4 – جدل الشاهد والشهيد

يقول تعالى في تنزيله الحكيم:

  • {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} الزمر 69.
  • {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله، وما كان الله ليضيع أيمانكم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم} البقرة 143.
  • {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين} آل عمران 140.
  • {وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم تكونوا شهداء على الناس ..} الحج 78.
  • {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا} النساء 69.
  • {عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} الرعد 9.

لقد شرحت مفهوم الغيب والشهادة(1)، وقلت بأنهم مفهوم منسوب إلى غير الله (الإنسان) فعند الله لا يوجد غيب وشهادة. فعالم الشهادة هو هذا الوجود المشهود، واليوم الآخر جزء من عالم الغيب، ولكنه معرفة في علم الله وصفه لنا. ولذا فقد سمى نفسه سبحانه عالم الغيب والشهادة. ولما كان هو خالق قوانين الجدل (التسبيح)، فإنها لا تنطبق عليه، فهو متكبر متعال عن هذه القوانين، ولهذا أتبعها بقوله: {الكبير المتعال}.

أما المعرفة الإنسانية فتقوم على الجدليات التالية:

  1. جدلية الغيب والشهادة.
  2. جدلية الشاهد والشهيد.

جدلية الغيب والشهادة:

عندما تمت أنسنة الإنسان كان عالم الشهادة، في معظم معظمه، مجهولاً عنده، عدا ما هو مشخص مباشر أمامه. وكان عاجزاً عن تفسير كل الظواهر الطبيعية. صحيح أن بعضها كان ماثلاً أمامه يراه ويسمعه ويحسه، لكن معظمها كان غائباً عنه، وتفسيرها كلها كان غيباً أيضاً.

ومع تقدم الإنسان والإنسانية، بدأ كثير من الغيبيات ينتقل إلى عالم الشهادة. وبما أن الشهادة نوعان (شهادة شهيد وشهادة شاهد) فقد بدأ هذا الانتقال بشهادة الشاهدين (النبيين)، الذين جاءتهم معلومات عن الله غائبة عنهم وعن معاصريهم، فكانوا شاهدين مثلاً على وحدانية الله، إذ لا يمكن لشهيد أن يرى ويسمع وحدانية الله ثم يشهد بذلك شهادة حضور. ومن هنا فإن كل من شهد أن لا إله إلا الله منذ نوح وإلى أن تقوم الساعة، فشهادته شهادة شاهد، وليس شهادة شهيد.

هكذا كانت بداية الانتقال من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، عن طريق نبوات الأنبياء الشاهدين. حتى محمد (ص) في نبوته بالقرآن والقصص كان شاهداً. والذين معه كانوا شاهدين. أي صدقوه بدون شهادة شهيد. ولهذا أرسل الله مع رسله وأنبيائه دلائل مادية (معجزات) ليشهدها الناس حضورياً، وليصدقوا النبوات وبالتالي الرسالات. أي لتصديق شهادة الشاهد بالمشهود (البينات المباشرة).

لكن خاتم النبيين كان له وضع خاص. فقد كانت نبوته تصديقاً لرسالته، وكانت هي البينة المباشرة. إلا أن كل الأخبار التي جاءت بها نبوته كانت من عالم الغيب بالنسبة للناس، ولم تأت بأشياء مشهودة يكون الناس شهداء عليها. وبقيت مهمة تحويل مهمته من شاهد إلى مشهود، أي من شهادة شاهد إلى شهادة شهيد، هي مهمة الناس الذين يأتون بعده، ليقدموا مصداقية هذه النبوة بشهادة شهيد وشاهد. ولهذا، فالشهادة باقية لا تنقطع إلى أن تقوم الساعة. ولهذا فنحن ننظر إلى النبوة والشهادة كعناصر في جدلية الغيب والشهادة، وهي المحرك المعرفي للإنسانية في علوم الآفاق (الكونيات) والأنفس (العلوم الإنسانية). أي أن الأنبياء والشهداء هم محركوا جدلية الغيب والشهادة في المجتمعات الإنسانية.

لهذا، فإن القوة المحركة لتقدم الإنسان بعد الأنبياء هي جدلية الشاهد والشهيد في علوم الآفاق والأنفس. التي تنقسم إلى مرحلتين:

الأولى: جدلية الشاهد والشهيد في عصر النبوات، حتى محمد (ص).

الثانية: جدلية الشاهد والشهيد في عصر ما بعد ختم النبوات، أي بعد محمد (ص).

المرحلة الأولى:

لقد بدأ الإنسان بالابتعاد عن المملكة الحيوانية بعد الأنسنة، وكان بحاجة إلى قفزات معرفية لوضعه على مسار التقدم والتطور العلمي والاجتماعي، ومعرفة الوجود بالتدريج، وبالتالي انعكاس هذه المعرفة على العلاقات الاجتماعية والأخلاقية لهذه المجتمعات. فكان أن جاءت هذه المعرفة عن طريق النبوات، وجاء التشريع (العلاقة بين الناس) عن طيق الرسالات. وجاء الأنبياء والرسل شاهدين للنبوات التي تأتيهم، أي قدموا شهادات معرفية جاءتهم عن طريق الوحي. فمن كان معهم كان شهيداً لهم وكانوا هم شهداء لمن كان معهم.

لقد زود تعالى أنبياءه ورسله ببينات مادية مشهودة. سماها التنزيل الحكيم بينات، وكل من شاهد هذه البينات من الناس، كان شهيداً لها، وشاهداً على ذلك بالنبوة والرسالة.

كان الرسل بحاجة إلى بينات أكثر من الأنبياء، لأن الرسول شاهد للرسالة، فإذا صدقه الناس كانوا شاهدين معه على الرسالة، وليسوا شهداء. والناس في هذه الحالة قسمان:

قسم شهد بينات الأنبياء حضورياً فهو شهيد لهم ولها، وشهد بالرسالات تصديقاً، وهؤلاء هم الصديقون، الصحابة من محمد (ص)، والحواريون من عيسى (ع). أي أن الصديقين هم الناس الذين عاصروا الأنبياء والرسل، شهداء على النبوة شاهدين على الرسالة.

فالصحابي الذي آمن بنبوة محمد (ص) حضورياً، لأنه رأى البينات رأي العين، صدق ما جاء في رسالته دون بينة، وآمن برسالته غيباً دون دليل. فقد قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين} المؤمنون 12 – 14.

فآمن الصحابة، وكل من عاصر الرسول، بما جاء في الآية إيمان تصديق، وكانت شهادتهم لها شهادة شاهد، إذ لم يكن علم الجنين في زمنهم قد تطور ليروا ذلك رأى العين، وتكون شهادتهم شهادة شهيد. ولهذا فقد قرن الصديقين بالنبيين في النساء 69.

أما القسم الثاني، فهو الذي لم يشهد حضورياً بينات النبوة، وصدق بنبوة محمد (ص) دون بينة مشهودة بالعين، فشهادته بالنبوة شهادة شاهد، وشهادته بالرسالة شهادة شاهد. وهذا القسم رغم أنه عاش في عصر النبوة إلا أنه لم يلتق بالنبي ولم يره رأي العين، ومثال هذا اقسم، أهل اليمن وقد جاءهم معاذ بن جبل، وأهل مصر وقد جاءهم دحية الكلبي.

