستثناؤه من الملائكة في قوله تعالى {فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى} الحجر 30،31. والمستثنى لا يكون إلا متصلاً، أي أن إبليس من الملائكة بدليل الاستثناء. والرد في نقض هذا القول يكون بأمرين:

أما الأحاديث النبوية، فليس للنبي أن يقول بملائكية إبليس، وأمامه قوله تعالى {إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه} الكهف 50. وأما القول بأن الاستثناء لا يكون إلا متصلاً، فقد يكون منقطعاً، ويكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقوله تعالى {مالهم به من علم إلا اتباع الظن} النساء 157. وقوله تعالى {وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولاهم ينقذون * إلا رحمة منا ومتاعاً إلى حين} يس 43،44.

إلا أن الوقوف عند هذا كله بالتفصيل أمر يطول، نكتفي منه بالقول في ” ما” الزائدة بعد “إن” و “إذا”.

نحن ننطلق من أن التنزيل الحكيم وحي سماوي وصياغة إلهية، صاغها صانع هذا الكون المذهل المدهش في دقته. ولابد من أن يكون هذا التنزيل بمستوى من الدقة يعكس عظمة ودقة منزِّله. ومن هنا فلا مجال عندنا أبداً للقول بزيادة أي حرف فيه. من حيث أنه الكتاب الوحيد الذي يتطابق فيه اللفظ مع الكلمة، والكلام مع القول، والشكل القواعدي للجملة مع معناها ومضمونها البلاغي.

وننطلق من أن إرساء أسس التدوين والتقعيد، جاء لاحقاً للسان العربي ولاحقاً للتنزيل الحكيم وليس سابقاً له. فإذا قال سيبويه إن الفعل يجب أن يماثل الفاعل في الإفراد والتثنية والجمع. ثم نقرأ قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا} الحج 19. وإذا قال إن الفعل يجب أن يماثل الفاعل في التذكير والتأنيث، ثم نقرأ قوله تعالى: {إذا جاءك المؤمنات} الممتحنة 12. فهذا لا يعني أن الله غلط في القواعد التي أرساها سيبويه، بل يعني أن سيبويه حين أسس لقواعده لم يحكم ما أسسه على ما ينبغي، وهذا يفسر لنا خلافات مدارس النحو وأهله في المئات من المسائل.

ومن حسن الظن ننطلق من أن سيبويه وغيره من النحاة حين يقولون بأن ذهب ومضى وبارح وانطلق وغدا، بمعنى واحد، فهم يقصدون الجانب النحوي وليس الدلالة والبلاغة. لأن في الانطلاق قوة لا تجدها في الذهاب، وفي المبارحة والغدو إشارة إلى الزمن، لا يتضمنها الذهاب والانطلاق. وحين يقولون بوجود أحرف زائدة، فهم يشيرون إلى انعدام أثرها وتأثيرها في البنية القواعدية للجملة، وليس إلى انعدام الدلالة والمعنى فيها(9).

من هذه المنطلقات، تأتي عندنا الدلالة قبل النحو، والمعنى قبل الصرف، والبلاغة قبل البديع. ومن هذه المنطلقات ننظر في التنزيل الحكيم لنفهم قوله تعالى:

  • {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة 282.
  • {فإما يأتينكم مني هدى} البقرة 38.
  • {إما يبلغن عندك الكبر} الإسراء 23.
  • {أينما تكونوا يدرككم الموت} النساء 78.
  • {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا} المائدة 93.

فإذا كان الفعل بعد “إذا”، إخباراً وتكليفاً، حتمي الوقوع، وكان الفعل بعد “إن” احتمالياً مشكوكاً به. فما هي الدلالة الجديدة التي تضيفها “ما” بعد “إذا” وبعد “إن”، بعيداً عن زعم النحاة بأنها زائدة؟.

لقد نظرنا في الآيات وفي الشواهد الشعرية في كتب النحو، فرأينا أن “ما” هي أقرب ما تكون إلى معنى النفي، فهي تكف عمل “إنَّ” وتنفيه كما في قوله تعالى {إنما المؤمنون أخوة}، وتحول معنى التوكيد المجرد فيها إلى توكيد وحصر للأخوة فيما بين المؤمنين فقط. فما الذي تنفيه “ما” بعد “إذا” و “ما” بعد “إن”؟

يقول تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون} البقرة 38. ويقول: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} الفجر 15،16.

لقد وقف الزمخشري في الكشاف عند قوله تعالى في البقرة {فإما يأتينكم مني هدى} واستغرب أن يربط الله إتيان الهدى ب “إن” وهي احتمالية تفيد الشك، في حين أن إتيانه للهدى حتمي الوقوع. فانظر إلى تأثير قول النحاة على إمام مثل الزمخشري، حين يقولون بأن “ما” بعد “إن” زائدة، فلا يلتفت إلى حرف زائد فيه جواب مشكلته ونفي استغرابه.

أما لو اعتبر أن “ما” زائدة من جهة النحو والصرف، لكنها تحمل معنى نفي الاحتمال في “إن”، لأدرك أن إتيان الهدى حتمي، ولكن ليس في مثل حتمية “إذا”، لارتباطه بمشيئة الهادي من جهة وبدعاء ورغبة المهدي بالهدى من جهة أخرى.

فما الذي تنفيه “ما” بعد “إذا” في آيتي الفجر 15،16؟ نقول نحن نعلم أن الفعل بعد “إذا” حتمي الوقوع، بذاته وبنوعه والابتلاء في الآيتين محتوم الوقوع بذاته، لكنه احتمالي بنوعه، فقد يأتي الابتلاء بالتنعيم والإكرام، وقد يأتي بقدر الرزق وإقلاله. فكان لابد من اقتران “ما” ب “إذا” لنفي الحتمية في نوع الفعل. فإن “إذا” أعطتنا حتمية الابتلاء، و “ما” أعطتنا احتمالية نوع الابتلاء.

وكذلك نقول في “إن” المرتبطة ب “ما” في قوله تعالى {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما} الإسراء 23. فنحن نعلم أن الفعل بعد “إن” احتمالي الوقوع. فجاءت “ما” لتنفي الاحتمال عن فعل بلوغ الكبر وتبقيه في أحدهما أو كليهما. مع الإشارة مرة أخرى إلى أن حتمية وقوع الفعل بعد “إن” المرتبطة ب “ما” لا تساوي الحتمية في “إذا”، إذ يبقى بلوغ الكبر موضوع الآية خاضعاً لاحتمالات أخرى على رأسها العناية بالصحة والتداوي من الأمراض.

أما قوله تعالى {أينما كنتم يدرككم الموت} النساء 78. فنرى فيها نفياً لحدود الزمان والمكان، وإشارة إلى أن الموت كقانون من اللوح المحفوظ لا يخضع لحدود المكان والزمان.

أما في قوله تعالى {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} البقرة 287. فعمل “ما” هنا هو نفي الرخصة والعذر. فدعوة الشهداء حتم، على الشهداء تلبيتها ولا رخصة لهم في الرفض ولا عذر. أرأيت لو قال تعالى ” يا أيها الذين آمنوا إذا “ما” قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم”، ولو قال ” إذا “ما” نودي للصلاة من يوم الجمعة فذروا البيع” لألغى بذلك كل رخصة وكل عذر فيهما. لكنه قال {إذا قمتم} وقال {إذا نودي}.

وننتهي أخيراً إلى قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} المائدة 93.

فلقد سبق أن شرحنا هذه الآية في كتابنا “الإسلام والإيمان” وأشرنا إلى أن فيها إيمانين، الأول إيمان تسليم هو الإيمان بالله وهو إيمان الإسلام، والثاني إيمان تصديق هو الإيمان بالرسول. وأشرنا إلى أن التقوى الأولى هي تقوى الإسلام التي عناها تعالى بقوله {اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران 102، والثانية تقوى الإيمان والثالثة تقوى الإحسان. كما أوضحنا أن الوصايا والتزام الصراط المستقيم جزء من أركان الإسلام.

هنا نفهم أن دور “ما” بعد “إذا” في الآية، هو نفي الرخصة والعذر في تقوى الإسلام، إشارة إلى أن الوصايا والصراط لا رخصة فيها ولا عذر. إذ لا عذر في الشرك ولا في القتل، ولا رخصة في الحنث باليمين ونكاح المحارم وعقوق الوالدين. وهذه كلها من تقوى الإسلام. أما في تقوى الإيمان، ومن أركانه الشعائر، فللمؤمن أن يصلي بعينيه دون قيام بوجود العذر، وللمسافر أن يفطر من رمضان أيام السفر، وللمتوضئ أن يتيمم مع انعدام الماء.

لقد ألمحنا في الحديث عن منطلقاتنا، إلى أن إرساء أسس النحو والصرف جاء بعد أن وجدت اللغة واللسان وليس قبلها. والمتأمل في هذه القواعد والأسس، يجد أنها تتبع النصوص كيفما تحركت، وأنها مصاغة أصلاً استخراجاً مما تحركت به النصوص، وأن الحكم في صحة القاعدة أو في عدم صحتها لما قاله العرب وسمعوه، وأن السلطة للنص على القاعدة وليس العكس. ولعلنا لا ندري تحديداً متى انقلبت المفاهيم، وانعكست الصور، فتحولت السلطة للقواعد والنحو والصرف وصارت هي الحاكمة على النص. وغدت البلاغة تأليفاً بين الأصوات ومزاوجة بين الكلمات ومجانسة بين الفواصل. ولكن لا عجب. فالذهنية التي أقرت حاكمية الحديث النبوي على النص القرآني، ليس عسيراً عليها أن تخضع هذا النص لحاكمية القواعد وأصول النحو والصرف.

هذا كله يقودنا إلى أمر خطير آخر، يؤثر على فهمنا للتنزيل الحكيم، وفقهنا لآياته المباركات، ونعني به العبثية. فالآيات في التنزيل تحمل المصداقية أولاً، أي التطابق مع الواقع الموجود ومع الفطرة الإنسانية، وتحمل أهمية الخبر ثانياً. والسامع المخاطب تهمه أهمية الخبر وفائدته في إضافة معلومات جديدة إلى ما يعرف، بقدر ما تهمه المصداقية والتطابق بين ما يسمع وما يرى. ولهذا سمي مسيلمة كذاباً، حين قال للناس إن الفيل له خرطوم طويل وذنب قصير.

هذا القول صادق من حيث مطابقته للواقع، لكنه لا يحمل من الأهمية ما يضيف جديداً إلى معارف الناس، وبالتالي فهو لا يحتاج في معرفته إلى وحي.

والعجيب في الأمر أن السادة المفسرين والفقهاء والعلماء يقولون نظرياً بانتفاء الحشوية والعبثية عن التنزيل الحكيم، ثم يعتقدون بوجود أحرف زائدة فيه، ويقولون بأن التنزيل صالح لكل زمان ومكان، ثم ينكرون التطور والحنيفية والحدود، ويقولون بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم يجعلون من أسباب النزول علماً لا يمكن فهم التنزيل إلا من خلاله،

ويفتحون باب الاجتهاد والتجديد نظرياً، ثم يحاكمون المجتهدين والمجددين بقانون المرجعية والسلفية والتراث، ويحكمون عليهم انطلاقاً من عدم جواز قول ما لم يقل، وانطلاقاً من قاعدة “لا اجتهاد في النص” رغم أن الاجتهاد في رأينا ورأي المنطق لا يكون إلا بالنص، فالمجال الذي لم يرد فيه نص مجال مفتوح لا يحتاج إلى اجتهاد أصلاً. ويقولون بثبات النص والمحتوى، ثم يجيزون النسخ في التنزيل الحكيم والحديث النبوي. ويذهب بعضهم إلى تجويز نسخ الحديث للتنزيل، ولهم في كتب الناسخ والمنسوخ عجائب ونوادر تذهل العاقل المتأمل. غير ملتفتين إلى أن الاتكاء على أسباب النزول والقول بالنسخ، يجعل من كتاب الله كتاباً تاريخياً، ومن أحكامه أحكاماً مرحلية، تسقط معها صلاحيته لكل زمان ومكان.

إشكالية القراءات في التنزيل الحكيم

ثمة أمر أخير نشير إليه، ونتمنى لو أن الدارسين الإسلاميين اهتموا به، هو مسألة القراءات السبع والعشر والأربع عشرة، في ضوء حديثه (ص) إن صح، “نزل القرآن على سبعة أحرف” (البخاري 2241). وعلاقة هذا الحديث بالقراءات إن وجدت، وهل هي أشهر اللهجات عند العرب كما يقول البعض، وهل أجاز الرسول القراءة بها.

