الفصل السابع: مقاصد الشريعة

خلال القرون الطويلة لتطور الفقه الإسلامي، وتعبيراً عن الأرضية المعرفية والاجتماعية والاقتصادية، وضع الفقهاء مصطلحاً هو “مقاصد الشريعة¨ يرسم خطاً لتطور التشريع الإسلامي التاريخي، وينم عن الثقافة التاريخية للأمة، وزعموا أن هذه المقاصد هي الحفاظ على خمس:

  • الحفاظ على النفس (الحياة)
  • الحفاظ على الدين
  • الحفاظ على العقل
  • الحفاظ على المال
  • الحفاظ على النسب

ومنهم من أضاف إليها سادسة هي: الحفاظ على العرض.

إننا نريد في بحثنا هذا أن نناقش المقصود بمقاصد الشريعة، وأن نحدد المسؤول المكلف عن هذا “الحفاظ¨، أهو الفرد، أم هو الجماعة عن طريق الوجدان والضمير الإنساني، أم هو الدولة عن طريق السلطة؟ وهل مهمة السلطة الحفاظ على الدين؟ وعلى أي دين نريدها أن تحافظ؟ أليس جعل الحفاظ على دين بعينه من مهام السلطة أمراً لا يتناسب مع حرية الأديان في قوله تعالى {لا إكراه في الدين} البقرة 256؟

  • الحفاظ على النفس (الحياة):

لقد أرسى الفقهاء علماء العقيدة أن عمر الإنسان محتوم ورزقه مقسوم وعمله مرسوم، مكتوب عليه وهو في بطن أمه شقي أم سعيد، وأنه لو اجتمعت الإنس والجن على أن يزيدوا في عمر زيد دقيقة واحدة، أو على أن ينقصوا من عمر أحمد دقيقة واحدة ما استطاعوا.

وطبقاً لهذه الأطروحة ينتج لدينا أن جميع من قضى نحبه في هيروشيما وناكازاكي، من أطفال ونساء وشيوخ يزيد عددهم على مئتي ألف إنسان بسبب القصف الذري لهاتين المدينتين من قبل الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، إنما ماتوا لأن أجلهم انتهى. وأن جميع من شوّهه هذا القصف هناك، ممن يزيد عددهم على مئات الألوف، إنما كان مكتوباً عليهم منذ الولادة، وهذا لا يقبله عاقل من جانب، ولا يتناسب مع ما جاء في التنزيل الحكيم من جانب آخر.

يقول تعالى: {ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} آل عمران 145، هذه الآية من المتشابهات وليس من المحكمات لعدم وجود أمر أو نهي فيها. أي أنها من القرآن، كتاب علوم النبوة الذي يضم نواميس الكون وقوانين الوجود، وإنما سمى سبحانه الموت فيها (كتاباً مؤجلاً) لأن كتاب الموت فيه الشروط الموضوعية التي يتأجل حدوث الموت لحين اكتمالها. وكما أن للموت كتاباً، كذلك لكل شيء في الكون كتاب، فللمطر كتاب وللزلازل كتاب، وللبراكين كتاب، وهذا معنى قوله تعالى {لكل أجل كتاب} الرعد 38، وقوله تعالى {وكل شيء أحصيناه كتابا} النبأ. أي أن الوقوع الحتمي لأي حدث طبيعي أو إنساني لابد وأن يسبقه اكتمال الشروط الموضوعية التي يضمها كتابه.

إن عدم ثبات الأعمار، التي يزعم ثباتها السادة الفقهاء، يوضح لنا عدالة الحكم على القاتل بالقتل، ويبين لنا سبب المكانة الرفيعة التي أعطاها الله للذين دفعوا مابقي من عمرهم ثمناً لأداء شهادتهم إن كانت حقاً وصدقاً حتى ولو كانت على عقد بيع حيث أنهم أخذوا لقب شهيد وهم أحياء لابموتهم.