وأما الشهداء الذين قرنهم التنزيل الحكيم بالنبيين في آية الزمر 69، والذين وصفهم الرسول الأعظم بأحبابه في حديثه الشريف، والذين شهدوا لنبوة محمد، دون أن يروه ويروا بيناته، شهادة شهيد، وشهدوا لمصداقية رسالته شهادة شاهد. نقول وأما هؤلاء فهم الذين عاشوا بعد عصر النبوة، شأننا مثلاً، وهم من سنتحدث عنهم في المرحلة الثانية. ولهذا فنحن نرى اليوم أنه لا يكفي التصديق بنبوة محمد (ص)، بل لا بد من تقديم البينات المشهودة على مصداقية الرسالة، تماماً كما فعل العلماء الذين وضعوا أسس علم الجنين، فجاء عملهم هذا تصديقاً حضورياً يفقأ العين، لما ورد في سورة المؤمنون. وإقامة البينات المشهودة لا يتم إلا بالعلم والتأويل.

لذا فإن المرحلة الأولى للجدل في زمن النبوات سيطرت عليها جدلية

(الأنبياء الصديقين) ← (شاهد مصدق)

المرحلة الثانية:

مرحلة ما بعد النبوات وما بعد محمد (ص).

كان السؤال المحير دائماً، بعد نزول الرسالات السماوية، أو ظهور الأديان الأخرى، هو في استمرارية النبوة والرسالة بعد موت النبي والرسول. لقد أجابت اليهودية على هذا السؤال بالأحبار، كنوع من الاستمرارية. وأجابت النصرانية على هذا السؤال بالآباء، كشكل آخر من أشكال الاستمرارية. وليس البابا عند الكاثوليك إلا استمرارية لحضور المسيح على الأرض.

وقد انطرحت هذه المشكلة عند أتباع محمد (ص)، فتم حلها عند الشيعة بمفهوم الإمامة وعصمة الإمام، فجعلوا من الإمام استمراراً للوجود النبوي على الأرض. كما تم حلها عند السنة والمتصوفة بمفهوم البدل والقطب والغوث حيناً، أو بمفهوم إجماع الصحابة وعدالتهم حيناً آخر. وقدم الشيعة تبريرات مختلفة تدعم مفهوم استمرارية النبوة في الأئمة، لكنها كانت كلها تبريرات لا علاقة لها بالتنزيل الحكيم، وقدم أهل السنة تبريرات مختلفة، تحت شعار “العلماء ورثة الأنبياء”، ولووا معنى العلم والعلماء حتى بات يشمل رجال الدين، وبتعبير أدق موظفي المؤسسة الدينية لكن هذه التبريرات كلها كانت بدورها لا علاقة لها بالتنزيل الحكيم، فالذي يعلم –بزعمه – الناس الصلاة ومفسداتها والصوم وأركانه والحج وشعائره والزكاة ونصابها، ليس بعالم، لأن هذه أمور جاءت سهلة مبسطة أمام كل الناس.

فماذا يقول التنزيل الحكيم ذاته عن هذه الاستمرارية، وهو لا بد أن يقول، لما للموضوع من أهمية وعمق أثر، أي ماذا بعد محمد (ص)، وهو خاتم الأنبياء والرسل؟ ومن سيقود البشرية بعد ختم النبوات والرسالات وانقطاع الوحي؟

ونحن نرى أننا حين نفهم الشهادة والشهادة والشهيد، نعلم تماماً ما هو مطلوب من الناس بعد الأنبياء والرسل، وبالذات بعد محمد (ص).

لقد طلب الله من الناس، بعد محمد (ص)، أن يكونوا شهداء إضافة إلى كونهم شاهدين. وأصبح لزاماً على الناس وهم المسلمون، وعلى أتباع محمد (ص) وهم المؤمنون، أن يقدموا الدليل المادي المرئي المسموع (شهادة الشهيد) أو الدليل العقلي المعرفي (شهادة الشاهد) على مصداقية رسالته ونبوته.

وهذا الدليل بشقيه، كان مفقوداً عند الصحابة والتابعين (الأرضية المعرفية التي تدعم شهادة الشاهد والتطور العلمي الذي يساند شهادة الشهيد). فبعد أن انتهى عهد النبوات، وتقلص عهد الصديقين، تأتي الشهادة مصدقة للنبوة، لتصبح في نفس الوقت استمرارية التقدم العلمي والاجتماعي للجنس الإنساني، الذي لم يعد بحاجة إلى وحي (نبوة ورسالة)، ولكنه بحاجة إلى شهداء. فالشهداء هم استمرارية النبوة والرسالة ولكن بدون وحي، بعد أن أصبح بمقدور الإنسان أن يقدم الدليل على النبوة والرسالة (مادي وعقلي). ليس طفرة واحدة، بل خلال تطور تاريخي يمتد إلى أن تقوم الساعة: لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون.

بعد محمد (ص)، يبقى الإنسان شاهداً على وحدانية الله وربوبيته شاهداً على اليوم الآخر. فالإيمان بالله واليوم الآخر إيمان معرفي وليس إيماناً حضورياً، نشهده كشاهدين ونسلم به كمسلمين. ومن هنا نفهم قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ..} البقرة 143، وقوله تعالى: {.. ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس..} الحج 78.

أما ما عدا ذلك، فكله يخضع للبحث والعقل (شاهد)، وللحواس (شهيد)، أي يخضع للمعرفة الحسية والعقلية.

فما هي جدلية الشاهد والشهيد، التي هي أساس الحياة الإنسانية قاطبة بدون استثناء، وأساس اكتشاف أسرار الكون والإنسان والمجتمعات، التي لها وجود حقيقي موضوعي، لكنها غائبة عن الناس؟

أ – جدلية الشهيد الشاهد:

  1. عندما اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية، كانت من عالم الغيب، فنقلها إلى عالم الشهادة، وصار شهيداً عليها، ثم قدم شهادته بما رأى وسمع للناس. أما الناس الذين لم يشهدوها معه شهادة حضورية، فقد صدقوه وشهدوا له شهادة شاهد معرفية. وكان لهذا معنى تطبيقي، إذ قاموا بدراسة الدورة الدموية وتركيبها، وتوسعوا فيما رآه وشاهده ابن النفيس، وحدث من جراء ذلك تقدم في علم الطب والتشريح، وصلح حال الناس من هذا التقدم واستفادوا منه، فدعم ذلك تصديقهم لشهادته. لقد قدم ابن النفيس بأمانة شهادته كشهيد، فتطابق عند الناس ما هو موجود في الأذهان، مع ما هو موجود في الأعيان، واستفاد الناس، وأثمرت شهادته بصلاح أمرهم، وهؤلاء هم الصالحون الذين استفادوا من شهادة الشهيد ثم من شهادة الشاهد، فصلح أمرهم.
  2. عندما يبحث عالم الآثار وينقب في الأرض، يكتشف فيها آثاراً وبقايا من أبنية أو ألواح أو رسوبيات، فنقول إن هذا العالم شهيد الآثار. فهو قد رآها ولمسها حضورياً. لكنه عندما يصطحب مكتشفاته إلى المختبر، لتحليلها، ومعرفة عمرها، والاستدلال بها عن كيفية حياة الناس في وقتها، نقول إن شاهد على العصور التي أتت منها هذه الآثار. فهو يستطيع تقديم صورة عن حياة أناس، رغم أنه لم يعش معهم أي لم يكن عليهم. ومن فحص الآثار (شهيد) وصل إلى علم أحوال الناس الذين خلفوها، وأصبح شاهداً لهم، فهو شهيد لآثارهم بعد موتهم، شاهد على أحوالهم في حياتهم.
  3. مراسل صحفي حضر معركة، وعرض نفسه للخطر، ليصورها تصويراً حضورياً، فهو شهيد المعركة (وليس قتيلها كما يتصور البعض). لأنه يحضر المعركة ويكتب أخبارها وينشرها على الناس، فيعلموا بها، ويصبحوا شاهدين عليها. ولهذا نرى أن الصحفيين الذين يتابعون الأحداث حضورياً، ويسافرون للحصول على الحقائق المشهودة، هم من أشرف الشهداء، لأنهم قدموا شهادتهم لكل الناس.