لقد نظرنا في اختلاف القراءات عند السيوطي في الدر المنثور، فراعنا عدد من الكلمات، وجدنا اختلاف القراءة فيه لا يعدو أن يكون تصحيفاً وقع بعد التدوين وبعد إعجام المدون وإعرابه، نورد فيما يلي أمثلة منها:

فالأمثلة من 1 – 10 يتركز اختلاف القراءتين في إضافة ألف إلى أحدهما، الأمر الذي لا يغير شيئاً مطلقاً في الأمثلة 4،5،10. ويحول المفرد إلى جمع في المثالين 3،11. ويخرج بالمعنى إلى حقل آخر في الأمثلة 6،7،8 فالقتال شيء والقتل شيء آخر كما لا يخفى على أهله، وأيضاً في المثال 9، فالمس شيء والتماس شيء آخر، والفرق بينهما كالفرق بين اللمس والتلامس، فاللمس قد يأتي عفواً، أما التماس والتلامس الذي يستوجب الوضوء فغير ذلك. وقل مثل ذلك في المثال 2، فالفرق بين المعنى بين أزلَّ وأزال لا يغطيه اختلاف اللهجات. فإذا جاز لنا قبول الاختلاف في القراءتين في الأمثلة 4،5،10، فهل يجوز في باقي الأمثلة على ضوء ما شرحناه؟

ثمة كما قلنا قاسم مشترك بين الأمثلة كلها هو الألف. ونحن نعلم أن الخطاطين العرب اعتادوا وضع ألف مائلة قصيرة على ما قبل الألف المحذوفة خطاً والملفوظة نطقاً، كما في: أولئك، هذا، هذان.. وغيرها. فلو كتبناها كما ننطقها لوجب أن تكون: هاذا، أولائك، هاذان. فهل هناك احتمال بأن تكون بعض هذه الاختلافات في القراءات، مجرد تصحيف تسلل إلى علم القراءات بعد التدوين؟ نترك الإجابة للدارسين.

في المثالين 13،17، يقول تعالى: {وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً بين يدي رحمته} الأعراف 57. ويقول: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما} البقرة 259.

ونجد عند الإمام الرازي في تفسير آية الأعراف في التفسير الكبير (ج14 ص 113) أن ابن كثير وحمزة والكسائي قرأوا (الريح) على لفظ الواحد، وقرأ الباقون (الرياح) على لفظ الجمع، فمن قرأ الرياح بالجمع حسن وصفها بقوله {بُشْراً} فإنه وصف الجمع بالجمع، ومن قرأ الريح واحدة قرأ بُشُراً بالجمع لأنه أراد بالريح الكثرة. وأما نشراً ففيه قراءات:

  • نُشُراً بضم النون والشين على وزن رسل وكتب كما عند الفرَّاء.
  • نُشْراً بضم النون وسكون الشين كما عند ابن عامر.
  • نَشْراً بفتح النون وسكون الشين وهو مصدر كما عند حمزة.
  • نَشْراً بفتح النون وسكون الشين وهو مفعول كما عند الزمخشري ومسروق.
  • بِشْراً وبَشْراً كما عند الزمخشري وعاصم.

كما نجد عند الإمام الرازي في تفسير آية البقرة (المصدر السابق ج7 ص 32) أنه اعتمد قراءة (نَنْشُرُها) بفتح النون وضم الشين وهو قول الفرَّاء. ولكن حمزة والكسائي قرأا (نُنْشِزُها)، والنخعي قرأ (نَنْشُزُها) وهو قول الأخفش.

وهذا كله لانشك فيه ولا نماري. فالمذكورون من أئمة اللغة وأئمة القراءات ليسوا موضع سؤال من أحد، لا على صعيد التقوى، ولا على صعيد الدراية والعلم باللسان. لكننا نلاحظ أن الفرق بين (ننشزها) و (ننشرها)، والفرق بين (بشراً) و (نشراً) هو النقطة التي تحول الزاي راءً، والباء نوناً. ونحن نعلم أن إعجام حروف المصحف وتنقيطها تم في عهد الحجاج بن يوسف، وكانت قبله مهملة.

ونعلم أن الذكر الحكيم نزل ملفوظاً مسموعاً وليس مكتوباً مقروءاً، ونعلم أن اختلاف القراءات جائز ما لم يغير معنى، أو يجمع مفرداً أو يفرد جمعاً، ونعلم أن مشكلة اختلاف القراءات باختلاف اللهجات قد انحل على يد اللجنة التي دونت المصاحف الخمسة أيام عثمان بن عفان وعلى يد جامعي الذكر الحكيم في مصحف واحد أيام أبي بكر وعمر، حين كتبوه بلهجة قريش كما يقولون.

من هنا فنحن لا نفهم ولا نرى سبباً يدعونا إلى التمسك بقراءة قوله تعالى {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس} النساء 12، على الوجه الذي قرأها عليه ابن مسعود (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس)، في الوقت الذي أجمعت فيه الأمة على مصاحف عثمان، إلا إن سولت بعض النفوس لأصحابها أمراً. فالله المستعان.

من هذا كله ننطلق في تساؤلنا: هل هناك احتمال بأن تكون بعض هذه الاختلافات في القراءات، مجرد تصحيف في التنقيط تسلل إلى علم القراءات بعد دخول التنقيط؟ مرة أخرى نترك الإجابة للدارسين.

نصل أخيراً إلى أخطر ما لاحظناه، ونحن نتأمل اختلاف القراءات في كتب المفسرين. وننظر في الأمثلة 14،15،16، 18،19، يقول تعالى:

  • {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت} البقرة 102.
  • {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} آل عمران 36.
  • {وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} الأعراف 20.
  • {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم} التوبة 12،13.
  • {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} هود 46.

ونبدأ بآيتي البقرة 102، والأعراف 20. واختلاف القراءات فيهما بكلمة الملكين (بفتح اللام والجمع ملائكة وبكسر اللام والجمع ملوك).

يعتمد الإمام الرازي في تفسيره للآيتين القراءة بفتح اللام، فيعتبر هاروت وماروت من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة. ويعتبر أن إبليس أوهم آدم وحواء بأن يكونا من الملائكة إن هما أكلا من الشجرة، ويعتبر هذه القراءة متواترة وخاصة والخاص مقدم على العام. وينقل عن الإمام الواحدي أن ابن عباس والحسن والضحاك قرؤوها بكسر اللام، وكان ابن عباس يقول: ” ما طمعا في أن يكونا مَلَكَين، وإلا ما بقي فرق بين قوله {إلا أن تكونا مَلَكَين} وقوله {أو تكونا من الخالدين}، وإنما أتاهما الملعون من جهة الملك بدلالة قوله {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} طه 120″.

والمدهش أن الإمام الرازي في تضعيفه لجواب ابن عباس لا يلتفت إلى متانة الجواب ومنطقيته وقوة شاهده القرآني، بل يكتفي بقوله: إن القراءة الأولى متواترة ولا يمكن الطعن فيها. ونتساءل نحن: وهل في القراءات متواتر وآحاد كما في الحديث؟.. لو أن القراءة بالمَلَكَين متواترة كما يقول الرازي فهل القراءة بالمَلِكَين اجتهاد من عند ابن عباس؟.. وهل يجرؤ ابن عباس على معارضة قراءة ثبتت عن النبي بالتواتر، إن كان ثمة قراءات من هذا النوع على الإطلاق؟ فإن لم تكن، هل هناك احتمال يعزو هذه الاختلافات في القراءات إلى تصحيف في الشكل والإعراب تسلل بعد التدوين وثبوت الإعراب على يد أبي الأسود الدؤلي؟ مرة ثالثة نترك الجواب للدارسين.

وننتقل إلى آية آل عمران 36. فنجد الرازي يشير إلى أن أبا بكر قرأها عن عاصم وابن عامر (وضعتُ) بسكون العين وضم التاء. معتبرين أن العبارة من قول امرأة عمران، اعتذاراً عما قد يفهم من أنها تُعلم الله بما يعلم. وأن ابن عباس والباقين قرؤوها (وضعتْ) بفتح العين وسكون التاء، معتبرين أن الجملة اعتراضية من قول الله.

لكن المشكلة ليست هنا، المشكلة في تتمة الجملة الاعتراضية بقوله تعالى {وليس الذكر كالأنثى}، وقد سبق لنا شرح هذه الآية لبيان تأثير المجتمع على فهم النص القرآني. فنحن في مجتمع ذكوري يرى المرأة ناقصة خلقاً وعقلاً وديناً، ويرى تأديبها بالضرب واللكم والرفس إن نشزت، ويرى أنها لا تحجب العم عن الميراث. ثم يجد نفسه أمام قول صريح لله تعالى يبين فيه أن الأنثى أفضل من الذكر إطلاقاً، فما العمل للخروج من هذا المأزق؟ هنا يأتي دور النحويين الفقهاء ليفتوا بأن جملة {والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى} ليست اعتراضية وأنها من قول امرأة عمران، لينتج أن تفضيل الأنثى على الذكر قولها هي وليس قول الله، ويلزم أن تحرك التاء بالضم في قولها (وضعت)، فنخرج من المأزق!! ونتساءل نحن: هل يجوز الضد وضده في قراءات التنزيل الحكيم؟ وهل القضية أساساً قضية اختلاف في القراءات، أم أنها مجرد تخريجة لغوية تسللت بعد موت النبي (ص) وحادثة فدك بين فاطمة وأبي بكر؟

أما قوله تعالى {فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم} التوبة 12. فيقول الإمام الرازي إن نافع وابن كثير وأبو عمر قرأوا (أيمَّة) بالياء المكسورة والميم المشددة، وكانت في الأصل همزتين فأبدلت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين في كلمة، وهذا هو الاختيار عند جميع النحويين، إلا الزمخشري قال في الكشاف: “.. أما بتحقيق الهمزتين فقراءة مشهورة وإن لم تكن مقبولة عند البصريين، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن يكون قراءة، ومن صرح بها فهو لاحن محرف. أهـ” ويقول الإمام الرازي إن ابن عامر قرأ (لا إيمان لهم) بكسر الألف المهموزة والباقون بالفتح.

والمتأمل لما قاله الزمخشري في كشافه يرى:

  1. إن هناك قراءات مشهورة مقبولة عند البعض، غير مقبولة عند البعض الآخر.
  2. إن القراءة بالياء تحريف.
  3. إن قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو ليست بقراءة، ولا يجوز أن تكون قراءة.
  4. إن هناك قراءات، هي ليست بقراءات، دخلت على القراءات.

وهذه آراء خطيرة قال بها إمام لغوي صاحب تفسير.

ننتهي أخيراً إلى قوله تعالى: {قال يا نوح إن ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح} هود 46. فنجد الرازي يقول (ج 18 ص 3،4): “قرأ الكسائي (إنه عملَ غيرَ صالحٍ) على صيغة الفعل الماضي وغير بالنصب، والمعنى إن ابنك عمل عملاً غير صالح يعني أشرك وكذب، وقرأ الباقون (عملٌ) بالرفع والتنوين. فقال بعضهم إن الضمير في (إنه) عائد إلى السؤال، يعني إن سؤال نوح لربه نجاة ابنه لأنه من أهله عمل غير صالح، بعد أن سبق الحكم الجزم بأن لا نجاة للكافرين. وقال بعضهم في معنى قوله {إنه عمل غير صالح} أي أنه ولد زنا وهذا القول باطل قطعاً. أهـ “.

مرة أخرى نقول المشكلة ليست فقط في (عملٌ) أو (عملَ)، وليست فقط في ضمير (إنه) وعلى من يعود، على تذكير نوح لربه بأن الغريق من أهله، أم على الابن الغريق ذاته. المشكلة هي في عصمة الأنبياء والرسل، وتجويزها عليهم أو نفيها عنهم. وأما ماعدا ذلك فتوليفات نحوية قواعدية لغوية، تبحث كل منها عن تغطية تبرر المنطلق الأيديولوجي لصاحبها. والمشكلة هي في آل وأهل النبي أو الرسول ومعصوميتهم، المشكلة بدأت مع امرأة نوح في قوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} التحريم 10.

فامرأة نوح مثال للذين كفروا، لم يغنها زواجها من نوح من الله شيئاً، لأنها خائنة فدخلت النار، ولا يهم كثيراً إن كانت الخيانة جسدية بالزنا، أم عقائدية بالكفر، طالما أن المصير إلى النار. وابن نوح ولد عصى أباه كأب أولاً وعصاه كنبي ثانياً، واستخف بأمر الله، واستكبر متوهماً أن الجبل سيعصمه، فكان من المغرقين. ولا يهم كثيراً إن كان ولد زنا أم لم يكن، ولا يغير من الأمور أن يعود الضمير في إنه عليه أو على غيره، طالما أنه في النتيجة من المغرقين، وطالما أن القصد الإلهي الأول في الآيات بات واضحاً أمام كل ذي لب، وهو أن العبرة عند الله بقرابة الدين لا بقرابة النسب، وأن آل الأنبياء والرسل وأهلهم هم المؤمنون بهم، وليس

أزواجهم وأولادهم وأعمامهم فقط، فنوح لم يغن عن امرأته وابنه من الله شيئاً. أما القصد الإلهي الثاني الواضح في الآيات فهو أن الأنبياء والرسل أنفسهم غير معصومين إلا في حدود الرسالة. وحين نفهم هذا القصد ونقول به فنحن لا نقدح في الأنبياء والرسل ولا نذمهم، كما يحلو للبعض أن يتصوروا وهم يشركون مع الله عبداً من خلقه يقاسمه عصمته وبقاءه، ثم لا يكتفون بهذا، بل يذهبون إلى سحب هذه العصمة على آل بيته من أزواج وأولاد وأحفاد، أو على صحابته، تعالى الله عما يشركون.