هذا عن الأعمار، أما عن الأرزاق فالله تعالى يقول {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيّا} الزخرف 32. هذه الآية تبين لنا قواعد التنظيم الاجتماعي المتحضر، وتوضح لنا أن الإنسان يمارس عملاً واحداً في معاشه فيعمل في الزراعة وغيره يعمل في الصناعة وغيرهما يعمل في التجارة أو في الخدمات. ثم تشير إلى مفهوم التسخير في قوله {ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً} هذا المفهوم الذي يعني التكافل والتكامل بين أفراد الجماعة، فالمزارع مسخر لإطعام العامل في المصانع، والطبيب مسخر لعلاج هذا وذاك، والمعلم مسخر لتعليم أبناء هؤلاء جميعاً، والآية لا علاقة لها بالتحديد المسبق لأرزاق الأفراد كلاً على حدة.

لقد قرأ السادة الفقهاء قوله تعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} الذاريات 22، فظنوا أن أرزاق الناس ـ جماعات وأفراداً ـ محددة سلفاً. وهذا صحيح على صعيد الجماعات الإنسانية إن نحن فهمنا الآية بمعنى الجمع الكلي، لكنه غير صحيح على صعيد الأفراد، لأن الآية تتحدث عن الجماعة الإنسانية بمعنى الجمع وتبين أن أرزاق الناس لها مصدران تأتي منهما: الأول خيرات الطبيعة من نبات وحيوان ومعادن، والثاني العمل. أما خيرات الطبيعة من طعام وشراب وأنعام فأساسها الماء، ولهذا سمى سبحانه المطر في هذه الآية رزقاً، وهو يأتي من السحاب في السماء الدنيا تماماً كما في قوله تعالى {وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها} الجاثية 5.

وأما عن الأعمال وأنها ـ بحسب السادة الفقهاء ـ مرسومة محتومة لامناص للإنسان إلا أن يفعلها، فالقول بهذا يجرح العدل الإلهي حين يعاقب رجلاً على ارتكاب إثم مكتوب عليه بالأصل، ولايبقى معه معنى ليوم الحساب بما فيه من ثواب وعقاب، ولايتناسب مع عشرات الآيات في التنزيل التي تربط مصير الإنسان في الآخرة بأعماله في الدنيا، وهذا لايكون إن كان (المكتوب على الجبين لازم تشوفو العين} الذي ترسخ في عقول الناس وعلى ألسنتهم.

يقول تعالى {كل امرئ بما كسب رهين} الطور 21، ويقول {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشورا * إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا} الإسراء 13 ـ 14 ويقول سبحانه {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وماربك بظلام للعبيد} فصلت 46.

الكسب في آية الطور 21 هو العمل، أو إن شئت الدقة هو عائد العمل وناتجه ومردوده. والطائر في آية الإسراء 13 هو ماتجاوز من عمل الإنسان إلى الآخر. والكتاب فيها هو سجل الأعمال التي اختارها الإنسان الواعي لنفسه في الحياة الدنيا. والقارئ المتأمل لايحتاج إلى إجازة في علم التجويد ولا إلى دكتوراه في علم أسباب النزول ليفهم أن الله تعالى حين ترفع الأقلام وتجف الصحف يجبر عباده على فعل ماكتبت الأقلام في الصحف وليس مايختارونه هم ثم يثيبهم أو يعاقبهم يكون ظالماً ولايبقى معنى للعبارة في آية فصلت 46(1).

وقد عزا بعض الفقهاء والمفسرين هذا المكتوب سلفاً إلى علم الله الكامل وأن للعلم صفة إخبار لاصفة جبر، نقول هذا صحيح ولكن كمال علم الله يجبر الإنسان على فعل ماهو مكتوب، وإلا فإن الله يكون ناقص المعرفة. والصحيح أن في علم الله كلية الاحتمالات الممكنة ولا يوجد في علم الله ترجيح في احتمال على آخر، وهذا يتناقض مع كمال علم الله وإنما يوجد ترجيح في أوامره للإنسان أن يفعل الخير ويترك الشرك (إن الله لايأمر بالفحشاء). وبنفس الوقت يكون الإنسان حراً تماماً في لحظة اختياره وعندما ينخفض عدد الاحتمالات إلى الواحد فهذه حالة اضطرار أو حالة إكراه وفي كلتا الحالتين لا يوجد حساب.