لقد قلنا إن الصالحين هم الذين يستفيدون من شهادة الشهيد، ويحولونها إلى معارف تصلح بها أمورهم وأحوالهم. فإذا سأل سائل، ما حكم الشهيد الذي يقدم شهادته الحضورية للناس صادقة، لكنهم لا يستفيدون منها؟ أقول نحن هنا أمام حالتين:

إما أن هذه الشهادة سابقة لزمنها، وتمثل قفزة معرفية، لم يفهمها الناس من المعاصرين، فيستفيدوا منها، لكن الناس في المستقبل سيستفيدون منها، فيبقى الشهيد شهيداً، والصالحون هم المستفيدون من شهادته.

أو أن ما قدمه مفهوم باد للعيان، يمكن لمن حوله فهمه واستخدامه لصلاحهم، لكنهم لا يريدون ذلك، فهم كالأنعام بل هم أضل. وهذا يذكرنا بقوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين} القصص 56.

فقد اعتاد القائلون بالجبر أن يستشهدوا بهذه الآية حجة على ما يقولون به. وهم يفهمون من الآية أن فاعل (يشاء) يعود على الله سبحانه. تماماً كما هو الحال في قوله تعالى، وفي آيات أخرى كثيرة:

  • {إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ..} الأعراف 155.
  • {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} التكوير 29.
  • {.. ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا..} الشورى 52.
  • {.. ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون} الأنعام 111.

فوصولا بذلك إلى أن مشيئة الله سابقة قاهرة، سواء شاء الإنسان أم لا، وإلى أن المهتدي مسعود مهما فعل، وأن الضال شقي مهما فعل، بعد أن سبقت مشيئة الله في ضلال هذ1، وهدى ذاك. وكان طبيعياً بعد ذلك كله أن يؤدي بهم قولهم هذا، إلى عبثية يوم الحساب، وإلى أن يتحول الثواب والعقاب في اليوم الآخر إلى مسرحية معروفة النتائج مسبقاً، تعالى الله عما يصفون.

ونحن نرى، في عجالة إيجازنا هذا، أن المشيئة الالهية لو كانت محسومة مكتوبة سابقة قاهرة، لوجب أن يأتي فعل المشيئة بصيغة الماضي دائماً. كأن يقول مثلاً في آل عمران 26:

  • قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من شئت، وتنزع الملك ممن شئت، وتعز من شئت، وتذل من شئت.

لكننا نجدها في التنزيل الحكيم بصيغة الحاضر:

  • {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير} آل عمران 26.

ونفهم من هذا أن المشيئة الإلهية ليست محسوسة جامدة، قاهرة سابقة، بل مرنة متحركة متروك أمر حسمها للحاضر بمعطياته التي من بينها عمل الإنسان نفسه.

ونرى أن الذي يبتغي وجه الحق والهدى، يبحث عنه، وكله رغبة في أن يجده. ونرى أن فاعل (يشاء) في القصص 56 يعود على (من)، وإلا فكيف نفهم قوله تعالى:

  • {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء، ولتسألن عما كنتم تعملون} النحل 93.

هنا يستحيل أن يكون فاعل (يشاء) هو الله، وإلا لاستحال سؤال الإنسان عن عمله.

ب – جدلية الشاهد الشهيد:

هناك كثير من الاكتشافات العلمية، تم تأسيسها العقلي نظرياً، ثم تلا ذلك إجراء التجارب عليها. والذي يقدم الاكتشاف نظرياً هو شاهد، أما الذي يجري التجارب، وثبت صحة الاكتشاف عملياً، فهو شهيد.

1 – عندما وضع أينشتاين نظريته النسبية، وقدمها للناس كمعلومات، كانت شهادة شاهد، أما مجموعات العلماء الذين أجروا التجارب لقياس سرعة الضوء، وإثبات أنه ينحرف عندما يمر بجانب الشمس، فهم الشهداء، والشاهد هنا سبق الشهيد.

وأما من أخذ شهادة الشاهد وشهادة الشهيد واستفاد منها تطبيقياً في تقدم الإنسانية وتطور العلوم وصلاح أمور الناس، فهؤلاء هم الصالحون.

أي أن جدلية (الشهداء ← الصالحون) هي الموجه للشهداء والمحرض لهم على العمل، تماماً مثلما أن جدلية (الأنبياء ← الصديقون) هي الداعم الأساسي للأنبياء، لحاجتهم إلى من يصدقهم ويقف ويتحمل الأذى معهم.

2 – كل علماء الرياضيات يعتمدون على عالم العقل (المعقول)، ويقدمون نظرياتهم الرياضية بدون مخابر، فهم لهذا شاهدون على ما يقدمونه للناس. ثم يأتي بعد ذلك علماء الفيزياء والطبيعة والهندسة وكافة العلوم الأخرى ليأخذوا هذه المعادلات، ويضعوا لها معاني فيزيائية لظواهر الطبيعة، ويجروا عليها التجارب، فتظهر وتثبت مصداقية هذه المعادلات.

علماء الرياضيات والفلاسفة شاهدون، وعلماء الطبيعة والفيزياء هم شهداء، أما علماء الفيزياء التطبيقية الذين أخذوا ما سبقهم ووظفوه فيما ينفع الناس فهم الصالحون.

3 – كان القول بكروية الأرض شهادة شاهد، ثم جاء ماجلان، فكان شهيداً على رحلته حول الأرض، مؤيداً لشهادة الشاهد الذي سبقه. أما الذي طار إلى الفضاء، ورأى بأم عينه الأرض كروية، فهو الشهيد على كروية الأرض. وبعد أن قدم لنا شهادته مدعومة بالصور، وعرض علينا على شاشة التلفزيون ما رآه، ورأيناه نحن بدورنا، فقد أصبحنا شهداء على كروية الأرض، وكنا قبل ذلك شاهدين.

وهكذا نرى لدينا الجدليات التالية:

p3-245

يبقى لدينا أمر واحد بعينه، هو وحدانية الله، لا يمكن أن يخضع لجدلية الشاهد الشهيد أو الشهيد الشاد. فما دامت الوحدانية الإلهية لا تخضع للمشاهدة رأي العين، فستبقى شهادتنا بوحدانية الله شهادة شاهد إلى يوم يبعثون، دون أن تتطور لتصبح شهادة شهيد.

لقد قدم لنا التنزيل الحكيم مثلاً حياً على جدلية الشاهد – الشهيد عند إبراهيم الخليل (ع)، الذي كان شاهداً على إحياء الله الموتى، وطلب أن يكون شهيداً. قال تعالى:

  • {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي، قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم} البقرة 260.

ونفهم من قوله: {قال أو لم تؤمن قال بلى} أن إبراهيم كان شاهداً على إحياء الله للموتى. كما نفهم من قوله: {رب أرني كيف تحيي الموتى} أنه يطلب أن يكون شهيداً لهذا الإحياء حضورياً. ونفهم من باقي الآية أن الله استجاب لطلب خليله كرماً وفضلاً، فصار بذلك هو الشاهد الشهيد. وبهذا أصبح إبراهيم أباً للشهداء إضافة إلى كونه أب للشاهدين الأنبياء.