ونتساءل نحن: إذا كان مفسرو السلف معذورين في بحثهم عن التخريجات والتوليفات، بحكم وجودهم في مجتمعات تحكمها قرابة النسب بالرسول، من زوجة وعم وابن عم وابنة وحفيد وابن عمة. وتسفك فيها الدماء وتشتعل فيها الحروب والفتن تحت راية القرابة هذه، فهل نحن معذورون اليوم في اعتماد هذه التخريجات والإبقاء عليها كأساس من أساسات ديننا الحنيف، بعد أن زالت سيوف العباسيين والطالبيين والزبيريين والأمويين والفاطميين والحمدانيين عن رقاب الناس.؟!

ونعتقد أن هذا الشرح عن القراءات كافٍ لدحض رأي الشافعي باعتماد الروايات المختلفة للأحاديث متكئاً على وجود القراءات المختلفة، وإنه ليس أكثر من تخريج لاعتماد اختلاف الروايات حتى في الأحاديث المتواترة مثل حديث (من كذب علي متعمداً) متواتر وله خمس عشرة رواية.

إن القول بأن التنزيل الحكيم نزل بلغة قريش أطروحة أصر عليها المستشرقون لقناعتهم بأن النبي (ص) هو مؤلف القرآن وأن النبي قرشي. أما نحن فنقول إن التنزيل الحكيم تمت صياغته بلسان عربي مبين خارج الذات النبوية وجاء إلى رسول الله منطوقاً لا مخطوطاً {وما ينطق عن الهوى} و {نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين} الشعراء 192، 193، 194. وأطروحة نزول التنزيل بلغة قريش وأطروحة القراءات المتعددة هي أطروحة ضعيفة. وأما القول بأن العرب أنفسهم نطقوه بلهجاتهم المختلفة بعد أن سمعوه وأجازهم الرسول، وهذا أمر إنساني بحت. ونرى أن مفهوم القراءات ظهر من هذه الحقيقة، ولا علاقة للوحي بذلك.

إذا كانت حاجتنا كبيرة وملحة إلى إعادة قراءة كتاب الله تعالى، وكتب تفسيره، وكتب الحديث النبوي والسيرة، وكتب التاريخ والأخبار، قراءة معاصرة بعين اليوم الحاضر المعاش، فإن حاجتنا أكبر إلى إعادة النظر في الأصول التي ننطلق منها وبها في هذه القراءة. إذ لو حاولنا أن نقرأ اليوم الذكر الحكيم، في ضوء الأسس الموضوعة في القرن الثاني الهجري التي تنطلق من الترادف، وتفترض الحشو والعبثية، وتقول بالنسخ وبأسباب النزول، فلن نرى أكثر مما رأى أسلافنا، ولن نصل إلى أبعد مما وصلوا إليه.

ولو حاولنا أن نعيد قراءة الحديث النبوي وكتب السيرة والأخبار، بعين الشروط والقواعد التي تعتمد المذهبية في تعديل الرجال وجرحهم، والسند في تحسين الحديث وتضعيفه، وننطلق من أن الوحي وحيان، وأن الحديث ينسخ القرآن، وأن التنزيل أحوج إلى الحديث والسنة منهما إليه، ونرتكز في العصر النبوي على العصمة للنبي، دونما تفريق بين دوره كرسول ودوره كنبي ودوره كإنسان بشر، وفي العصور اللاحقة على العصمة الموروثة بقرابة النسب حيناً، وبالعلم والعدالة حيناً آخر. نقول لو أعدنا قراءة الحديث ضمن هذا كله مائة مرة، فلن نحقق أكثر مما تحقق، ولن نستطيع أن نقول أكثر مما قيل.

من هنا، فنحن نرى أن علينا وضع أسس وأصول معاصرة جديدة إذا أردنا إنتاج فقه إسلامي جديد، وأن علينا أن نتذكر دائماً ونحن نفعل هذا، أن ما نقوم به هو مجرد قراءة ثانية وليست الأخيرة، فالأيام تدور، والتطور دولاب لا يتوقف، والعين القارئة تتغير بتغير الزمان والمكان والأرضية المعرفية. الثابت الوحيد الباقي هو الله سبحانه وكتابه العزيز. والصيرورة التي سننتهي إليها نحن اليوم، ستتحول إلى سيرورة غداً، تحمل أهل الغد إلى صيرورة جديدة، أما النتيجة النهائية فهي يوم يرث الله الأرض وما عليها.

أسس القراءة المعاصرة

وندرج أدناه بعض ما يصلح نواةً لأسس جديدة وأصول معاصرة:

  1. التنزيل الحكيم خال من الترادف، في الألفاظ وفي التركيب. فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين والأولاد غير الأبناء والفؤاد لا يعني القلب، والقلب لا يعني الفؤاد. وللذكر مثل حظ الأنثيين لا تعني للذكر مثلا حظ الأنثى.
  2. التنزيل الحكيم خالٍ من الحشو واللغو والزيادة، فما اعتبره النحاة زائداً في النحو، ليس زائداً في الدلالة.
  3. التنزيل الحكيم يحوي أعلى مستوى من البلاغة. فهو الكتاب الوحيد الذي يمثل في جميع آياته الخيط الفاصل بين التطويل الممل والإيجاز المخل، ولهذا فعلينا أن نقرأ المسكوت عنه الذي اقتضته البلاغة، كما في آية المواريث حيث سكت عن الذكر في قوله تعالى {وإن كانت واحدة فلها النصف} وفي قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} النساء 11.
  4. التنزيل الحكيم دقيق في تراكيبه ومعانيه، فالدقة فيه لا تقل عن مثيلتها في الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات. وهذا أمر طبيعي، فصانع هذا الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، وخالق هذا الإنسان بأعصابه وأوردته وشرايينه وعظامه ولحمه وجلده وشعره وأجهزة السمع والبصر والإدراك، هو ذاته صاحب التنزيل، الذي لابد وأن تتجلى في دقته وحدة الصانع ووحدة الناموس. فلكل حرف فيه وظيفة، ولكل كلمة فيه مهمة، وقوله تعالى {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} النساء 11.

لا تعني أبداً (ولوالديه لكل واحد منهم السدس). لذا فإن تطور مستوى الدقة عندنا أعلى بكثير من مستوى الدقة عند السلف، فالكون هو الكون، ولكن مستوى الدقة عندنا الآن في دراسة الكون أعلى بكثير مما كان عليه في القرن الماضي. واستعمال دقة العصر هو من أساسيات القراءة المعاصرة.

1 – التنزيل الحكيم يحوي المصداقية والأهمية، فهو صادق متطابق مع الواقع ومع القوانين الطبيعية، وهو إلى جانب ذلك خالٍ من العبث. فعندما يقول تعالى {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون} الحاقة 41، ويقول {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} يس 69. فهذا خبر صادق، ولكن أين أهميته وفائدته، وكل من عايش النبي على مدى أربعين عاماً يعرف أنه ليس بشاعر؟. نقول: الأهمية تكمن في أنه تعالى يحذرنا من أن ننظر إلى التنزيل نظرتنا إلى الشعر، ومن أن نتعامل مع آياته كما نتعامل مع الأبيات الشعرية، فالشعر وهم، أهله في كل واد يهيمون، والتنزيل واقع، والشعر خيال يقول أصحابه مالا يفعلون والتنزيل صادق، والشعر يتبعه الغاوون وأهل الأهواء والتنزيل يتبعه المؤمنون أصحاب العقل واللب والتفكر والنظر.

والله تعالى يخاطب المشركين ممن زعموا أن القرآن شعر، فيقول طالما أن النبي ليس بشاعر، وهذا أمر تعرفونه جميعاً ولا تنكرونه، كذلك التنزيل ليس بشعر فصدقوه، ويخاطب المؤمنين في الوقت ذاته يحذرهم من التعامل مع التنزيل بنفس الطريقة التي يتعاملون بها مع الشعر. وهذا أرقى مستويات البلاغة. ومن المؤسف أنه إلى الآن يقارن التنزيل الحكيم بالشعر، وأنه تحدى الشعراء وهذا غير صحيح فهو تحدي كل أهل الأرض وليس الشعراء.

2 – التنزيل الحكيم هدى للناس ورحمة للعالمين، ومن هنا فهو يحمل الطابع الإنساني لا العروبي، ويجب بالتالي أن نرى مصداقيته رأي العين في كل أنحاء العالم وليس في المجتمع العربي فقط، وعلى مر العصور والدهور وليس في عصر النبوة والصحابة فقط.

3 – التنزيل الحكيم يضم بين دفتيه نبوة محمد (ص) كنبي، ورسالته كرسول. وآياته من هذه الزاوية تضم آيات النبوة التي تشرح نواميس الكون وقوانينه وتحتمل التصديق والتكذيب، وآيات الرسالة التي تشرح الأحكام والأوامر والنواهي وتحتمل الطاعة والمعصية. أما آيات النبوة فهي المتشابهات التي تخضع لثبات النص وحركة المحتوى، ويمكن إعادة قراءتها في ضوء تطور الأرضية المعرفية على مر العصور والدهور.

وأما آيات الرسالة فهي المحكمات التي لا يمكن أن تكون صالحة لكل زمان ومكان إلا إذا كانت حدودية، حنيفية، قادرة على التطابق بمرونة مع متغيرات الزمان والمكان، أي أنها قابلة للاجتهاد وللمطابقة مع الظروف الموضوعية المستجدة في المجتمعات الإنسانية، لذا فلا يكون الاجتهاد إلا في النص، أما خارج النص فافعل ما تشاء.

4 – تتجسد حدودية آيات الأحكام في التنزيل الحكيم بحدود الله. ونميز فيها نوعين: الأول حدود لا يجوز تعديها وتجاوزها إنما يجوز الوقوف عليها، كحدود الإرث في قوله تعالى {تلك حدود الله.. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً} النساء 14. والثاني حدود لا يجوز الاقتراب منها ولا الوقوف عليها، كحدود الصوم في قوله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل.. تلك حدود الله فلا تقربوها} البقرة 187.

ونفهم أن الصيام حقلٌ، حد البداية فيه هو تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وحد النهاية فيه هو الليل. لكن الله تعالى يرشدنا هنا إلى عدم الاقتراب اللصيق بحد البداية وحد النهاية. بل نترك مسافة أمان، قبل الفجر بدقائق وبعد الغروب بدقائق. ومثله حد الزنا، فهو من الحدود التي لا تحتمل الوقوف عليها، لأن الوقوف فوق حد الزنا زنا، ويجب أن نترك مسافة أمان تفرضها أعراف المجتمع وتقاليده.

5 – ليس ثمة ناسخ ومنسوخ بين دفتي المصحف الشريف. فلكل آية حقل، ولكل حكم مجال يعمل فيه. أما مصداقية قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير} البقرة 106، فتظهر في النسخ بين الشرائع. إذ هناك محرمات حرمتها شريعة موسى، ثم جاء عيسى المسيح ليحللها، بدلالة قوله تعالى {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} آل عمران 50، وجاء محمد (ص) لينسخ برسالته بعضاً مما نزل في رسالة موسى، كالزنا واللواط وليستبدلها بأحكام أخرى، وليضيف أحكاماً لم تنزل من قبل، كالسحاق والوصية والإرث.

أما النسخ بالمعنى والمفهوم الشائع اليوم، الذي يصل بعدد الآيات المنسوخة إلى عدة مئات، والذي يحول الجهاد إلى غزو، ويستبدل السيف بالموعظة الحسنة، فهو ليس عندنا بشيء. فنحن نرى النسخ لا يقل أهمية أبداً عن تنزيل الآية والحكم أول مرة، ونرى أن طريقة التوثيق والبينة التي اعتمدتها لجان جمع آيات التنزيل أيام أبي بكر وعمر وعثمان، هي ذاتها التي كان يجب اتباعها في إقرار وتحديد المنسوخ من كتاب الله.

إضافة إلى أننا ننطلق من أن صاحب التنزيل هو وحده صاحب الحق بالنسخ، وناقل التنزيل هو وحده المسؤول عن إبلاغه للناس، في الوقت الذي لا نجد فيه خبراً ثابتاً يؤيد النسخ، اللهم إلا بعض المتناثرات هنا وهناك، التي لا تليق بموضوع هام أساسي كالنسخ مما يدل على انعدام المسؤولية عند من قال به.