إننا نرى في ضوء ماسلف أن الصحيح في مسألة الحفاظ على الحياة أن تكون من مهمات الدولة والمجتمع وليس من مقاصد الشريعة. فالدولة بما تقيمه من مراكز للبحوث الطبية التي تسهم في القضاء على الأمراض مما يقلل بالتالي من نسب الوفيات ويرفع من معدل الأعمار، وبما تشرف عليه وتموله من دراسات في كتاب الموت وكتاب الحياة، هي المعنية بهذه المسألة. أضف إلى ذلك أن الحفاظ على الحياة ليس حصراً بأتباع الرسالة المحمدية حتى نقول إنها من مقاصد الشريعة، بل هي محط اهتمام كل الأمم والديانات الأخرى، لابل إننا نرى أن المسلمين المؤمنين أتباع الرسالة المحمدية هم أكثر أمة لاتحترم الحياة ولاتقدسها، وأن الأطباء في العالمين العربي والإسلامي يمارسون الطب بدون أية مسؤولية، ولا يوجد طبيب عنده تأمين ضد الأخطار لأنه لامحاسبة عليه، ونقابات الأطباء مهمتها الدفاع عن الأطباء الذين يرتكبون أخطاء لامعاقبتهم. وهذه المهنة هي أربح مهنة عند المسلمين لأنها تتاجر بسلعة مجانية عند الناس وهي الحياة. والعقيدة الإسلامية بمفهومها التقليدي كما صاغها الفقهاء أكبر معين ومؤيد لهم. وإن الثقافة السائدة لدى مجتمعاتنا هي ثقافة الموت والحزن والأسى، وليس ثقافة الحياة والمرح والسعادة.

وفي قناة فضائية سمعنا السيد الفقيه المتحدث في برنامج اسمه “الإسلام وقضايا المجتمع¨ يسفّـه حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة ويقارنها بحقوق الإنسان في الإسلام، ولم يرف له جفن وهو يقول: “بما أن الله ضمن بأن أعمار الناس ثابتة وأن أرزاقهم مكتوبة سلفاً فإن بند حق الحياة مضمون من قبل الله ولا علاقة للناس ولا للأمم المتحدة به¨. ومرة أخرى لم نسمع أن أحداً من الحاضرين الذين صفقوا له طويلاً قد ناقشه في ذلك. أتراهم لم يسمعوا أن الناس في أمريكا مصابة بالتخمة وأن الناس في أفريقيا تموت من الجوع؟ أتراهم لم يقروؤا أن معدل عمر الإنسان في أفريقية يقل عن 40 سنة وأنه في السويد يزيد عن 80؟

  • الحفاظ على المال:

نحن مع هذا البند الثاني من بنود مقاصد الشريعة أمام خلط عجيب بين الفطرة التكوينية والتكليف التشريعي، وهو خلط يثير الدهشة ويستدعي المرارة والسخرية في آن معاً.

فالمال يدخل تحت بند الأرزاق والممتلكات من جانب، وله علاقة وثيقة ببند الحياة من جانب آخر باعتباره عصب الحياة، ولايستطيع المرء بدونه تأمين مستلزمات حياته من مأكل ومشرب وملبس ومسكن. والحفاظ على الحياة لايكتمل إلا بالمحافظة على المال.

وحب المال فرع من فروع غريزة التملك الفطرية لدى الإنسان، أشار إليه تعالى بقوله {وتحبون المال حباً جما} الفجر 20، وبقوله عن الإنسان {وإنه لحب الخير لشديد} العاديات 8، ومعلوم أن من يحب شيئاً يحافظ عليه. ومن هنا فإن من المضحك أن نكلف الإنسان بالحفاظ على أمر كالحياة والمال، في حين بالأصل يحافظ عليه بحكم طبعه وفطرته، فإن فعلنا كنا كمن يسن تشريعاً للبقر يكلفها فيه بأكل العشب.

فحين يقتل الإنسان نفسه، أي ينتحر، أو يقتل غيره بغير حق (الخروج عن الصراط المستقيم)، فهو لايخرج عن مقاصد الشريعة بل يخرج عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والمنتحر وهو بكامل ملكاته العقلية ـ فيما نرى ـ ليس مجرماً يستحق العقاب لأنه خالف ماوضعه له الفقهاء، بل يستحقها لأنه فرّط وأهدر أغلى نعمة أنعم الله بها على خلقه هي الحياة إلا إن كان مريضاً والله أعلم بذلك. وحين يخرج الإنسان عن فطرته في الحفاظ على المال فيصبح سفيهاً فاقد التوازن العقلي ويجب علاجه والحجر عليه استناداً لقوله تعالى {ولاتأتوا السفهاء أموالكم} والسفيه يحدده الطب النفسي وليس الفقه.