ولكن العلاقة الجدلية بين الشاهد الشهيد والشهيد الشاهد، علاقة حنيفية، ففي مسيرة التطور الإنساني تظهر أخطاء في هذه العلاقات، يقوم الشاهدون الشهداء من التابعين بتصحيحها، ويحنفون بها عما قبلها إلى مسارها الصحيح. ومن هنا كان إبراهيم أبو الحنفاء. أي أن إمامة إبراهيم للناس التي نص عليها قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال إني جاعلك للناس إماما ..} البقرة 124. هي إمامة تتجلى في شاهدية إبراهيم وشهيديته وحنيفيته.

فالدين الإسلامي يقوم على التسليم بالله واليوم الآخر ← شاهد. والوجود الحضوري (عالم الشهادة) يقوم على جدلية الشاهد الشهيد والشهيد الشاهد. والسلوك الفردي الإنساني يقوم بتطور حنيفي غير مستقيم على جدلية الحسنة السيئة. وقد شرحت ذلك تفصيلاً في مكانه من هذا الكتاب فانظره.

ومن هنا، فالصلاة والزكاة – أي الشعائر عامة – لا تدخل في مبحث الشاهد الشهيد أو الشهيد الشاهد، لأنها لا تحمل الطابع الحنيفي، فهي ليست جدلية. ومن هنا أيضاً نفهم قوله تعالى: {.. ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس ..} أي في الإيمان بالله واليوم الآخر تسليماً. ثم تأتي تتمة الآية لتورد أهم أركان الإيمان غير الحنيفية {.. فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم، فنعم المولى ونعم النصير} الحج 78.

كما نفهم من الآية أن علينا كتابعين لمحمد (ص)، بعد انقطاع النبوة والرسالة، أن نتابع الاستمرار بالشهادة، وتقديم البينات المادية والعقلية على نبوته ورسالته، لنحتل مركز الصدارة (أمة وسطا) ولنصبح إذا أخذنا هذه المهمة على عاتقنا (شهداء على الناس)، ويكون الرسول عند ذلك شهيداً علينا.

والسؤال الآن هو: هل فعلنا نحن المؤمنين ذلك؟ والجواب: كلا!! بل الذي فعله أناس غيرنا من ملل تؤمن بالله واليوم الآخر. أما المؤمنون أتباع محمد (ص) فقد اكتفوا – بعد وفاته – بممارسة أركان الإيمان (الصلاة – الزكاة – الحج) التي يكفيها شهادة الشاهد، وتركوا شهادة الشهيد لغيرهم من الأمم.

ونقرأ قوله تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء..} الزمر 69. ونفهم لماذا أسقط في هذا المقام الصديقين والصالحين، وأبقى على النبيين والشهداء.

فالصديقون هم غالبية مجتمع الأنبياء وعامته، والأنبياء هم الخاصة، وهذا في زمن النبوات، أما بعده، فالصالحون هم العامة والشهداء هم الخاصة، وقد تم في يوم القيامة عند الحساب اسقاط العامة (الصديقين والصالحين)، والإبقاء على الخاصة (النبيين والشهداء)، الذين جيء بهم من دائرة أخرى غير دائرة العامة، دلالة على أنهم لا يبعثون مع العامة.

ولما كانت مهمة النبيين والشهداء تقديم الشهادة على العامة، وقد قدموها، فقد تلا ذلك بالقول {وقضي بينهم بالحق ووفيت كل نفس ما كسبت}. وهؤلاء هم الأشهاد الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى:

  • {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين} هود 18.
  • {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} غافر 51.

وبما أن عهد النبوات وعصر الوحي قد انتهى، وبقيت الشهادة، فقد صدق من قال: الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر.

أصبح بإمكاننا الآن أن نوضح أسس العقيدة الإسلامية:

1 – بالنسبة للوجود الكوني المادي الحالي، فالوجود فيه سابق الفكر، أي أن الشهيد سبق الشاهد. لأن المعلومات الأولى تأتي عن طريق السمع والبصر والفؤاد، طبقاً لقوله تعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} النحل 78. ثم تأتي مرحلة التطور: شهيد ← شاهد تتحول فيها الحضورية بالسمع والبصر إلى معلومات وخبرة. لتأتي بعدها مرحلة تطور أخرى: شاهد ← شهيد، يبرهن فيها الإنسان رأي العين ما تم التوصل إليه بالعلم والخبرة .. وهكذا!!

أي أن أساس العقيدة الإسلامية فيما يتعلق بالوجود المادي والاجتماعي (الآفاق والأنفس) هو جدلية بين الوجود المشهود في الأعيان، وصور الموجودات في الأذهان التي تعتمد على التحليل والتركيب (الفكر والعقل).

p3-248

ومثال ذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ..} الحج 5.

يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث ← قانون كلي يعتمد على الشاهد

فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة .. ← قانون جزئي مادي مشهود يعتمد على الشهيد

أي :

البعث ← قانون التطور شاهد – شهيد

قانون التطور ← البعث شهيد – شاهد

وبما أن المعرفة تبدأ بالسمع والبصر والفؤاد، وهذه هي أدوات الشهيد، فقد قرن سبحانه الشهداء مع الأنبياء، ولم يذكر الشاهدين، لأنه بدون مشهود لا يوجد شهيد، وبدون شهيد لا يوجد شاهد. وهذه العلاقة الجدلية الحنيفية بين الشاهد والمشهود هي أساس تطور المجتمعات الإنسانية قاطبة في كل شيء.

لهذا نرى أن أساس العقيدة الاسلامية، بالنسبة للوجود المادي والاجتماعي، يتجلى في جدليتين:

  1. المادية (المشهود قبل الشهداء) ← العقلانية (الشاهد) “وتعتمد على الاستقراء من المشخص الجزئي إلى المجرد الكلي”
  2. العقلانية (الشاهد) ← المادية (المشهود) “وتعتمد على تقديم البينة على العام العقلي بالخاص المادي الجزئي”

كما يتجلى في حنيفية هاتين الجدليتين. والذي يحدد الحنيفية (التطور والتحول هو مصداقية هذا النتاج المادي العقلاني – العقلاني المادي في صلاح أمور الناس)(الفرد والمجتمع). ومن هنا نفهم مراده تعالى في قوله: {.. كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ..} الرعد 17.

أي أن مصداقية النبوات كبينات للرسالات لا تظهر إلا من خلال التطور التاريخي منذ محمد (ص) إلى أن تقوم الساعة. أي أن التاريخ فيه مصداقية كلام الله. هذه المصداقية التي لا يحكمها قول صحابي أو تابعي أو فقيه.

2 – بالنسبة للوجود الالهي واليوم الآخر. فيقوم على الشاهد لا على الشهيد، أي أن علينا تقديم الأدلة المادية على مصداقية نبوة محمد (ص)، بتأويل آيات القرآن من التنزيل الحكيم، لدعم شهادة الشاهد بوحدانية الله، وبالوحي المنزل على رسوله، وهذه الأدلة هي كونية تاريخية علمية اجتماعية. وبهذا وحده نصبح شهداء على مصداقية نبوته ورسالته، ولكن نبقى شاهدين لله بالوحدانية ولمحمد (ص) بالرسالة، ولمن قبله من الأنبياء والرسل. أي يبقى الايمان بالله واليوم الآخر مسلمة تدخل بصاحبها دائرة الاسلام. فالشاهد على وحدانية الله واليوم الآخر مسلم شاء البعض أم أبى. اقرأ معي قوله تعالى:

  • {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة 62.