6 – الإجماع هو إجماع الناس الأحياء على تشريع (أمر / نهي / سماح / منع) ليس له علاقة بالمحرمات الـ 12. كالتدخين الذي يمكن منعه بعد ثبوت أضراره، عن طريق الاستفتاء والمجالس الشعبية والبرلمانات. وكالتعددية الزوجية التي يمكن منعها لا تحريمها وذلك عن طريق الاستفتاء أو البرلمان.

7 – القياس هو ما يقوم على البراهين المادية والبينات العلمية التي يقدمها علماء الطبيعيات والاجتماع والإحصاء والاقتصاد. فهؤلاء هم المستشارون الحقيقيون للسلطة التشريعية والسياسية، وليس علماء الدين ومؤسسات الإفتاء، وبهذه البينات يتم السماح والمنع لا التحليل والتحريم.

8 – إن توضيح الفرق بين التحريم والنهي والمنع وبين التحليل والأمر والسماح، ومعرفة الدور الإلهي ودور أولي الأمر ودور الناس في كل منها، في ضوء أن المحرمات الـ 12 لا تخضع للاجتهاد ولا للإجماع ولا للقياس، يساعد كثيراً في إخراج الخطاب الإسلامي المعاصر، من حيز المحلية إلى حيز العالمية كرحمة للعالمين.

9 – وإن فهم الدور النبوي في عصره، بأنه اجتهاد في حقل الحلال تقييداً وإطلاقاً من أجل بناء المجتمع والدولة تاريخياً في ضوء متغيرات الزمان والمكان (التاريخ والجغرافيا)، هو الطريق الوحيد لتطبيق ما قاله علماء الأصول بأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، الأمر الذي نراه أساسياً لخروج الخطاب الإسلامي عند المؤمنين من إطار المكان (شبه جزيرة العرب)، ومن إطار الزمان (القرن السابع الميلادي) إلى العالم بأكمله وإلى الناس جميعاً.

[105 – السنة النبوية شيء، وكتب الحديث بمسانيدها وموطآتها وصحاحها وسننها ومستدركاتها وشروحها شيء آخر. وأهمية الحديث النبوي تنبع من أهمية الحقل الذي يدور حوله الحديث. فالأحاديث النبوية في الإرث وفي الحض على رعاية اليتيم وفي حق الجيرة والجار ليست في أهمية مثيلاتها من أحاديث الاحتباء بالمسجد ولعق الأصابع وخصف النعل ورقع الثوب. ولا نعني بهذا الاستخفاف أو نفي الأهمية إطلاقاً عن بعض الأحاديث.

هذه هي أبرز النقاط التي نراها صالحة كمنطلق لقراءة ثانية للكتاب والسنة، على ألا ننسى أنها ليست القراءة الأخيرة، وإلا لوقعنا فيما وقع فيه السلف والسلفيون والآباء والآبائيون. فالذي يدعي فهم كتاب الله ككل من أوله إلى آخره فهماً مطلقاً، إنما يدعي شراكة الله في المعرفة في ضوء قوله تعالى {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} الرعد 43.

رأي للأستاذ جمال البنا

لقد أورد الأستاذ جمال البنا في كتابه (السنة ودورها في الفقه الجديد)(10) عدة أمور تنتج عن عرض الأحاديث على التنزيل الحكيم وذلك من الصفحة 249 – 260 قال فيها:

” وعرض الأحاديث على القرآن سيؤدي إلى:

1 – التوقف أمام الأحاديث التي جاءت عن المغيبات بدءاً من الموت حتى يوم القيامة والجنة والنار: فهذه هي ما استأثر الله بعلمها. وحتى لو كشف عنها للرسول. فليس لكي يقولها للناس لأنها لن تعد غيباً، وقد قالت السيدة عائشة (رض) من “زعم أن محمداً يعلم ما في غد فقد أعظم الفرية على الله”، وتحدث القرآن مراراً وتكراراً عن الساعة ووضح للرسول ماذا يقول عنها:

  • {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} الأعراف 187.
  • {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام} لقمان 34.
  • {يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله} الأحزاب 63.
  • {يسئلونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها} النازعات 42.

وتحدث القرآن عن الغيب وأكد أنه “لا يعلم الغيب إلا الله”.

  • {وما كان الله ليطلعكم على الغيب} آل عمران 179.
  • {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب} الأنعام 50.
  • {قل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين} يونس 20
  • {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} هود 123.
  • {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} النحل 65.
  • {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} الجن 26.

فهذه الآيات صريحة في أنه لا يعلم الغيب إلا الله وقد أمر الرسول بأن يكل الأمر إلى الله سواء كان عن الساعة أو ما بعدها.

فإذا كان الأمر كذلك، وإذا كانت الآيات صريحة وجازمة، فلا غضاضة علينا إذا توقفنا أمام كل الأحاديث التي تأتي بتفاصيل عديدة من مفردات هذا الغيب.

كما أن النص القرآني {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين} السجدة 17. تجعلنا نتوقف أمام كل ما جاء عن تفاصيل للجنة. خاصة والحديث النبوي “فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر” يؤيد هذا ويتفق مع القرآن.

ويدخل في الغيب ذات الله تعالى وعرشه وكرسيه.. إلخ. فهذا لا يجوز الحديث إلا بما جاء به القرآن.

ويدخل في الغيب التنبؤ بما سيحدث قبيل الساعة مما يسمونه (الفتن) ويدخل فيهما المهدي والدجال، وما إلى هذا كله.

والأحاديث التي تتحدث عن الفتن، والمهدي والدجال ثم الموت وعذاب القبر فالحشر والنشر والجنة والنار تجاوز المئات إلى الألوف، ونحن نطويها دون حساسية أو أسى.

ويدخل في هذا الباب أيضاً الأحاديث التي دست من الإسرائيليات، بدءاً من خلق الله تعالى الكون في الأيام الستة ثم خلق آدم “على هيئة الله” ثم حديث الحية. حتى أخبار موسى ولقائه بملك الموت وما ادعوه على سليمان وداوود.. إلخ. فهذه الأحاديث نقول مشوهة من العهد القديم الذي نالته يد التحريف مراراً وتكراراً نتيجة لقدم العهد والترجمة من لغة إلى أخرى فضلاً عن المصالح المكتسبة.

2 – نحن نتوقف أمام كل الأحاديث التي جاءت بتفسير المبهمات في القرآن، وكل ما جاء عن نسخ في القرآن أو وجود آيات أو سور ليست في المصحف. كما نتوقف عن الأحاديث التي جاءت عن أسباب النزول.

وتوقفنا هنا لسبب موضوعي وآخر شكلي، أما الموضوعي فهو أن الله تعالى أراد لهذه المبهمات أن تظل مبهمة ولو أراد العلم بها لذكره. ولكن ذكر هذه المبهمات يخالف أصلاً قرآنياً هو الاقتصار على الكليات، والتركيز على المغزى وليس السرد القصصي، والتفاصيل بالإضافة إلى تمييعها للأسلوب، وتشتيتها للاهتمام تكون على حساب المغزى، وتثير قضية الإثبات التاريخي المعقدة التي قلما يتوصل إليها.

أما السبب الشكلي فهو أن هذه الأحاديث تحكم روايات معظمها ركيك وسقيم ومشبوه ويناقض بعضها بعضاً في التنزيل الحكيم قطعي الثبوت. ولا يمكن لمثلها أن تتصدى لمثله. فهي مرفوضة شكلاً بعد أن رفضت موضوعاً.

وأي واحد يقرأ القرآن ثم ينظر في هذه الروايات فكأنما انحط من حالق أو خر من السماوات المفتوحة المشرقة إلى الأزقة المظلمة المهلكة.

3 – وهناك أحاديث تخالف الأصول القرآنية – وبوجه خاص العدل. وما جاء به القرآن من تحديد المسؤولية الفردية، وأنه لاتزر وازرة وزر أخرى. فحديث (الوائد والموؤدة في النار) وأحاديث تعذيب الميت ببكاء أهله كلها تخالف هذا المبدأ المقدس من مبادئ الإسلام.

4 – نحن نتوقف أمام كثير من الأحاديث التي جاءت عن المرأة بدءاً من خلقها من ضلع أعوج حتى حجابها حتى لا تظهر إلا عيناً واحدة كما نطوي كل الأحاديث التي جاءت عن الزواج والطلاق وأحكام الرقيق وأحاديث الفيء والغنائم باعتبارها خاصاً بمرحلة معينة انتهت وطويت. ويجب أن تعالج اليوم في ضوء الثوابت القرآن.

5 – كذلك نحن نستبعد الأحاديث المتكررة عن معجزات الرسول من شق الصدر أو حنين الجذع.. إلخ. لأنها تخالف القاعدة المحورية في الإسلام ألا وهي أن معجزة الإسلام هي القرآن وأنه لم يحدث أن حمل الرسول أحداً على الإيمان نتيجة لمعجزة جلاها وإنما حملهم على الإيمان بما كان يتلو عليهم من قرآن. وذكر هذه المعجزات يوهن من أثر القرآن، ومن حقيقة أن الإسلام عندما جعل معجزته كتاباً كان يؤذن بعهد العقل والفكر والكلمة، وينهي عهد المعجزات والإذعان. ونصوص القرآن صريحة في نفي كل معجزة سوى القرآن.

6 – ونحن نتوقف أمام كل الأحاديث التي تكفل ميزة خاصة لأشخاص أو أماكن أو قبائل.. الخ. لأنها تخالف قاعدة رئيسية من قواعد الإسلام هي أن الميزة إنما تكون بالعمل والتقوى وليست بالأحساب أو الأنساب.. وأن الله تعالى اصطفى بني إسرائيل، ولكنهم لما لم يقوموا برسالتهم غضب عليهم وأنزلهم أسفل سافلين مما يوضح أن الحظوة عند الله إنما تكون بالعمل، كما أن هذه الأحاديث تخالف أحاديث عديدة تنفي أن يكون للقربى أثر “يا صفية يا فاطمة اعملي فإني لا أغني لك من الله شيئاً”.

وطبقاً لهذه فإن الأحاديث عن فضائل قريش، بما فيها “الأئمة من قريش” أو غيرها من قبائل العرب أو الفرس أو الترك.. الخ. وكذلك الأحاديث عن فضل مدن أو أماكن معينة باستثناء مكة لوجود البيت العتيق بها، والمدينة لوجود مثوى الرسول بها، وما أشبه، والأحاديث عن فضل الصحابة أو آل البيت باستثناء ما نص عليه القرآن من مودة في القربى أو (العترة) أو حتى الخلفاء الراشدين، كل هذه الأحاديث لا تكون لها قيمة إذا تجردت من العمل، بل أنها تخالف القاعدة الرئيسية في الإسلام وهي أن العمل هو مبرر الثواب والعقاب، الرفعة أو الضعة.

وهناك أحاديث تنص على اتباع السنة ونحن نتقبلها إعمالاً لآيات القرآن واعترافاً بفضل الرسول – ولكننا عندما يضم الحديث إلى سنة الرسول “وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي أو عترتي” فهنا لا يخالجنا شك في أن هذه الإضافة موضوعة، فليس في الإسلام توريث للنبوة أو مشاركة فيها..

7 – الأحاديث التي تخالف الآيات العديدة في القرآن الكريم عن حرية الاعتقاد، وبوجه خاص الحديث المتداول “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها” وكذلك الحديث “من بدل دينه فاقتلوه) نعتبرها – إذا صحت وهو احتمال بعيد – تمثل ملابسة طارئة في ظرف معين من الظروف التي تحكمت في الدعوة وأن حكمها انتهى، ومن الخطأ البالغ الاستشهاد بها الآن. لمخالفتها المبدأ القرآني في حرية العقيدة.

8 – هناك أحاديث جاءت بما لم يأت به القرآن، نحن نحكم عليها في ضوء القرآن فما لا يخالف القرآن يقبل وما يخالفه يستبعد. فتحريم زواج المرأة على عمتها وخالتها. وتحريم لحم الحمر الأهلية أمور لا نرى مانعاً فيها، ونجد فيها قياساً سليماً. وهناك أحاديث مثل المسح على الخفين فنحن نتقبلها كرخصة من حق الرسول تقريرها لأنه {رحمة للعالمين} و {عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} وأنه {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم} وهي تتفق مع مبدأ التيسير، وهو أصل إسلامي جاء به القرآن والرسول فنحن نتقبل شاكرين هذه الرخصة، ونرى أنها من صلاحية الرسول أما غسل الأقدام في الوضوء فنحن نرى له حكمة لا تخفى، وإن كنا نجيز المسح إعمالاً للآية.