واستنتاجاً لما قلناه فإن السعي نحو حياة أفضل من ناحية والحفاظ على المال العام ومكافحة الفساد من ناحية أخرى يجب أن يكونا من مقاصد الشريعة والدولة والمجتمع والأفراد.

  • الحفاظ على الدين:

مرة أخرى نتساءل: ماهو المقصود بالدين؟ وماالمقصود بالحفاظ عليه؟ ومن هو المسؤول المكلف بهذا الحفاظ؟ وهل قتل المرتد يدخل ضمن بند الحفاظ على الدين؟

إن كان المقصود بالدين، هو ذلك المنهاج التشريعي الراسم للسلوك الإنساني الذي أنزله تعالى وحياً على قلب نبيه المصطفى، فالله تعالى يقول {من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها} الإسراء 15، ويقول {ومامحمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين} آل عمران 144. “الشاكرين في الآية هم المؤمنون والشكر ضد الكفر وانظر إن شئت النمل 40 ولقمان 12¨. ولقد اشترط تعالى الرضى تطوعاً واختياراً مع الإيمان، ونهى عن الإكراه في قوله تعالى {لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها والله سميع عليم} البقرة 256، نلاحظ أن مقابل الإكراه في الدين ذكر الطاغوت، والطاغوت على وزن فاعول كقولنا حاسوب وهو الآلة التي تكرر العملية الحسابية مرات عديدة. والطاغوت الذي يمارس الإكراه. فالذي يؤمن بالله لا يمكن أن يكون طاغوتاً يُكره الناس على الإيمان بالله كرهاً وعلى الصلاة والصوم. وكل من يمارس الإكراه بغير وجه حق فهو طاغوت. وهذا يختلف عن العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، حيث يقبل المواطن التقيد بالقانون، ويقبل مبدأ تطبيق العقوبة. وأشد أنواع الإكراه هو الإكراه في الدين، وهو إكراه الإنسان على تبني عقيدة وإيديولوجيا لايريدها. والنبي (ص) خلق جواً عاماً ضد الأصنام قبل تحطيمها في الأماكن العامة، ولكنه لم يدخل بيت أحد ليبحث ماذا يوجد فيه، ولم يكره أحداً على أداء شعائر الإيمان. وهذه الآية هي من تعاليم الرسالة المحمدية، وضمن للإنسان حريته في اختيار دينه وعقيدته. وهذا لايتعارض مع آيات القتال والسيف حيث تدخل هذه الآيات في القصص القرآني، لافي الرسالة العالمية.

ومن هنا فنحن نقترح استبدال هذا البند ببند آخر بديل هو: الحفاظ على حرية الاختيار عند الإنسان وحمايتها، ثم نرفعه بحيث يصبح هو البند الأول في مقاصد الشريعة.

فالحرية هي القيمة العليا، وهي المقصد الأول من مقاصد الشريعة الذي لايتقدمه ولايعلو عليه أي مقصد آخر، والحرية هي كلمة الله العليا للناس جميعاً، وفيها تتحقق عبادية الناس لله في الحياة الدنيا، وليس عبوديتهم له لأن العبادية هي المطلوبة من الناس وليس العبودية، وذلك في قوله تعالى {وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات 56(2). والجهاد في سبيل حرية الاختيار للناس هو الجهاد في سبيل الله الذي يتجلى في أشكال عديدة ويأتي على أنواع كلها مقبولة حسب الشروط الموضوعية لممارستها:

  1. حرية الدين وحرية الإنسان في اختيار العقيدة التي يشاء.
  2. حرية ممارسة الشعائر الدينية. لذا فإن من مقاصد الشريعة أن يكون هناك مسجد وكنيسة وكنيس ومعبد بوذي أوهندوسي وأي معبد يختاره الناس بملء إرادتهم.
  3. حرية الضمير بأن يقول الإنسان مايراه حقاً بلا خوف.
  4. حرية التعبير عن الرأي بالطرق السلمية ومنها الصحافة.
  5. حرية اختيار العقد الاجتماعي الذي يشاءه بين السلطة والشعب (الدستور ـ النظام الأساسي ـ القانون الأساسي).
  6. حرية اختيار شريك الحياة لتكوين أسرة (لانعني هنا حرية الزواج المثلي).
  7. حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي لايقتصر على مطاردة المتخلفين عن تلبية نداء المؤذن للصلاة في الطرقات، وملاحقة النساء اللاتي يكشفن عن أعقابهن في الأسواق، ونرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل مؤسسات المجتمع المدني التي تمارس الرقابة على المؤسسات العامة والخاصة فتأمرها بالمعروف وتنهاها عن المنكر. وأرى أن البرلمانات أو مجالس الشعب أو مجالس النواب أو المجالس الاتحادية هي قمة الهرم في مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فعلينا تطويرها وزيادة الوعي بأهميتها وفعاليتها. وفي هذا المستوى بالذات فإن سياسة حرق المراحل قد تكون مدمرة تماماً وتعطي عكس النتائج المرجوة. فنرى أن النبي (ص) في التوحيد مارس سياسة حرق المراحل، فهناك شرك وتوحيد، أما مع المرأة والرق فلم يمارس هذه السياسة وتركها للزمن حيث أن النبي (ص) قص الشريط فقط لتحرير المرأة والرق، فلقد انتهى دور الرق عالمياً ماعدا جمهورية موريتانيا الإسلامية فمازالت بقاياه موجودة، وقد يعود بأشكال وأنماط جديدة، ومن هنا يتبين ضرورة وجود منظمات مثل حقوق الإنسان وحقوق الطفل ونقابات العمال، ولكن المرأة حتى الآن لم تتحرر بشكل كامل، ومازال أمامنا الكثير لنفعله بالنسبة لتحرير المرأة. وقد أوردت بحثاً خاصاً في هذا الكتاب حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهنا أورد مثالاً على سياسة حرق المراحل في الانتقال من روسيا القيصرية ومستعمراتها، إلى السلطة السوفياتية. فقد أزيح القيصر في فبراير عام 1917 نتيجة اضطرابات بسبب الجوع وهزيمة الجيش الروسي أمام الألمان، وسادت الفوضى البلاد حيث انتقلت فجأة من سلطة ملكية إقطاعية تؤيدها الكنيسة إلى برلمان (دوما). وكانت القوة الوحيدة المنظمة حينذاك هي الحزب البولشفي حيث بلغ تعداده سبعين ألفاً في مساحة تساوي سدس الكرة الأرضية.

ونظراً لوجود هذه القوة فقد اغتصب البولشفيك السلطة وفرضوا ديكتاتورية دمرت المجتمع الروسي بالتمام والكمال، صحيح أن المجتمع الروسي الآن بعد انهيار السلطة الشيوعية مجتمع مختلف تماماً عنه أثناء الحكم القيصري، ولكن تم دفع ثمن غالٍ جداً لهذا الانتقال. ففي مثل هذه الانتقالات مع حرق المراحل، فإن أي قوة منظمة ولو كانت صغيرة الحجم تستطيع أن تسيطر على السلطة، وتقيم ديكتاتورية قاسية جداً.

وأورد مثالاً آخر على سياسة التدرج بدون حرق المراحل، وهو اليابان. ففي عام 1868 تمت دعوة رجال من الإنكليز للإشراف على بناء السكك الحديدية وتمديد الأسلاك البرجية وتكوين الأسطول، وتمت دعوة مثلهم من الفرنسيين ليعيدوا صياغة القوانين ويدربوا الجيش، وكُلف رجال من الألمان بتنظيم شؤون العيش والصحة العامة، وجاؤوا برجال من إيطاليا ليعلموا الناس النحت والتصوير، ودخلت اليابان نطاق الثورة الصناعية. لقد جاهد الإمبراطور إيتو في إعلان أول دستور عام 1889 حيث كان رأس السلطة التشريعية ورأس الحكومة، ومن ذلك أنه اعتبر الديموقراطية الغربية فيها مفاسد فأنشأ مجلس النواب والأشراف وحصر عدد الناخبين بعدد قدره 460 ألفاً من سكان اليابان البالغ عددهم حوالي 30 مليوناً، ثم توسع هذا العدد حتى بلغ 13 مليوناً عام 1928. (انظر قصة الحضارة ـ وول ديورانت ـ المجلد 5 ـ 6 الطبعة الثالثة ص 168 ـ 170).