أي أن العمل الصالح الذي ينفع الناس، ويؤدي إلى صلاح المجتمعات، هو الذي يقدم البينات المادية والعقلانية التي تدعم مصداقية الرسالة والنبوة، وبالتالي تدعم الايمان بالله واليوم الآخر. لكن المطلوب أصلاً وأولاً، هو هذا الايمان التسليمي القائم على شهادة شاهد، بالله واليوم الآخر.

يبقى أمامنا أخيراً، أن نوضح أن جدلية الشاهد الشهيد، وجدلية الشهيد الشاهد، قد لا تتجليان في زمن واحد ومرحلة بعينها. فإذا التزمنا بمقطع زمني محدد من سلم التطور، وبمرحلة معينة منه، نجد لدينا جدليتين إضافيتين هما: جدلية الشاهد الشاهد، وجدلية الشهيد الشهيد.

أ – جدلية الشاهد الشاهد: هي جدلية تقوم على الخطأ والصواب. فقد يعتمد شاهد أول في شهادته على معطيات بعينها، ويأتي شاهد ثان لنفس الظاهرة في نفس الفترة الزمنية، فيعتمد في شهادته على معطيات أخرى أقل أو أكثر، أصح أو أدق، فيصل الشاهدان إلى نتائج مختلفة فيما بينها، متعارضة أحياناً. وهنا يكمن جدل الخطأ والصواب الناتج عن اختلاف زاوية رؤية الأشياء في زمن واحد ضمن أدوات معرفية واحدة. أما مع اختلاف الزمن واختلاف الأدوات فجدل الخطأ والصواب يقوم عليهما أو على واحدة منهما. ولهذا نرى أن كل المؤتمرات العالمية في العالم، وكل مجالس العلوم في الدنيا، تقوم على جدلية الشاهد الشاهد، وهي ضرورية جداً لفرز الخطأ من الصواب، وبدونها لا ينكشف الخطأ.

ب‌ – جدلية الشهيد الشهيد: وتقوم على الصدق والكذب. ويدخل في ذلك خطأ الحواس أو خطأ المشاهدة. وهنا تكمن جدلية أخلاقية في الصدق والكذب، وجدلية معرفية في مصداقية آلية المشاهدة (الأذن، العين، الحس، مكبرات الصوت، المجهر، التلسكوب .. الخ). ومن أجل هذا تعقد المؤتمرات وتقام المعارض، لعرض تقدم الأجهزة العلمية والمخبرية. ويكمن في جدلية الصدق والكذب رأس الفضائل الأخلاقية كلها، وهو الصدق. ففي جدلية الشهيد الشهيد يمكن كشف الكذب بسهولة، أما في جدلية الشاهد الشاهد فيصعب ذلك كثيراً.

وكل نظام سياسي أو اجتماعي يحقق داخله جدل الشاهد الشاهد والشهيد الشهيد، ويضمن حرية التعبير للرأي والرأي الآخر، هو نظام ديمقراطي بحق. أما النظام الذي لا تتحقق فيه هاتان الجدليتان، ولا ضمانة فيه لحرية التعبير عن الرأي والرأي الآخر، فهو نظام إرهابي استبدادي.

ونحن نرى أن الدنيا كلها تقوم على شهادة الشاهد وشهادة الشهيد، ونرى أن اليوم الآخر أيضاً يقوم عليهما، عندما يحشر الناس، فيصبح يوماً مشهوداً. ونرى أن لا شيء في هذا الوجود أكبر من الشهادة، إلا الله، تعالى عن الشيئية، بدلالة قوله سبحانه وتعالى:

  • {قل أي شيء أكبر شهادة، قل الله، شهيد بيني وبينكم، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ، أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى، قل لا أشهد، قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} الأنعام 19.(2)

وأما وضع قوله تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا .. الآية} على أبواب مقابر الشهداء. فهو عندنا للتبرك من جهة، ونوع من أنواع الفبركة من جهة أخرى. ذلك لأننا حين نقول إن الذين قتلوا في معركة ما، هم شهداء وأحياء عند ربهم يرزقون، فهذا قول فيه إجحاف لا علاقة للتنزيل الحكيم به. وهذا أولاً.

ثانياً، ثمة الملايين من الناس المسلمين والمؤمنين، قتلوا في معارك سيقوا إليها قسراً كالغنم. وهناك خصومات سياسية وقبلية وعشائرية، تم زج مئات الناس فيها دون اختيار، وتم قتل العشرات منهم دون ذنب. وهنا تصبح الفبركة ضرورية، ويصبح التلبيس المقصود مطلوباً، حتى لا يثور هؤلاء الناس، ولا يثور أهاليهم ويتمردون على الاشتراك في معارك وخصومات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وهي أساساً ليست في سبيل الله.

صحيح أن الذين يقتلون في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون، لكن إضافة الشهيد والشهداء إلى التنزيل الحكيم، سحباً للمعنى، وتجويزاً من عندنا أمر آخر. فالذي حدد أن الذين يقتلون في سبيل الله أحياء عند ربهم، هو الله ذاته، ولم نجد أنه أعطى الصلاحية لأحد بأن يضيف إلى ما قال شيئاً، لا تأويلاً ولا اجتهاداً ولا اتكاء بفتوى. فإذا فعل أحد ذلك كان إفكاً وافتراء وتقويلاً لله بما لم يقل، تعالى الله عما يصفون.

5 – الشاهد والشهيد عند المتصوفة والفقهاء

لقد قلنا إن الشهادة بوحدانية الله هي شهادة شاهد، إذ لم ير أحد رأى العين حضورياً أن الله واحد أحد، لتكون شهادته شهادة شهيد.

وقلنا إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا شهداء على النبي (ص) بحضورهم معه، شهداء على تبليغه رسالته للناس، شاهدين على نبوته ورسالته.

وقلنا إن إبراهيم الخليل خير مثال الجدلية الشاهد الشهيد، الذي آمن بربه وبأنه المحيي المميت، ثم طلب أن يكون شهيداً على إحياء الموتى، واستجاب تعالى لدعاء خليله. أما موسى (ع) فكان خير مثال لجدلية الشهيد الشاهد، إذ كان شهيداً لتكليم الله له من وراء حجاب، ثم آمن بوحدانية الله تسليماً، بعد أن ثبت لديه من خبر الجبل استحالة رؤيته تعالى.

وقلنا إن مهمة سائر الخلق أن يشهدوا بأن لا إله إلا الله شهادة شاهد، وتقديم البينات من خلال الوجود كله على وحدانيته. وخلصنا إلى أن مهمتنا نحن اليوم بأن نكون شاهدين على وحدانية الله من خلال كوننا شهداء على خلقه. وبأن نكون شاهدين على رسالة محمد (ص) ونبوته، من خلال كوننا شهداء على مصداقية هذه النبوة والرسالة في الآفاق والأنفس.

وأن نقوم بتقديم البينات بعد النبوة والرسالة. ولهذا، فكل من يدعي النبوة والرسالة والوحي بعد محمد (ص) هو برأينا مشعوذ دجال، لأننا الآن في عصر الشهداء والصالحين، وليس في عصر الأنبياء والصديقين.