ولكننا نتوقف عند حديث الرجم لأنه يخالف النصوص القرآنية التي جاءت عن الزنا، ولأنه يمثل عقوبة أقسى مما جاء به القرآن. وللرسول أن يسن ما فيه تخفيف ورحمة. بحكم ما سمح به القرآن له. وأشرنا إليه. ولكن لا يجوز أن يسن حكماً أقسى مما جاءت به الآيات {لست عليهم بجبار}. ويبدو أن الرسول طبق ما جاء في التوراة وخاصة وأن التطبيق الأول للحد إنما كان على يهوديين. ويعد هذا العمل من اجتهاد الرسول أما الذي ينسبه إلى وحي فيغلب أن يكون موضوعاً.

قد يقال لماذا لم يصحح جبريل هذا الاجتهاد إذا لم يكن مصيباً. فنقول إن عدم التصحيح هو الأمثل لأن تصحيح جبريل يعطيه مصداقية أكثر من اجتهاد الرسول. ومن ثم فكان مما يتفق مع مبادئ القرآن أن يظل هذا الحكم في إطار اجتهاد الرسول.

9 – نحن نتوقف أمام كل الأحاديث التي تنذر بعقاب رهيب على أخطاء طفيفة، وتعد بنعيم مقيم لكل من يتلو أوراداً أو يصلي نوافل.. لمخالفة ذلك لمبادئ العدالة، ولأصول الإسلام. ومن الواضح أن يد القصاص قد وضعت كل هذه الأحاديث من نوع من استمع إلى الغناء (صب في أذانه الآنك) وهو الرصاص المصهور. ويدخل في الأحاديث التي توعد المرأة بالعذاب الأليم إذا تطيبت أو تزينت أو خرجت من بيتها.. وقد كان الرسول نفسه يحب للمرأة أن تختضب، ورفض أن يبايع امرأة لم تختضب (كأنما يدك يد سبع!!) وقد يدفعنا هذا للشك في الأحاديث التي تنص على أن الرسول لم يمس يد امرأة في مبايعته لهن.

10 – الأحاديث التي جاءت عن الأكل والشرب واللبس والزي والسير والركوب وما إلى ذلك من شؤون الحياة الدنيا لا تعد ملزمة في شيء وإنما هي أخبار عن واقع الحياة اليومية في جزيرة العرب في القرن الأول الهجري، وتؤخذ كجزء من التاريخ. وقد يكون لها دلالة في تفضيل البساطة، وكراهية التكلف، والتنديد بالترف وهذه المبادئ هي مما نص عليها القرآن. ونحن نتقبل تحريم الرسول للحرير والذهب على الرجال باعتباره قاعدة من قواعد السلوك الاجتماعي السليم وليس في تحريمه أي عنت.

11 – نحن نؤمن أن الأحاديث التي تنص على طاعة الحكام والصلاة خلف كل بر وفاجر موضوعة أُريدَ بها إسكات الناس عن المعارضة، وإلزامهم الطاعة، وهي بعد هذا كله تعارض أحاديث تقضي بضرورة مقاومة الحكام الطغاة والأخذ على يدهم وهو ما يتفق مع توجيه القرآن وروح الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو أن بعضها أسيء فهمه لأنه بالنسبة للحاكم فإن الكفر البواح هو الظلم الذي جعله القرآن مثيلاً للشرك. وهذا ما لم يفهمه الفقهاء من الحديث (إلا أن تروا كفراً بواحاً فيه لكم من الله برهان). فالظلم هو الكفر البواح الذي لنا فيه من القرآن برهان فضلاً عن أن هذه الأحاديث تعارض مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أوجبه القرآن، وتعارض أحاديث عديدة توجب الأخذ على يد الحاكم الظالم وهي أحاديث أكثر عدداً وأقوى سنداً ومتناً، ولهذا نتقبل حديث (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله) ولكننا نتوقف أمام إضافة (ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني) ونرى فيها عطفاً غير سائغ وتجوزاً يخالف الأحاديث النبوية. ويخالف النص القرآني {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} فإن القرآن ربط الطاعة لأولي الأمر بصيغة الجمع.

ويدخل في أولي الأمر العلماء وممثلو الهيئات الشعبية.. الخ. في حين أن الأحاديث السابقة توجب الطاعة للأمير.

12 – نحن نستبعد حديثين عن الميراث نسخا ما جاء في القرآن وقد شرح هذا الموضوع باحث عني به بوجه خاص وهو الأستاذ إبراهيم فوزي في كتابه (أحكام الأسرة في الجاهلية والإسلام – دار الكلمة – لبنان ص 195) فقال: أسند إلى النبي (ص) حديثان نسخ بهما جانباً كبيراً من أحكام الإرث التي جاءت في القرآن هما:

الحديث الأول عن عبد الله بن عباس عن النبي (ص) أنه قال: {الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر): ويقصد بأهل الفرائض هم الورثة الذين حددت الشريعة ميراثهم بسهام مقدرة من التركة، ومعنى الحديث إعطاء هؤلاء الورثة فروضهم أولاً، وإعطاء ما بقي منها إلى أقرب رجل إلى الميت من جهة الأب، وهم العصبات الذكور الذين كانوا يرثون لوحدهم في الجاهلية، وحرمان من هم في درجتهم من نساء وذوي الأرحام من الميراث معهم. وقد نسخ هذا الحديث جملة من الآيات والقواعد العامة التي أقام عليها تشريع القرآن، وحل محلها أحكاماً مضطربة ومعقدة لا تقوم على مبدأ اجتماعي ثابت، نلخصها بما يلي:

أولاً: لقد نسخ حديث ابن عباس آيتين من القرآن هما:

الآية الأولى: {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد}.

الآية الثانية:{يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد. فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك، وإن كانوا أخوة رجالاً ونساء للذكر مثل حظ الأنثيين}.

ثانياً: إن حديث (ألحقوا الفرائض بأهلها..) قد أخل بالقواعد الاجتماعية التي قام عليها تشريع القرآن.

  1. فنظام الإرث في القرآن يقوم على قاعدة (الأقرب يحجب الأبعد)، أو كما عبرت الحديث بهذا النظام وصار يجوز للبعيد أن يرث، وأن يحرم القريب، أو يرث أكثر منه.
  2. يقضي نظام الإرث في القرآن بتوريث المرأة مع الرجل الذي هو في درجتها، إما على أساس (للذكر مثل حظ الأنثيين) كبنت مع ابن، وأخ مع أخت. وإما على أساس المساواة بين الذكر والأنثى، كأبوين مع الأولاد وكأولاد مع الأم. وقد أخل حديث ابن عباس بهذين المبدأين، عندما قضى بتوريث الرجال فقط بعد الدرجة الثالثة وحرمان النساء من الميراث معهم، على نحو ما كانت عليه حالتهن في الجاهلية.
  3. يقضي تشريع القرآن بتوريث الأقارب من جهة الأم مع الأقارب من جهة الأب عندما يكونون بدرجة واحدة من القرابة إلى الميت، كما نصت عليه الآيتان (12، 176) من سورة النساء، وقد أخل حديث ابن عباس بهذا المبدأ عندما حصره بأولاد الأم، وحرم باقي ذوي الأرحام من الميراث مع العصبات، وإبقائهم كما كان عليه حالهم في الجاهلية.

الحديث الثاني: الذي نسخ أحكام القرآن هو الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجه عن النبي (ص) إنه قال: (اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة). هذا الحديث يجعل الأخت إذا اجتمعت مع البنت، ولم يكن معها أخ كالأخ العصبي في الميراث. ترث مثله ما بقي من فرض البنات، وتحجب عن الميراث مثلما يحجب الأخ من يليه من العصبات الذكور. وهذا الحديث يتعارض أيضاً مع آية الكلالة 176 من سورة النساء، لأن الأخت لا ترث بمقتضاها شيئاً مع البنت. كما أن هذا الحديث يناقض حديث (ألحقوا الفرائض بأهلها) لأن الأخت ليست بصاحبة فرض مع البنت وليست برجل ذكر، إذ لو كانت صاحبة فرض لوجب أن تأخذ سهماً مقدراً من التركة، لا أن تأخذ ما بقي من فرض البنات ” (انتهى الاقتباس من كتاب الأستاذ جمال البنا ” السنة ودورها في الفقه الجديد”).

أما نحن فلنا شرح آخر في المواريث الواردة في هذا الكتاب.

خاتمة البحث:

نحن الآن على مشارف نهاية القرن العشرين، وقد مضى على الرسالة المحمدية حوالي أربعة عشر قرناً. وعرفنا عن العالم والكون أكثر كثيراً مما عرف الأسلاف. وأمامنا قوله تعالى {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} الأعراف 158. وقوله تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم 30.

أفلا يحق لنا أن نتساءل: أين هي مصداقية العالمية في الرسالة المحمدية؟ وأين هي المصداقية في أن ديننا دين الفطرة والحنيفية؟ أفلا يحق لنا أن نتساءل أين هي العالمية وأين هي الفطرة، ونحن نرى الفقه الإسلامي التاريخي يكرس المحلية، ويختصر خطاب الله للناس فيحصره في العرب، ويختزل الكرة الأرضية في شبه جزيرة العرب، والتاريخ في عصر النبوة، ويختصر السلوك الإنساني عبر السيرورة الزمانية بمجموعة من الخلق بعينها عاشت في يثرب؟

نحن لا نقول كما يتوهم البعض ببتر جذورنا التاريخية، فالغبي فقط هو الذي يقول بهذا، نحن نقول تعالوا نصنع من أنفسنا جذراً جديداً، بدلاً من أن نعيش اليوم على جذور تاريخ مات أهله. تعالوا ننظر إلى عالمنا اليوم بعين اليوم دون أن نستعير نظارات الشافعي والمالكي والحنفي الذين لم يخطر لهم وهم يعيشون عصرهم أن يستعيروا نظارات أحد. وقد آن لنا أن ننتقل من الفكر الماضوي إلى الفكر المستقبلي، وهذه إحدى آفات العقل العربي أنه عقل ماضوي لا عقل مستقبلي.

ولا نقول كما يتهمنا البعض بنبذ السنة النبوية(11) على صاحبها أفضل الصلاة والتسليم، فالأحمق فقط هو الذي يؤمن برسالة ثم يدعو إلى نبذ حاملها. ونحن بفضل الله مؤمنون بالله ورسوله وكتابه، ومؤمنون بيوم تجزى فيه كل نفس بما كسبت.

قالوا: السنة شارحة للكتاب مبينة لأحكامه. ونحن نقول: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. فثمة 6234 آية في التنزيل الحكيم ضمن 114 سورة، لم يشرح الرسول أكثر من 15% منها في أحسن الأحوال ومعظمها تعليقات لا شروح، بدلالة كتب الصحيح. وكيف تكون السنة شارحة للكتاب وهناك سور بأكملها لم يقل الرسول فيها حرفاً واحداً؟ وكيف نفهم أن مهمة الرسول بيان التنزيل وشرحه، ثم نجد بين أيدينا عشرات التفاسير، إن اتفقت على مدلول آية اختلفت في غيرها؟ وإذا كان شرح التنزيل من مهمات النبي (ص) لكان بالأحرى أن يشرح آية تربط كتاب الله من أوله إلى آخره وهي الآية 7 من سورة آل عمران {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} فإذا فتحنا كل كتب التفسير نرى فيها آراء عديدة في شرح الآية وكذلك لم يشرح لنا معنى (المص، ألم، يس).

وقالوا: السنة حاكمة على الكتاب قاضية فيه ناسخة له، والقرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن(12). ونحن نقول: لقد أخذكم الشطط حتى أنساكم أبسط قواعد العقل والمنطق، فالفرع لا يمكن أن يحكم الأصل. وأخذكم تقديس السلف وتقديس التراث حتى كذّبتم الله في آياته وأنتم لا تشعرون، فالقرآن واضح بيّن، تام كامل، فيه الهدى وفيه تفصيل كل شيء، وحين يحتاج بحسب قولكم فهو ناقص، لأن الكامل لا يحتاج غيره. وهذا يكذّب قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} المائدة 3.

وقالوا: “العلماء ورثة الأنبياء” (الترمذي 2606)، والعلماء هم رجال الدين العارفون بالفرائض والشعائر، ثم نسبوا ذلك كله إلى النبي. ونحن نقول: لقد سبق أن نسبتم إلى النبي (ص) قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث). والقول بأحدهما يسقط الآخر، ولا يقول بالاثنين معاً إلا ساذج يتصور الناس أغبياء.

وقالوا: الأنبياء يعلمون الغيب، معصومون في كل ما يقولون وفي كل ما يفعلون. والأئمة والأولياء والعلماء بحكم الوراثة يعلمون الغيب، معصومون في كل ما يقولون وما يفعلون. ونحن نقول: هذه كلمة حق يراد بها باطل. فالغيب أصلاً محصور بالله وحده. ومن هنا جاء وصفه تعالى لنفسه بأنه {علام الغيوب} المائدة 109. وبأنه {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً} الجن 26.