لقد أوردت هذين النموذجين لأننا نرى نتائجهما في وقتنا الحاضر.

والفرق الأساسي أن التجربة الروسية قتلت وطردت كل طبقة النبلاء والمثقفين لأن من قادها لايملك أي مهنة إلا التدريب على استلام السلطة ويسمى المحترف الثوري.

والنهضة اليابانية قادها وقام بها طبقة النبلاء التي سادت لمدة قرون ولديها قيم أخلاقية صارمة جعلت الناس تثق بهم. وهكذا نرى نجاح التجربة اليابانية إلى اليوم وفشل التجربة الروسية حيث عاشت 74 سنة.

ونرى أن عدة دول عربية سارت على درب التجربة الروسية، فدمرت شعوبها وتقدمت!! ولكن إلى الوراء!!.

من هنا نرى أن مقاصد الشريعة يجب أن تضمن حرية التعبير السلمي والصحافة ومؤسسات المجتمع المدني الطوعية باعتبارها خير وسيلة توصل إليها الإنسان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أما قولهم أن قتل المرتد هو للحفاظ على الدين، فهي حالة إقصائية تماماً للآخر، ولا يوجد ملة في الأرض سماوية أو غير سماوية تحكم بالموت على الخارج منها، إلا في الفقه الإسلامي الموروث.

  • الحفاظ على العقل:

ومرة أخرى تدعونا مقاصد الشريعة المزعومة إلى الحفاظ على العقل، ومرة أخرى نتساءل: أي عقل هذا الذي يأمروننا بالحفاظ عليه؟ وللجواب على هذا السؤال لابد أولاً من التفريق بين عقل فطري مجرد وعقل مكون مكتسب. ولابد ثانياً من إلقاء نظرة على تعريف العقل في التنزيل الحكيم، وعلى تعريفه في كتب الحديث النبوي، وعلى تعريفه عند الحكماء في كتب الأخبار، وعلى تعريفه عند الفقهاء في كتب الفقه، وعلى تعريفه عند المتصوفة في كتب التصوف.

أما عن وجوب التفريق بين العقل الفطري والعقل المكتسب، فقد أخذناه من قول من قال: “العقل ضربان: عقل الطبيعة وعقل التجربة وكل منهما محتاج للآخر فلا تكمل المنفعة إلا باجتماعهما معاً وأخذناه من قول سحبان وائل أحد حكماء العرب “العقل بالتجارب لأن عقل الغريزة سلم إلى عقل التجربة¨ وإنما نعني بالعقل الفطري ملكة الإدراك الأولى التي تولد مع الإنسان، فيميز معها البديهيات التي لايحتاج في تمييزها إلى خبرات طويلة وتجارب معقدة كالتمييز بين التمرة والجمرة، ونعني به الإدراك الفؤادي أي الإدراك المشخص وإزالة التناقض بين الاسم والمسمى (PERCEPTUAL COMPREHENSION). ونعني بالعقل المكوّن المكتسب هو ذلك الجانب الذي صقلته الخبرات وشحذته التجارب وصار أداة صالحة لاستنباط النتائج من المقدمات (التحليل والتركيب والاستنتاج). فإن غاب جانب العقل الفطري عند الإنسان صار معاقاً معزولاً عن العالم الخارجي أو مجنوناً، وإن غاب جانب العقل المكوّن المكتسب عنه صار غبياً أحمق.

وأما عن إلقائنا نظرة على تعريف العقل في مختلف الكتب، فلقد اخترنا تجنباً للإطالة فصل “العقل¨ من كتاب الياقوتة في العلم والأدب من العقد الفريد لقاضي قضاة الأندلس أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي القرطبي (246 ـ 328 هـ) وانتقينا منه مايفيد في بحثنا هذا.

إن الباحث عن لفظة “العقل¨ في التنزيل الحكيم لايجدها، بل يجد محلها عدة ألفاظ بديلة أولها اللب، فأولو الألباب في الوحي الإلهي ـ أي أصحاب العقول ـ ورد في ستة عشر موضعاً، ثمانية منها في مكة المكرمة وثمانية في المدينة المنورة. ونرى في الآيات الست عشرة أن اللب الوارد في التنزيل الحكيم هو محل التقوى ومحل الهدى، وهو أداة التذكر والاعتبار وهذه صفات كلها من صفات الدماغ.