لقد أرادت الصوفية أن تحول شهادة الشاهد بالوحدانية إلى شهادة شهيد حاضر. وأرادت أن تحول شهادة الشاهد بالنبوة والرسالة إلى شهادة شهيد حاضر، فوقعت بالوهم في الحالتين ومن هنا برز عندها مصطلح “الحضرة الالهية” ومصطلح “الحضرة المحمدية”. فأغفلت بذلك بالوجود الكوني والإنساني بأكمله، وبقي عندها الوجود ثنائياً الله – الإنسان، لا وجود فيه للكون.

بكلمات أخرى، لقد أرادت الصوفية أن يتعرف الإنسان على الله (الحضرة الالهية) شهيداً، وأطلقت على من يفعل ذلك “العارف بالله”، وأرادت أن تتعرف على الرسالة المحمدية (الحضرة المحمدية) تعرف شهيد لا شاهد. فاخترعت لذلك أدوات هي: الذل والزهد والأوراد والأذكار واغماض العيون. واخترعوا معنى القلب الذي هو قلب الصدر لا الدماغ.

وبما أن العين والأذن تنتهي بالدماغ لا بقلب الصدر، فقد أغمضوا عيونهم عن الوجود الكوني والاجتماعي، وصموا آذانهم عنه، فانحرفوا بذلك انحرافاً كبيراً أوقعهم في الوهم. فبدلاً من أن يكونوا شهداء على الوجود الكوني والإنساني، ويقدموا البينات من خلال هذه الشهادة على أنهم شاهدوا التوحيد والرسالة المحمدية، وأن محمداً هو النبي والرسول الخاتم، وبدلاً من أن يكون الشهداء عندهم هم شهداء الوجود الكوني والإنساني، ويصبحوا قادة الحضارة الإنسانية وقادة تقديم البينات على الرسالة والنبوة، استبدلوا لقب الشهيد بلقب الولي. وحتى يحترموه وضعوا له الخوارق. بينما الخوارق الطبيعية المقبولة لدى كل الناس هي خوارق شهداء العلوم، علم المعادن وعلم الحركة والسرعة والهيدروليك والترموديناميك.

فخوارق هؤلاء الشهداء أنتجت لنا أمراً خارقاً هو الطائرة. وبدلاً من أن يقتصر أمر ممارسة الخوارق على الولي، كما عند التصوفة، فيذهب إلى الحج خلال ثوان (كذا) ويبقى ذلك وقفاً عليه لأنه ولي (كذا) أصبح كل الناس يستفيدون من خوارق الشهداء، الذين قدموا نتاج شهادتهم للناس، طائرات وسيارات وبرادات وعقاقير طبية، فاستعملها الناس وصلح بها أمرهم. ورغم أن خوارق هؤلاء الشهداء مشهودة وموضوعية في متناول الجميع، إلا أن السادة المتصوفة يرفضون أن يطلقوا عليهم لقب “قدس الله سره”.

إن هذه الثنائية (الله – الإنسان) عند المتصوفة، متجاوزين الوجود الكوني والإنساني، جعلت من معتنقيها أمما غارقة في التخلف والأوهام. علماً أن من المستحيل تماماً، وبدلالة التنزيل الحكيم، شهادة وحدانية الله شهادة شهيد، بل هي شهادة شاهد، كانت وما زالت وستبقى كذلك إلى أن تقوم الساعة، وهنا يكمن مفهوم الإسلام والتسليم بوحدانية الله وباليوم الآخر.

ونقول بناء عليه، إن كل من يدعي بأنه رأى الله في المنام، فهو إما كاذب أو ممسوس، وكل من صدق هذا الإدعاء، فهو لا يقل جنوناً عن صاحبه.

أما جدل الشاهد والشهيد عند الفقهاء فمختلف تماماً، عما هو عليه عند المتصوفة – فالحضرة الالهية والحضرة المحمدية لا علاقة للفقه والفقهاء بها من قريب ولا من بعيد، طالما أن الفقهاء مستنبطو أحكام (إفعل – لا تفعل). لذا، فإن جدل الشاهد والشهيد عندهم هو مصداقية الخبر. وبما أننا نتكلم عن رسالة محمد (ص) ونبوته، وبما أن الفقهاء هم أهل الرسالة (الأحكام)، فقد وضعوا لمصداقية الخبر أسساً، لما لها من أهمية كبيرة، لكن تبقى هذه الأسس في المحصلة من وضع الفقهاء أنفسهم، أي من وضع البشر.

لقد تم وضع أسس لتصديق الشاهد بناء عليها، حتى يصدق الشهيد. وأول هذه الأسس هو التواتر. والتواتر بالتعريف، هو استحالة تواطؤ الناس كلهم على الكذب. وبما أن الفقهاء جميعهم بدءاً من النعمان والأوزاعي، هم من الشاهدين وليسوا من الشهداء، فلذلك لا يمكن تصنيفهم مع الشهداء الذين قرنتهم الآية بالنبيين، فالشهداء هؤلاء هم أمثال ابن النفيس وابن الهيثم. وإذا نظرنا في التاريخ رأينا أن عدد الشاهدين أكثر بكثير من عدد الشهداء. لأن الشاهد يقوم على النقل والمحاكمة، بينما الشهيد يقوم على المشاهدة الحضورية، ثم المحاكمة والاستنتاج. ويجب علينا، والحالة هذه أن نميز بين أمرين مختلفين تماماً: الأول يتعلق بالشهيد فهو إما صادق أو كاذب. والثاني يتعلق بالشاهد، فهو إما مخطئ أو مصيب أو كاذب على شاهد آخر (كذب أحد الرواة).

وبما أننا الآن شهداء القرن العشرين، شاهدي المعلومات التي توصلت إليها الإنسانية حتى نهاية القرن العشرين، نستطيع انطلاقاً من ذك تقييم صحة بعض الأحاديث النبوية من خلال النص فقط دون النظر إلى السند وإلى علم طبقات الرجال، علماً بأنه حين أخذ علماء الحديث ينقحون الحديث، استبعدوا ورفضوا الكثير الكثير منه، مستخدمين أدواتهم المعرفية الإنسانية في زمنهم، كالبخاري ومسلم وغيرهما. ومع ذلك لم يتهمهم أحد بإنكار السنة والحديث. وتمثل فيهم جميعاً ما يلي:

  1. استخدموا أدوات معرفية إنسانية بحتة في التنقيح، ثم التثبيت أو الاستبعاد. أي أنهم كانوا شهداء عصورهم، شاهدين للمعارف التي توصل إليها من سبقهم، ولهذا لا يمكن أن يدخل ما وصلوا إليه في عالم الكمال المطلق، فنغلق باب التنقيح إلى غير رجعة.
  2. أن الله لم يوح إليهم صحة هذا الحديث وخطأ ذاك، ولم يوح إليهم اعتماد هذا الحديث واستبعاد ذاك، ولم يكونوا من الأنبياء الموحى إليهم، بل كانوا من الناس العاديين، ليس لديهم أي بعد معلوماتي إضافي من وحي أو غيره.
  3. وبما أن ذلك كذلك، ولما كان قد مضى أكثر من ألف عام على اكتمال كتب الحديث، أصبحت خلالها الإنسانية تمتلك أدوات معرفية أرقى كثيراً مما كان سائداً متاحاً في القرنين الثالث والرابع الهجريين، فقد وجب علينا إعادة الكرة في التنقيح. مع الانتباه إلى أن ما نصل إليه بفضل معارف القرن العشرين، لا يعتبر نهائياً ملزماً، فثمة معارف أخرى ستحملها القرون القادمة ليست بمتناولنا الآن، ستفرض على أهلها إعادة الكرة في تنقيح ما نقحناه ونسوق الأمثلة التالية:

1 – عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال “خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً .. الحديث”.