والآيات في ذلك كثيرة. لكنه سبحانه حين اصطفى الأنبياء، زودهم بعلوم غيبية محددة لا يعرفها أقوامهم تكفي لإثبات نبواتهم ليس من بينها أبداً علم غيب المستقبل. وهذا بالضبط ما عناه التنزيل الحكيم على لسان الرسول العربي (ص) يقول لقومه {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} الأعراف 188. أما إخبارهم عن وجود الله واليوم الآخر (وهو غيب) فهو مما أطلعهم الله عليه. وأما حكمهم صلوات الله عليهم جميعاً على فلان من الناس بأنه في الجنة وعلى علان من الناس بأنه في النار، فليس رجماً بالغيب المستقبلي كما يتوهم البعض، بل هو الحكمة النبوية التي تستقرئ أعمال الإنسان وسلوكه وتستشرف النتائج التي تقود إليها تلك الأعمال وهذا السلوك، وهذا كله شيء، والعلم بالغيب مطلقاً شيء آخر.

ويدلنا على هذا قول الملائكة {سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} وقول موسى لفرعون وقد سأله عن القرون الأولى {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}. وإذا ثبت جهل الغيب مطلقاً على الأنبياء وهم الأصل، كان ثبوته على الأئمة والأولياء والعلماء أولى.

وأما العصمة فللرسل ضمن حدود الرسالة، والمقصد الإلهي من ذلك واضح لكل متأمل. فالرسل في حدود تبليغ رسالات ربهم إلى الناس، معصومون من الناس فلا يتأثرون بضغط ولا ينصاعون لرأي ومعصومون من أنفسهم، فلا يزيدون ولا ينقصون، ولا يقدمون ولا يؤخرون، ولا ينسون ولا يسقطون، ولا يخلطون ولا يتوهمون. وهذا كله ليصدق قوله تعالى في وصف كتابه العزيز {ذلك الكتاب لا ريب فيه} البقرة2. ولولا ذلك لارتاب المبطلون. ويفسر هذه العصمة للرسل أنه تعالى وصل طاعتهم بطاعته حيناً، وأمر بطاعتهم منفصلين حيناً آخر، هذه الطاعة التي لا يمكن أن تكون إلا بوجود العصمة.

ولكن إذا ثبتت العصمة للرسل في حدود رسالتهم كرسل، فهل تثبت للأنبياء في حدود نبوتهم؟ لقد قلنا أن الرسالة أحكام تحريم وتحليل وأمر ونهي، ومجالها إفعل ولا تفعل. ومن هنا لزمت العصمة في حاملها ومبلغها، كمعيار لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يتم على أساسه فرز الطائع من العاصي. أما النبوة فقد قلنا إنها علوم وحكمة وإرشاد واجتهاد في حقل الحلال بعد أن حددت الرسالة حقل الحرام.

ومجال العلوم صدق أو لا تصدق، ومجال الاجتهاد الصواب والخطأ، ومن هنا نفهم تعرض الأنبياء للعتب الإلهي حين لا يصيبون في اجتهادهم. كقوله تعالى لإبراهيم {أولم تؤمن} البقرة 260، وكقوله لنوح {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} هود 46. وقوله لموسى {لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم} النحل 10. وقوله لعيسى {أأنت قلت للناس اعبدوني وأمي من دون الله} وقوله للنبي العربي (ص): {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله} التحريم 1.

وأما سحب العصمة ونور النبوة على الأئمة والأولياء والعلماء، فالعصمة لم تثبت للأنبياء أنفسهم فما بالك بورثتهم؟ والنبوة ليست متاعاً يورث أو لا يورث، فهي في أصلها اصطفاء خاص وتفضيل لشخص خاص بعينه، اختاره تعالى من دون الخلق جميعاً ضمن معايير وضعها سبحانه، تحقيقاً لمقاصد شاءها سبحانه، ومن هنا فالنبوة لا تورث ولا تورَّث.

أما اتكاؤهم تدعيماً لزعمهم على قوله تعالى: {فهب لي من لدنك ولياً * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا} مريم 5،6. فاللسان العربي وحده كفيل بدحض هذا الزعم. فالآية تقول {ويرث من آل يعقوب}. وحرف الجر هنا جاء للتبعيض ولينفي التعميم والإطلاق في الإرث، كيلا يصبح شاملاً لكل شيء بما فيه النبوة.

وقالوا: لا يجوز القول في الدين وفي كتاب الله بغير علم. ونحن نقول: أنتم لا تجيزون أي شيء لأي أحد. حتى في مناهجكم ودروسكم وندواتكم تصرون على تحويل تلامذتكم إلى أشرطة تسجيل صماء بكماء عمياء، تعيد ما قيل وما يقال، وعلى تحويل طلابكم ومريديكم إلى أقزام معوقين، يرجعون إليكم في بيعهم وشرائهم وزواجهم وطلاقهم وحلهم وترحالهم وعلمهم وجهلهم وبيوتهم ومدارسهم ومعاملهم، فلا يبرمون إلا ما عقد لهم، ولا يقولون إلا ما لقنوه. وهذا عن القول عموماً.

أما القول في الدين وفي كتاب الله خصوصاً، فإثم كبير يعرض صاحبه للتكفير عندكم، سواء أصاب أم أخطأ، لأن القول بالرأي خطأ بالأساس، ولأن الإنسان عندكم بالأصل لا يجوز أن يكون له رأي!! فإن جرؤ أحد ذات يوم، وخطر له رأي ما في أمر ما، تصدى له حراس الشريعة بالويل والثبور وعظائم الأمور، فحرموه من الجنة وأدخلوه في النار، وأوكلوا به من ملائكة العذاب ما لا يعلمه إلا الله، وكأنهم ظل الله في الأرض(13).

وأما قولكم بغير علم، فنحن نتساءل: أي علم بالتحديد هو المقصود؟ علم الناسخ والمنسوخ؟ أم علم أسباب النزول؟ إن كان ذلك، فهل تعنون أن قوله تعالى {خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين} الأعراف 199. لا يمكن فهمه إلا إذا علمنا أن الأخذ بالعفو منسوخ، وأن الإعراض عن الجاهلين منسوخ، وأن الأمر بالعرف هو التوجيه الإلهي الوحيد الناجي من المعركة؟ هل تقصدون أن قوله تعالى {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} النور 23. يستحيل فهمه وتطبيقه إلا بعد أن نعلم كما قال الواحدي أن الآية نزلت في عبد الله بن أبي، كان يقول لجارية له: إذهبي فأبغينا شيئاً؟

نحن إذ نشير إلى خطورة اعتبار هذين من علوم القرآن، فنحن نقصد خطر علم الناسخ والمنسوخ في تحويل الرسالة المحمدية من هدى ورحمة للعالمين، إلى دين سيف يجز الرؤوس، ويقضي على الموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ويرفض الحوار والرأي الآخر. ونقصد خطر علم أسباب النزول، في طمس العالمية بالرسالة المحمدية وحصره في حدود محلية، وفي فتح الباب على مصراعيه أمام منكري الوحي، الزاعمين بتاريخية كتاب الله، التي زالت بزوال أسبابها.

ونعود إلى التساؤل: أي علم بالتحديد هو المقصود؟ هل هو العلم باللسان العربي؟ إن كان ذلك، فهل تعنون أن قوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} لا يمكن فهمه إلا بمعرفة أحوال بناء الفعل المضارع؟ وأن قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم} المائدة 6. لا يفك رموزه إلا من حفظ الشافية والكافية وألفية ابن مالك؟ وأن آيات الصيام والحج والقتال هي من غوامض الأحاجي، لا يمكن جلاؤها إلا على يد من أجاد إعراب ضرب زيد عمرواً؟

لقد نظرنا في آيات التنزيل الحكيم، فوجدناها بمعظمها لا تحتاج لفهمها إلى صرف الشهور والسنين في معرفة ما قاله الكوفيون، وما قاله البصريون، وفي إدراك ما لم يستطع سيبويه إدراكه من أمر حتى. ووجدنا قسماً من الباقي لا يحتاج إلى أكثر من علم عام باللغة، يستطيع المتعلم معه أن يفرق بين الاسم والفعل والحرف، فلماذا التهويل؟

دعونا من هذا كله، ونتساءل كما يفعل البسطاء: أليست قراءة كتاب الله وفهمه فرض عين على كل مؤمن ومؤمنة؟ إن كان ذلك، فلماذا لا تتركون عباد الله يقرؤون كتاب ربهم، فيتعثرون ثم يستقيمون، ويحارون فيبحثون، ويأخذون بما يرون من آراء السلف ويتركون؟ لماذا تحولون كتاب الله إلى مجموعة علوم، لا يحق لأحد أن يطرق ساحتها، إلا للمقربين المجازين من الهند وباكستان والأزهر والتكية السليمانية بدمشق والنجف الأشرف؟ هل هي ترى الوصاية على عقول الناس، والركوب على أكتافهم، والتمتع بالامتيازات التي لا يعرف حجمها ومداها إلا الراسخون في العلم؟

تصوروا رجلاً، يقف يوم الحساب فيسأله الله: لماذا لم تقرأ القرآن؟ فيقول: اللهم إن صوتي رديء، ولقد حيرتني مسألة القراءات الـ 14، فلم أدر بأيها أقرأ، وضعت بين ورش وعاصم وابن عامر وابن مسعود. فيسأله: ولماذا لم تقم الصلاة؟ فيقول: اللهم إني لم أعرف هل أصلي عاقداً أم مسبلاً، وهل أقرأ خلف الإمام أم أصمت، وهل أقرأ دعاء التشهد عند ابن عمر أم عند عائشة أم عند ابن مسعود. اللهم أنت تعلم أنني أعمل دوامين يومياً، أي 16 ساعة متوالية، ولقد حرت في مسألة جمع التقديم وجمع التأخير، ومسألة الصلاة ضمن أوقات الدوام الرسمي. فالبعض يجيزها وآخرون ينكرونها، وقسم ثالث يربطها بشروط يستحيل تحققها في الواقع المعاش.

تصوروا هذا، ثم اسألوا السادة العلماء حراس الشريعة المنادين بتقديس التراث وأهله، ماذا يقولون في أمثال هذا الرجل، وهم كثر؟!

عودة إلى الشورى والديمقراطية ومفهوم الإجماع

لقد قلنا إن المثل العليا الإسلامية هي رباط المجتمع، لكونها قيماً إنسانية لا يستطيع أي مجتمع العيش بدونها. وقلنا إنها غير قابلة للتسييس، ولا تخضع للرأي والرأي الآخر. فالناس لا يختلفون في حرمة أكل مال اليتيم والغش بالمواصفات وقتل النفس بغير حق وشهادة الزور، لأنها أمور إنسانية عامة. لكنها مع ذلك تحتاج إلى رقابة وحماية، والرقيب عليها هو المجتمع نفسه، ولا يمكن حمايتها بالمدفع والدبابة، بل بنظام ديموقراطي يضمن حرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر، وحرية الكلمة والصحافة. فيتم بذلك التطبيق الفعلي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينكشف من يخرق المثل العليا أولاً، ومن يخرق قوانين الله ثانياً. أي أن وجود الرأي والرأي الآخر، والسلطة والمعارضة، ضروري جداً للحفاظ على صحة المجتمع وقيمه وأمنه وسلامته. والنظام الديموقراطي عندنا نظام يحتاج إلى دولة مدنية، والمجتمع الإسلامي مجتمع مدني إنساني يحافظ على المثل العليا.

وقلنا إن النبي أسس المجتمع المدني، بفصل شعائر الإيمان عن الدولة، ومن هنا وجب أن تكون شعائر باقي الملل مقبولة عند الدولة ومفصولة عنها. ووجب أن تكون المذهبية خارج إطار الدولة كظاهرة لا يمكن إلغاؤها. فوجود الكنائس بجانب المساجد في البلد الواحد ظاهرة صحية مقبولة، لأن الكل مؤمن بالله واليوم الآخر. أما المثل العليا الإسلامية كجزء من أركان الإسلام، فهي مقبولة عند كل الناس حتى الملحدين منهم، فالملحد يعلم أن المجتمعات الإنسانية لا تعيش بدون منظومة أخلاقية، وأن المنظومات الأخلاقية تطورت وتراكمت منذ الإنسان البدائي حتى البعثة المحمدية التي تممتها، وبقي باب الحكمة بعد العصر النبوي مفتوحاً إلى أن تقوم الساعة.

يبقى أمامنا بعد هذا كله أمر واحد هو التشريع. ولقد قلنا بأن التشريع الإسلامي تشريع حدودي، وبأن المباح هو المطلق، وبأن حدود الله هي التي حددت للمباح حقلاً يمكن التحرك فيه. وقلنا بأن معظم تشريعات العالم، إن لم تكن كلها، تكون إما في تقييد المباح (تقييد المطلق) أو إطلاقه ضمن حدود الله، وهذا ما فعله النبي بالأحكام، فهو لم يتجاوز حدود الله ولم يرتكب المحرمات، وكان مجتهداً ضمن حدود حقل الحلال، إضافة إلى ما آتاه الله من الحكمة.