ونحن نرى أن هذا الحديث غير صحيح، رغم وروده في صحيح البخاري ص2299 تحت رقم 5873، لعدد من الأسباب:

أ – لقد وردت هذه العبارة نصاً في الاصحاح الأول من سفر التكوين في كتاب العهد القديم (أي التوراة): “.. وخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ..”. والأهم من ذلك أن هذا الحديث المزعوم يرسخ مقولة أن الله خلق آدم إنساناً كاملاً ناطقاً معتدلاً مستوياً، وهذه هي المقولة التوراتية بعينها، مناقضاً قوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك} الانفطار 6، 7.

ب – لقد اتقد كثير من الأئمة هذا الحديث، ومنهم المقريزي في الخطط، وابن حجر في الفتح فقال: ويشكل على هذا من الآن، آثار الأمم السالفة كديار عاد وثمود، الذي تدلنا مساكنهم (بقايا عظامهم عند المقريزي) على أن قاماتهم لم تكن مفرطة في الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب الذي ذكره أبو هريرة. وأنكر مالك هذا الحديث.

ج – لقد خلق الإنسان متناسباً مع الطبيعة من جهة، متناسباً مع نفسه من جهة أخرى، فإذا كان طوله 60 ذراعاً، أي 42 متراً، فهذا يعني أنه يعادل طول بناء برجي من 15 طابقاً. فإذا أخذنا بالنسب الإنسانية، نتج أن طول رأيه 4.5 متراً، وطول أسنانه 40سم. وإذا كان ذلك كله متناسباً مع الطبيعة، لوجب أن يكون آدم قد ظهر في العصر الجوراسي منذ 125 مليون سنة، مع الديناصورات والأشجار العملاقة، وهذا مستحيل. لأن كل شواهد التنقيب تؤكد غير ذلك، إضافة إلى أن التنزيل الحكيم ليس فيه ما يؤكد هذا الخبر تصريحاً وتلميحاً.

لقد عرض البخاري لهذا الحديث فصححه ولم يرفضه أو يستبعده، لأن معارف القرن الثاني والثالث الهجريين (ولد البخاري 194هـ وتوفي 256هـ} التي كان البخاري شاهداً عليها لم تكن تسمح له بذلك. لذا فنحن نقول تعليقاً على هذا الحديث، لقد أخطأ الراوي وصدق الله ورسوله.

2 – حديث ابن عمرو رضي الله عنه: خرج علينا رسول الله (ص) وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً. فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان أمراً قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال رسول الله (ص) بيديه فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد (فريق في الجنة وفريق في السعير).

ونحن نرى أن هذا الحديث غير صحيح، سبقنا إلى تحليله الزميل سامر اسلامبولي في كتابه “علم الله وحرية الإنسان” ص96، 97. ورغم أن الامام الترمذي صححه هو غيره، فإن من المؤسف أن يوضع هذا الحديث وأمثاله أساس الأسس في العقيدة الاسلامية، لمخالفته تماماً روح التنزيل الحكيم ونصه، ولإقراره العقيدة الجبرية بشكل مطلق على الناس.

1 – يقول الحديث: كتابان في أحدهما أسماء أهل الجنة وفي الآخر أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم.

وتعالوا معي نحسب هذه الحسبة البسيطة على أكثر الفرضيات سماحة:

  1. نترك أهل الأرض ما قبل محمد (ص). ونترك أهل الأرض ما بعد اليوم.
  2. نكتفي بفترة 1400 سنة فقط، أي مما بعد محمد (ص) إلى الآن.
  3. نفترض أن عدد سكان الأرض اليوم خمسة مليارات.
  4. ونفترض أن عددهم زمن الرسول 200 مليون.
  5. ونفترض أن وسطي عمر الجيل 50 عاماً.
  6. وأن قياس صفحة الكتاب 25×25سم من الورق الرقيق وزن 20غ/م2.
  7. عدد السطور في الصفحة 40 يستوعب كل سطر خمسة أسماء.

كم تتصور ستبلغ سماكة الكتاب الواحد؟

سنحتاج إلى 200 مليون ورقة سماكتها 40كم، ووزنها 250 طناً.

فإذا عرفنا أن الحديث يعود لزمن كان فيه عبد الله بن عمرو نفسه يحتاج إلى زاملتين ودابة، يحمل عليها الصحائف التي كانت بحوزته من علوم أهل الكتاب وكتبهم، وأن الكتب كانت من البردى وجلود الحيوانات، لأدركنا كم سيكون وزن الكتاب من هذا النوع في ذلك الزمن!!

2 – يقول الحديث .. ثم قال رسول الله (ص) بيديه فنبذهما ..

ونحن نسأل: وأين هما الآن؟ فنحن لم نجد في جميع ما قرأنا من تراجم وأخبار أي ذكر للكتابين بعد أن نبذهما الرسول الأعظم. ونسأل أيضاً: ألم يكن بين الصحابة الحاضرين فضولي يخطر في باله أن يبحث عن اسمه، في أي الكتابين هو؟ رغم أن الموضوع خطير ويستحق الفضول؟

3 – يقول الحديث: ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً.

ولقد رجعنا إلى فعل أجمل فوجدنا أن: أجمل الحساب أي جمع أعداده. ولم نجده في هذا المعنى يتعدى بحرف الجر (على). ووجدنا أن الرسول (ص)، رغم ورود إجمال الحساب وجمعه، لم يذكر رقماً يدل عليه.

4 – من الثابت المشهور أن الرسول () أمي، لا يقرأ المخطوط ولا يخطه، فكيف عرف ما في الكتابين؟ ومن أحضرهما له قبل أن يخرج بهما؟

5 – يقول الحديث والرواية لعبد الله بن عمرو: خرج علينا .. فقلمنا .. إلا أن تخبرنا ..

ونفهم نحن أن عبد الله داخل في ضمير (نا) كراو، لكننا لا نفهم قوله بعد ذلك فقال أصحابه .. وكأنه يخرج نفسه من (أصحاب رسول الله)، وكأنه بعد أن كان راوياً داخلاً في (نا) أصبح راوياً خارجاً منها. إلا إن كانت الجملة في الأصل: فقال بعض أصحابه .. فيستقيم عندها أن يخرج نفسه من البعض.

6 – يقول الحديث: .. فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان أمر قد فرغ منه؟

أولاً، وردت لفظة (أمر) مرفوعة وكان حقها النصب، كما في قوله تعالى وكان أمراً مقضياً.

7 – كان أصحاب الرسول عرباً، لا بل من فصحاء العرب، وقولهم (إن كان) فيه تشكيك لا يليق لا بالصحابة ولا بالرسول الأعظم، وكان حقهم أن يقولوا (إذا كان) لأن ما بعد إذا محقق الوقوع، على خلاف إن، فما بعدها يحتمل عدم الوقوع، كما في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} فالنصر والفتح واقعان لا ريب.

8 – كان سؤال الصحابة (ففيم العمل) سؤالاً وجيهاً في محله، نابعاً من خطورة ما خرج عليهم الرسول به.