ومن هنا فنحن نرى أن ما قام به النبي يجب أن تقوم به المجالس النيابية والبلدية، في الالتزام بحدود الله في الحرام، وفي تقييد المباح ثم إطلاق تقييده، وفي الانتقال من نقطة إلى أخرى ضمن حدود الله. وهذا كله يتم على يد أعضاء هذه المجالس، إضافة إلى اللجان الاستشارية من العلماء في كل المجالات التابعة لهذه المجالس، التي تقدم ما يلزم من إحصاءات وبيانات وبينات.

فالقراءة الأولى للتنزيل الحكيم التي جرت في عصر الصحابة واستمرت ثلاثة قرون، نتج عنها الإفتاء والفتوى في الفقه الإسلامي التاريخي. أما في القراءة الثانية التي نطالب نحن بإجرائها والقيام بها، فيجب إلغاء دور المفتي ودور الإفتاء في التشريع، واستبداله بالاستفتاء وبالمجالس النيابية والمحلية التي تقوم على حرية الرأي والرأي الآخر وحرية الصحافة ووجود المعارضة. أي أن:

القراءة الأولى لآيات الأحكام الفتوى والإفتاء.

القراءة الثانية لآيات الأحكام الاستفتاء والتصويت في البرلمان.

لقد كثر اللغط حول الشورى والديموقراطية كما لو أنهما متعارضتان، أو كما لو أن الواحدة منهما تلغي الأخرى. والأمر عندنا ليس كذلك أبداً. فالشورى قيمة إنسانية يجب أن نؤمن بها. إيماننا بوجوب الصلاة من الناحية الشعائرية، وإيماننا بوجوب الإنفاق كقيمة أخلاقية من الناحية المعاشية، وذلك إيماناً بقوله تعالى {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} الشورى 38. هذه القيم الثلاث (الصلاة / الشورى / الإنفاق) كانت موجودة ومحل إيمان في القرن السابع، وما زالت موجودة ومحل إيمان في القرن العشرين.

لكن لها جانباً تقنياً يتمثل في أركانها. فالجانب التقني من الصلاة هو الطهارة والوضوء والنية والتوجه إلى القبلة والقراءة والركوع والسجود.. الخ. ولما كانت الصلاة من أركان الإيمان، والجانب التقني هام جداً فيها، لأنه يحدد انتساب القائم بها إلى الرسالة المحمدية، فقد وصلتنا كما علَّمنا إياها الرسول، وما زالت كما هي، لأن الإبداع فيها بدعة. ومن هنا فهي تحمل صفة الثبات، وقد فصلها النبي عن السلطة في المجتمع المدني، لكون السلطة والمجتمع يخضعان للتطور والتبدل.

وكذلك الشورى. فهي قيمة إنسانية ضرورية لممارسة ولاية الأمر وخاصة فيما يتعلق بالحكم والسياسة والاقتصاد والتشريع. أما الحكم فله علاقة بالقضاء فقط. لذا فرئيس الدولة عند العرب أمير. ورئيس كل فئة أميرها. فالإمرة والإمارة من الأمر. ومن هنا جاء قوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} وقوله تعالى {وشاورهم في الأمر} آل عمران 159. أما الأحكام القضائية التي أشار إليها قوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} النساء 65.

فالنبي لم يفرض على الناس الاحتكام إليه، أي أنه لم ينصب نفسه قاضياً بالقوة، لكن الله في تنزيله طلب من الناس أن تحتكم إليه. ونفهم أنه كان هناك أناس تحتكم إلى النبي وهو حي، وأناس لا يحتكمون إليه. أما أحكامه القضائية فهي أحكام الخصومة، أي هي ظرفية بحتة تتبع المدعي والمدعى عليه والبينة المقدمة. ولكن ما هو الجانب التقني في الشورى؟ إن الإجابة على هذا السؤال ضرورية كي نفهم معنى الديموقراطية ونتبين عدم تناقضها مع الشورى.

وقبل أن ندخل في الإجابة نضرب المثال التالي: في القديم قبل تذليل الأنعام، كانت وسيلة الانتقال من مكان إلى آخر عند الإنسان هي الأقدام، وبتذليل الأنعام أضاف الإنسان وسيلة أخرى لانتقاله. ثم بعد اكتشاف الدولاب أضاف العربة كوسيلة ثالثة، ثم بعد اكتشاف المحرك البخاري جاء القطار رابعاً، وتلته السيارة خامساً ثم الطيارة أخيراً. وكان لكل مرحلة من هذا المراحل أنواعها المتعددة. فالسير على الأقدام فيه الهوينا والهرولة والركض، والأنعام فيها الحصان والحمار والبغل والثور والجمل، والعربة فيها ذات الدولابين وذات الأربعة، والقطار فيه البخاري والانفجاري والكهربائي، وقل مثل ذلك في السيارة والطائرة.

كل هذه الأشكال من الوسائط هي لغرض واحد بعينه هو النقل والانتقال، وللإنسان أن يختار منها ما يناسب الظرف والحال. فالانتقال من غرفة إلى أخرى تناسبه الأقدام. والانتقال من حقل إلى آخر يناسبه الحصان، أما السيارة فمن مدينة إلى أخرى، والطائرة فمن قارة إلى أخرى. ولا شيء يمنع في الوقت ذاته من استعمال الطائرة بين المدن، والسيارة بين الحقول. وكل هذه الأشكال والخيارات تمثل الجانب التقني من عملية الانتقال. وقل مثل ذلك في الطب. فالقصد من العمليات الجراحية والدوائية هو الشفاء، لكن لهذا الهدف جانباً تقنياً هو دراسة جسم الإنسان، تشريحياً وفيزيولوجياً، ودراسة خصائص المواد وخواصها الكيميائية. وهذا الحقل الكبير هو الجانب التقني لعملية الشفاء.

أي أن الصحة بحد ذاتها قيمة بشرية مهمة. لكن لها جانباً تقنياً يجب مراعاته. وكلنا يعلم كيف تطور الجانب التقني لعملية الشفاء على مر العصور، فهناك عمليات في القلب سقطت وحل محلها عمليات أخرى، وهناك نظريات وتقنيات في الطب اختفت وحلت محلها تقنيات أخرى. وهكذا نرى أن الجانب التقني لقيمة ما يتطور تراكمياً، بحيث لا يلغي الجديد منه القديم، بل القديم يفسح مكاناً فوقه وبجانبه للجديد، تماماً كالأقدام والطائرة، فالطائرة لم تلغ الأقدام، بل أخذت مكانها إلى جانبها لتستعمل في أطر لا تنفع فيها الأقدام.

فإذا أخذنا الشورى كقيمة إنسانية، نرى أن الجانب التقني منها خضع للتطور. بحيث أعطى بشكله الجديد حقولاً وإمكانيات لم تكن متوفرة في شكله القديم. لقد آمن النبي بالشورى كقيمة، وطبقها بحسب الشكل التقني السائد في عصره، الذي يلخصه تعالى بقوله {وشاورهم في الأمر}. وهذا هو الجانب التقني الذي مارسه النبي تاريخياً، ضمن الشكل السائد الممكن في ذلك الوقت. أي:

وأمرهم شورى بينهم قيمة.

وشاورهم في الأمر الجانب التقني لهذه القيمة والذي يخضع للتطور التاريخي للمجتمعات.

كانت الإمكانيات الموجودة تتمثل في سؤال رؤساء القبائل والوجهاء وكبار القادة، فمفهوم صندوق الاقتراع وانتخاب أمير المدينة أو رئيس الدولة والاستفتاء لم يكن متاحاً أصلاً، لأنه لم يدخل في دائرة وعي الناس آنذاك. وما فعله النبي (ص)، أنه مارس {وشاورهم في الأمر} ضمن مستوى وعي الناس في ذلك الوقت. فإذا أراد رئيس دولة الآن مشاورة الناس في أمر ما، فإنه يلجأ إلى الاستفتاء. وما عملية الاستفتاءات إلا مشاورة الناس في اتخاذ قرار هام جداً، كإقرار الدستور مثلاً أو تعديله.

لقد تطور الجانب التقني لعملية الشورى هذه على أيدي الإنسانية جمعاء، حتى وصل إلى مفهوم الدولة المدنية الديموقراطية، أي أن الديموقراطية هي آخر وأحسن تقنية وصلت إليها الإنسانية لممارسة الشورى حتى يومنا هذا. لكنها ليست الأخيرة والأحسن بالمفهوم المطلق، بل بالمفهوم النسبي، أي أنها حتى الآن هي الأحسن من بين التقنيات التي توصلت إليها الإنسانية لممارسة الشورى. ومن هنا نرى معنى الخلط، في وضع الشورى مقابل الديموقراطية أو العكس. فالشورى قيمة في عالم القيم، والديموقراطية شكل تقني في الواقع المعاش.

هناك من يقول إن الدولة المدنية الديموقراطية تعني أنها ضد الدين، أو أنها لا دينية، وهذا غير صحيح. فنحن بهذا نخلط بين الدولة المدنية أو العلمانية وبين الاستبداد. فالاستبداد ظاهرة قد توجد في دولة علمانية كتركيا والاتحاد السوفيتي سابقاً. وقد توجد في دولة إسلامية ترفع شعار (لا إله إلا الله محمد رسول الله) كأفغانستان، وهذا يعني أن الاستبداد كظاهرة قابل لأن يمارسه العلمانيون تحت شعار العلمانية والتقدمية، وقابل لأن يمارس في الوقت ذاته تحت شعار حاكمية الله وحكم الشرع. ومن هنا فنحن نرى أن الطرفين يتبعان لمدرسة واحدة هي الاستبداد.

فالأول يقتل الناس ويعتقلهم ويصادر حرياتهم تحت شعار العلم والتقدمية والثورية وعدو الشعب وعدو الثورة، والثاني يعتقل الناس ويقتلهم ويصادر حرياتهم تحت شعار الردّة والزندقة والكفر والإلحاد والحرابة. ولهذا لا نستغرب هذا العداء المستحكم بينهما، رغم أنهما يشربان من نبع واحد هو الاستبداد، فكلاهما يريد السلطة لنفسه ليستبد بها من خلال ما يطرحه من شعارات.

بعيداً عن هذا كله، ورجوعاً إلى الأصل والأساس، فنحن نرى في هذه التقنية الديموقراطية مكتسبات علينا أن نتمسك بها ونعمل على تطويرها هي:

  1. مبدأ حرية الرأي والرأي الآخر، وحرية الكلمة وحرية الصحافة وحرية المعارضة.
  2. مبدأ المحاسبة والمساءلة وإعادة النظر في مفهوم الحصانة.
  3. مبدأ تداول السلطة والانتخابات الدورية.
  4. مبدأ فصل السلطات وتحديد صلاحيات كل منها.
  5. تجاوز الفرز الطائفي والمذهبي والملي في مناصب الدولة ووظائفها، واعتماد المبدأ الوارد في قوله تعالى {قالت يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} القصص 26. أي أن الأساس في الحكم على الناس في مناصبهم بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية هو الكفاءة والأمانة ولا شيء غير ذلك.

وهذه المكتسبات لا تكون إلا في الدولة المدنية التي تقوم على مبدأ المواطنة، متجاوزة المذهبية والطائفية. إن كون الدولة مدنية لا يعني أنها دولة مع الإلحاد ضد الدين، أو مع الدين ضد الإلحاد، ولا يعني أنها دولة بدون مثل عليا وبدون قيم أخلاقية تحكمها. الدولة المدنية دولة تمثل مواطنيها بكل ثقافاتهم، التي تظهر في مؤسسات الدولة. ومن هنا فالخوف ليس من الديموقراطية، كأفضل تقنية للشورى، بل من الاستبداد، وليس من الدولة المدنية أو العلمانية، فقد يكون المستبد ملحداً وقد يكون متديناً.

هناك من يخاف على المثل العليا الإسلامية، ونحن نقول لا محل هنا للخوف. فالمثل العليا الإسلامية مثل إنسانية يتولى المجتمع بأكمله مهمة الحفاظ عليها، لكن ذلك يحتاج إلى حرية الرأي والتعبير ليستطيع المجتمع كشف ومعاقبة من يخالفها، حين تصبح الكلمة أقوى من البندقية. والديموقراطية لا تعني أبداً كما يتوهم البعض استبدال ثقافتنا بثقافة أخرى، فإذا قام نظام ديموقراطي سليم في مصر مثلاً، فإن ذلك لا يعني أن شعب مصر أصبح ذا ثقافة فرنسية أو إنكليزية، بل ستبقى مصر عربية ذات ثقافة عربية إسلامية عريقة. الاستبداد وحده هو الذي يمكن أن يفرض ثقافة بديلة جديدة، أما الديموقراطية فلا.