9 – يقول الحديث: سددوا وقاربوا .. ويعتبره جواباً من الرسول الأعظم على سؤال الصحابة (ففيم العمل إن كان أمر قد فرغ منه). فأي جواب هذا؟! وماذا يعني تحديداً؟ وما علاقة التسديد والمقاربة بما ورد في الحديث من صريح الدعوة إلى نفض اليدين من كل ما في الوجود؟ وهل يعقل لرسول ونبي خاتم أن يجيب على سؤال واضح محدد بجواب غائم غامض يضيع فيه مسلمو العالمين ومؤمنو كل الأزمان حتى تقوم الساعة؟ ولماذا نشم في هذين الفعلين رائحة العامية، التي نجل الرسول الأعظم وهو أفصح الفصحاء عن التكلم بها؟ لقد اعتدنا أن نفهم في لغتنا المحكية من (المساددة والمقاربة) معنى المناورة لبلوغ الهدف، ومعنى القبول بالتنازلات لبلوغ القصد، فأين هذا كله من الجنة والنار؟

10 – يقول الحديث: .. وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل .. ويقول سبحانه في تنزيله الحكيم.

  • {.. إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} الكهف 30.
  • {وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى ..} الكهف 88.
  • {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ..} التوبة105.

ونرى بوضوح لا لبس فيه أبداً، مهما اخترع البعض من تخريجات، ومهما جهد في تقديم التبريرات، أن الحديث يقول شيئاً يتضاد تماماً مع ما ورد في التنزيل. ونحن لا نندهش من واضح الحديث الذي يستخف بعقول الناس، بقدر ما نندهش من الذين اعتمدوه وصححوه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

3 – سيد الشهداء رجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله.

وهذا، فيما نرى، حديث صحيح. إذا عرضناه على التنزيل الحكيم، وجدناه متطابقاً تماماً معه. فالشهيد تعني الحضور وأداء الشهادة والعلنية، والإنسان الذي يعيش في مجتمع حاكمه ظالم، إذا قام يعلن شهادته على الظلم بالنصح والتوجيه، وكلفه ذلك حياته، كان سيد الشهداء بحق. والعالم الطبيب الهولندي، شهد داء الكوليرا في أندونيسيا، وعرض نفسه للمرض، ليستطيع أن يشعر كطبيب بما يشعر كطبيب بما يشعر به المريض بالكوليرا، فساعده ذلك على التشخيص والعلاج. ثم مات فعلاً ودفع حياته ثمناً لشهادته هذه، كان سيد الشهداء بحق.

وتاريخ العلوم الكونية والإنسانية يعطينا مئات الأمثلة والأسماء عن سادة الشهداء، وكل الذين وقفوا حياتهم ودفعوها ثمناً لشهادتهم في جميع المجالات الكونية والاجتماعية والسياسية.

(1) “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة”، دار الأهالي بدمشق 1990، ص266 – 269.

(2) قد يخامر البعض سؤال: فأين قتلى الحرب الذين قال عنهم تعالى {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون} آل عمران 169؟ أليسوا هم الشهداء؟ وما معنى تلك المدافن التي نسميها مقابر الشهداء؟

نقول: إذا استعرضنا جميع آيات التنزيل الحكيم، وبخاصة تلك التي ورد فيها ذكر الشهادة والشهيد، لا نجد فيها البتة أية إشارة إلى قتل أو قتال لا في سبيل الله ولا في سبيل غيره. نحن نجد أن الشهيد من أسماء الله الحسنى، ونجد أ الشهيد هو الذي شهد عقد البيع، لكننا لا نجد أبداً ما يربط بين الشهيد المقتول في سبيل الله أو في سبيل غيره.

إن مصداقية قوله تعالى في آل عمران 169، ومصداقية قول رسوله – إن صح – قائمة لا شك فيها ولا ريب، إنما يبقى الربط بين القتلى والشهداء غائباً في التنزيل الحكيم وغير موجود .. فمن أين جاء هذا الربط بين الشهداء والذين قتلوا في سبيل الله؟

نحن نرى أن هذا الربط جاء من حضور الشهيد للقتال الذي قتل فيه، فحين تحصل المعركة بين فريقين، يعتبر جميع من شارك فيها شهداء، لأنهم حضروها، سواء قتلوا فيها أم لم يقتلوا. وشهداء المعارك وحاضروها هؤلاء، منهم من يقتل في المعارك، ومنهم من يبقى حياً، ليشهد أمام من لم يحضرها، وليبلغه خبرها، وما جرى فيها من أحداث، فيصبح سامعوه شاهدين على المعركة التي كان هو شهيدها.

من هذه الزاوية بالذات، زاوية الحضورية، نقول إن جميع من حضر معارك بدر وأحد مثلاً، من الصحابة والمشركين هم شهداء. ونقول إن جميع من حضر الحرب العالمية الثانية سواء في صفوف المحور أم في صفوف الحلفاء هم شهداء، ينطبق عليهم هذا الاسم أحياء وأمواتاً. ولاحظ هنا معي أن الله غفر في تنزيله لمن شهد بدراً وهو مع النبي (ص) وفي صفوفه، أما شهداء المعركة من المشركين سواء قتلوا أم لم يقتلوا فلا!!

ولكن يبقى أقوى دليل وأوضح بينه وأدمغ إثبات على حضور الرجل لمعركة ما، هو أن يقتل فيها، فهذا هو المخرز الذي يفقأ كل عيون الشك.

ومن هنا، ذهب الناس إلى إطلاق اسم الشهداء على الذين يقتلون في الحروب، وإلى تكريمهم ورفع ذكراهم. لكن العجيب أن الناس ينسون الشهداء الذين لم يقتلوا في المعارك، رغم أنه لولا شهادتهم الحضورية، لما تواترت إلينا أخبار تلك الحروب وأحداثها، ولما علمنا بها وصرنا شاهدين عليها.

هكذا تطور استعمال كلمة شهيد، ومع أن هذا التطور لا يناقض ما ورد في التنزيل الحكيم من معاني الشهادة، إلا أن علينا أن نكون دقيقين. فإذا ذكرنا الشهداء كقتلى، وجب أن نذكر شهداء ماذا. شهداء بدر أم شهداء معارك فلسطين أم شهداء الحرب العالمية الثانية. وإذا قلنا إن فلانا مات غرقاً، أو بحادث طيارة، وأطلقنا عليه شهيد، وجب أن نقول شهيد ماذا، ونحدد الحادث والتاريخ الذي دفع فيه هذا الشهيد حياته ثمناً لشهادته الحضورية.

أما سبب هذا التطور في المعنى، فنراه في أن الناس يذكرون الأموات أكثر من الأحياء. وتصوروا معي معركة حصلت بين جيشين، لم يقتل فيها أحد. سينسى الناس أمرها بعد فترة وجيزة، ولن يسجلها التاريخ، وستنتهي بشهداء دون شاهدين.

(1) تعليقات
  1. الأخ الاستاذ الدكتور محمد شحرور المحترم
    أرجو التكرم بتوضيح معنى “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون” وقد كان شرحكم لهذه الآية ليس واضح تماما حيث وصفتم هذه الحياة بأنها مجازية أو حياة ليست بالمعنى الدارج والمفهوم. لكن كلمة “يرزقون” أراها تعني حياة عادية فيها رزق كرزق الدنيا…أليس كذلك؟ أرجو التكرم بالتوضيح


    الأخ محمود
    من قتل في سبيل الله هو حي يرزق عند الله، لا عندنا، ولا نعرف كيف يتم ذلك، هل هو يرزق مثلنا وكيف يعيش، لكن ما نعلمه أن الجنة والنار لم توجدا بعد وستقومان على أنقاض عالمنا هذا.

اترك تعليقاً