وأحسن مثال هو تونس وتركيا وأفغانستان. ففي تونس وتركيا قامت الأنظمة الحاكمة بفرض السفور بالقوة (استبداد) وفي أفغانستان تم فرض الحجاب بالقوة (استبداد). ولا فرق في رأينا بينهما، فكلاهما يشرب من نبع واحد هو الاستبداد. ولا تغرنك الشعارات البراقة عند الأول باسم التقدمية والتحضر، ولا عند الثاني باسم الشرع الإسلامي.

هناك من يشير إلى برلمانات بعض الدول التي أقرت اللواط وأجازته قانونياً، وإلى بعض آخر أقر حبوب منع الحمل في مدارس البنات، ويزعم أن ذلك من عيوب الديموقراطية. ونحن نقول: العيب ليس في الديموقراطية ذاتها، العيب في الناس أنفسهم. لأن فكرة الليبرالية تحولت عندهم إلى صنم، حتى أنهم تجاوزوا حدود الله، وجعلوا حقل الحرام خاضعاً للاجتهاد الإنساني، وقد سبق أن قلنا إن المثل العليا والمحرمات لا تخضع للتصويت ولا للرأي والرأي الآخر. ولا يجوز أن نجعل من هذا سبباً لمحاربة الديموقراطية كوسيلة لممارسة الشورى، وكمرآة تعكس ثقافات الشعب وأخلاقياته.

فلو حصل أن حاول أحد ما، أو جماعة ما، طرح مسألة اللواط وتجويزها في مجلس برلماني ببلد عربي إسلامي، فكم ستكون نسبة المعارضة؟ ستتجاوز عشرات الملايين حتماً. لأن الثقافة العربية الإسلامية بما فيها المثل العليا والمحرمات أصبحت بعد أربعة عشر قرناً جزءاً من وعي الناس وضميرهم. ومن هنا أرى أن أي نظام ديموقراطي يقوم في أي بلد عربي إسلامي سيزيد هذه الثقافة رسوخاً، ولا خوف عليها من لوطيين أو ملحدين.

سيقول قائل: فماذا لو فرض ذلك بالقوة؟ أقول: في هذه الحالة نكون قد عدنا إلى مشكلتنا الأساسية وهي الاستبداد. إن معركتنا الكبرى في الأصل هي ضد الاستبداد، الديني والعلماني معاً، ومنع وجوده في الدولة المدنية الديموقراطية. ومن هنا ينشأ كما نرى مفهوم المعارضة الذي يعتبر من أساسيات الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمعات الإنسانية.

المعارضة من المفاهيم السياسية الجوهرية في العقيدة الإسلامية وفي ممارستها. والمعارضة كقيمة، هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلا أن لها جانباً تقنياً كغيرها من القيم. وهذا الجانب التقني الذي تمارس المعارضة عملها من خلاله، يخضع للتطور التاريخي كغيره من الجوانب التقنية للقيم الأخرى. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مستويات أيضاً.

والمعروف هو ما تعارف عليه الناس ويشمل كل أمر حلال ومقبول اجتماعياً، والمنكر أعم من الحرام إذ يدخل فيه الحرام والممنوع والحلال غير المقبول اجتماعياً (خلاف الأعراف) فكل حرام منكر، وليس كل منكر حراماً. وانظر إلى قوله تعالى عن اللواط حين دعاه بالمنكر {وتأتون في ناديكم المنكر} العنكبوت 29. ولذا فإن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جاء كسلوك اجتماعي وسياسي أعم من الأمر بالحلال والنهي عن الحرام وهذه هي المهمة الأساسية للمعارضة لأن من مهمتها استنكار السياسات الخاطئة بكل أنواعها.

وكما أن الشورى موجودة في الأسرة بدون صناديق اقتراع، كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجود في الأسرة، إنما دون حاجة لصحف ومسيرات احتجاجية سلمية. ولا تستقيم أمور الأسرة إلا بوجود سلطة ومعارضة.

أما في المجتمع، على مستوى التشريع والاقتصاد، فتقنية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون في تعدد الأحزاب. فحزب المعارضة أفضل تقنية توصل إليها الإنسان لممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع ككل. ومن هنا نفهم قوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} آل عمران 104. وبما أن أكثر الناس تعرضاً لخرق المثل العليا وإساءة استعمال السلطة والكسب منها، وللرشوة والمحسوبية، هو من بيده القرارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي أنه هو السلطة الحاكمة نفسها، أو حزب الأكثرية في البرلمان، لذا وجب أن يكون هناك معارضة (ونقول وجب ولا نقول يستحسن)،

لكشف وفضح اختراقات أفراد السلطة الحاكمة للمثل العليا (الكود الأخلاقي). والكشف عن الأخطاء في السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقضائية والتشريعية. وبدون هذا يبقى شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعاراً جميلاً، مفرغاً من مضمونه، نتغنى به على شاشات التلفاز وخطب الجمعة، أو يصبح شعاراً للجماعات السرية المسلحة.

وبما أن التشريع والاقتصاد والسياسة تقوم على مبدأ تقييد الحلال (المطلق)، فسينشأ بشكل أكيد مصالح متنازعة، يمكن أن توجد بين أفراد وجماعات مؤمنة بالمثل العليا وتمارس شعائر الإيمان. وهذه المصالح المتنازعة، التي هي مخ السياسة ومحورها، لا يوجد مجتمع إنساني بدونها، فهي التي ظهرت على سطح الأحداث في السقيفة بعد وفاة الرسول (ص). وهذه ظواهر طبيعية صحية لا عيب فيها أبداً، وإذا لم نفهمها على هذا النحو، نكون كمن يدفن رأسه في الرمال.

ومن هنا تظهر حاجة النظام الحاكم، ليس إلى معارضة تكشف عن الاختراقات والأخطاء وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وحسب، بل إلى معارضة تحفظ التوازن في المصالح المتنازعة. هذه الناحية التي أغفلها، بل دمَّرها، الاتحاد السوفييتي بعد الثورة البلشفية، حين ألغى المعارضة وألغى المثل العليا النظرية الإنسانية، معتبراً أنها قيم بورجوازية غير إنسانية، وحين تبنى شريحة ومجموعة واحدة وألغى باقي الشرائح والمجموعات جسدياً ومادياً، فكان أن دمَّر المجتمع ودمر نفسه معه. لقد نادى الاتحاد السوفييتي بالإكراه علناً ودون مواربة تحت شعار ديكتاتورية البروليتاريا، وكأن المجتمعات لا يمكن أن تقوم وتعيش دون ديكتاتورية.

إن المثل العليا الإسلامية مثل إنسانية، تهم السلطة الحاكمة بقدر ما تهم المعارضة، ومن هنا فإن على السلطة والمعارضة أن تفهم كل منهما الأخرى، وأن تتعاونا على كشف وفضح من يخترق هذه المثل. إذ لا يمكن لأحد فضح ما يجري من اختراقات في السياسات الداخلية والخارجية والاقتصادية والتشريعية إلا المعارضة، التي هي أعلى مستوى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما شعائر الإيمان، فليست قيماً أخلاقية بل شعائر إيمانية. فالصلاة والصوم والحج والزكاة أمور لا تمارسها المعارضة ولا تتدخل فيها لأنها على المستوى الشخصي التربوي، فلا يحق للمعارضة أن تحاسب الناس على الصلاة والصوم مثلاً، لأنها لا علاقة لها بالقرارات الاقتصادية والسياسية والتشريعية، بل لها وجوباً أن تحاسبهم على مدى التزامهم في إتقان العمل والمواصفات في الإنتاج {وأوفوا الكيل والميزان} الأنعام 152. وعلى مدى العدل في القضاء {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} النساء 58. وعلى مدى إعطاء الناس حقهم {ولا تبخسوا الناس أشياءهم} هود 85. وعلى مدى الالتزام بالوفاء بالعهود وعلى رأسها عهد الله، وعلى مدى التزامهم الصدق في شهاداتهم، وعلى مدى تطبيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.

هذا كله من صلب مهمة المعارضة، مهما تعددت المذاهب والملل في المجتمع، إذ لا يستطيع أحد من الناس مؤمناً كان أم مسيحياً أم يهودياً أم ملحداً أن يحتج على المثل العليا، وأن يمانع في الدفاع عنها، وإلا أخرج نفسه بذلك من دائرة الإنسانية. أما الشعائر وأركان الإيمان فكما قلنا فردية شخصية.

ومن هنا نفهم سبب الخلط بين أركان الإسلام (المثل العليا) وأركان الإيمان (الشعائر) وما نتج عنه. فأركان الإسلام هي الأساس في عملية المعارضة وعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما أركان الإيمان فلا تتعارض البتة مع الاستبداد. فالمستبد لا يهمه صلى الناس أم لم يصلّوا، لا بل إنه قد يصلي معهم إن فعلوا، وينصب من نفسه إماماً لهم. ومن هنا نقول إن من ينادي بفصل الشعائر عن الدولة هو على حق، لأن ممارستها لا تتعارض مطلقاً مع الديموقراطية بل تدعمها وترسخها. أما أركان الإسلام ومثله العليا (القانون الأخلاقي) فتتعارض مع الاستبداد بشكل عمودي. لأن الاستبداد أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن السبب الوحيد لانتشار الفساد في المجتمعات.

ولهذا، فإن من يعتقد بأن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنحصر في إجبار الناس على الصلاة والصوم، أو على تركهما، فهو واهم، يصادر أهم قيمة عند الإنسان ألا وهي الحرية. فالإنسان يقيم الصلاة بإرادته ويصوم رمضان برغبته، ولا محل فيهما للإكراه.

إن جهودنا في القرن الحادي والعشرين يجب أن تنصب في اتجاه إنشاء الدولة المدنية الديموقراطية، التي تظهر فيها ثقافة الأمة ومثلها العليا بشكل طبيعي دون إكراه، والتي يقوم التوظيف فيها على مبدأ (القوي الأمين) الكفاءة والأمانة، وتقوم على رعاية المصالح المتنازعة لكل المجموعات.

لقد آن لنا أيها القارئ الكريم أن ندعو من أجل إقامة الدولة المدنية الديموقراطية، ودولة لا إكراه في الدين، ولا إكراه في الفكر والعقيدة، الدولة التي تضع نصب عينيها تخفيض التدخل في حياة الناس إلى حده الأدنى. والحمد لله رب العالمين.

(6) انتقل هذا الاعتبار إلى أدباء وكتاب يومنا هذا. يقول أحمد حسن الزيات صاحب مجلة الرسالة بمصر: “.. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات والمزاوجة بين الكلمات والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله..” مجلة العربي العدد 488 يوليو 1999.

(7) هو أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري (538 – 616 هـ) الفقيه الحنبلي الحاسب الفرضي النحوي الضرير. أنظر النجوم الزاهرة ج 6 ص 100.

(8) يروي الرازي عن أبي عبيده في إعراب (إذ) بقوله تعالى {إذ قالت امرأة عمران} آل عمران 35. قوله إنها زائدة لغواً. قال الزجّاج لم يصنع أبو عبيده في هذا شيئاً، لأنه لا يجوز إلغاء حرف من كتاب الله تعالى، ولا يجوز حذف حرف من كتاب الله تعالى من غير ضرورة. أنظر تفسير الرازي ج 8 ص 22. ونتساءل نحن: أية ضرورة هذه التي تجيز حذف الحروف من كتاب الله تعالى؟ نترك الجواب للدارسين.

(9) يقول عبد الله بن هشام الأنصاري في كتابه “شرح قطر الندى وبل الصدى” ص 138، بعد أن يحكي عن “كان” الزائدة: ولا نعني بزيادتها أنها لم تدل على معنى البتة، بل أنها لم يؤت بها للإسناد.

(10) السنة ودورها في الفقه الجديد – جمال البنا ص 249-260 -دار الفكر الإسلامي – القاهرة 1997.

(11) تطرف البعض الآخر فزعموا أننا نسعى لهدم كتاب الله بهدم سنة رسوله، وما يعزينا هو أن أمثالهم قالوا أكثر من ذلك فيمن هو أفضل منا، فلا قوة إلا بالله!!

(12) من المؤسف أن تصبح هذه العبارات شائعة على لسان رجال الدين الأفاضل في كل ندوة وفي كل مجلس من خلال أجهزة إعلام الأمم الإسلامية.

(13) ثمة عدد من الذين يزعمون أنهم حراس الشريعة من الهدم والتخريب، لا يخجلون أن ينصوا في كتبهم صراحة، بأن الله أتاهم في المنام، أو أوحى إليهم، فكلفهم بهذه المهمة الشريفة الشاقة، فلا قوة إلا بالله.

اترك تعليقاً