ثانيها القلب الذي ورد بصيغة المفرد والمثنى والجمع في 132 موضعاً من التنزيل الحكيم، منها قوله تعالى {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} آل عمران 159، قوله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل..} الأعراف 179. أما آية آل عمران فغلظة القلب تعني بلادة الذهن، وأما آية الأعراف فالقلوب فيها أدوات الفقه مثلما أن الأعين أدوات الإبصار والأعين أدوات السمع، والفقه مفردة قرآنية تعني الفهم والتفكر والتدبر، وتعني شق الأشياء لكشف ماخفي منها وما غمض، وهذه كلها صفات للدماغ، حيث أن القلب بمفهوم العضلة القلبية التي تضخ الدم لم يذكر ولا مرة واحدة في التنزيل الحكيم، فهو شأنه شأن الرئتين والمعدة .. إلخ، فلو عنى بقوله تعالى {بل قست قلوبهم} العضلة القلبية فهذا يعني أن يصابوا بتصلب الشرايين. وسمعت الداعية حنان القطان في قناة (إقرأ) تتحدث في عدة حلقات عن القلب ورسمت خلفها صورة العضلة القلبية، وأوردت كل آيات التنزيل الحكيم التي ذكر فيها القلب على أنه العضلة القلبية وذكرت كل صفات هذه العضلة القلبية ـ والتي هي صفة الدماغ ـ إلا صفة واحدة غفلت عنها تماماً وهي ضخ الدم!!.

ثالثها الحجر، بكسر الحاء وسكون الجيم، الذي ورد مرة واحدة في قوله تعالى {هل في ذلك قسم لذي حجر} الفجر 5. والحجر هو الحضن وهو الصفة المانعة من الحمق والضلالة وهي من صفات الدماغ. أما أصحاب الحجر المذكورون في الآية 80 من سورة الحجر فهم أهل مدائن صالح من ثمود، ولا علاقة لهذا الاسم بالعقل من بعيد ولا من قريب.

رابعها الفؤاد، الذي ذكره سبحانه في كتابه العزيز ست عشرة مرة، مفرداً كما في قوله تعالى {ولاتقف ماليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} الإسراء 36، ومجموعاً كما في قوله تعلى {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لاتعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} النحل 78، فالفؤاد في الآيات هو الإدراك المشخص بالحواس وعلى رأسها السمع والبصر وهو وعاء المادة الخام للفكر والعقل (PERCEPTUAL COMPREHENSION).

هذا عن العقل كما يراه التنزيل الحكيم، فماذا عن العقل كما يراه النبي العربي (ص)؟ العبارات التالية من فصل العقل عند ابن عبد ربه، ينسبها إلى النبي (ص) إن صحت:

  1. لا تقتدوا بمن ليس له عقدة ( أي عقل)، (قارن هذا القول مع قوله تعالى {ومن شر النفاثات في العقد}.
  2. ما خلق الله خلقاً أحب إليه من العقل.
  3. إن كان لك عقل فلك فضل.
  4. كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه.
  5. العقل نور في القلب نفرق به بين الحق والباطل (لاحظ القلب هنا هو الدماغ).
  6. بالعقل عرف الحلال والحرام وعرفت شرائع الإسلام. (في الوصايا نرى {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون})، فالله يعبد بالعقل (الوصايا) ويُحَبّ بالوجدان (الصلاة).
  7. قوام المرء عقله، ولادين لمن لاعقل له.
  8. العاقل يحلم عمن ظلم، ويتواضع لمن هو دونه، ويسابق إلى البر من هو فوقه.

إن المتأمل، الذي يحكم بصحة الحديث النبوي من موافقته وتطابقه مع آيات التنزيل الحكيم وقبوله إنسانياً قبل قبوله إيمانياً، ويحكم بعدم صحته من مخالفته لمقاصدها ومعانيها، يرى بوضوح أن قائل هذه العبارات يغرف من النبع القرآني دون ضرورة للبحث عن السند حتى ولو كان موضوعاً فهو من الحكمة الإنسانية. لكنه يقف متحفظاً بشدة قبل قبوله بصحة الأحاديث التالية، بعيداً عن سلسلة رواتها:

ذكر ابن عبد ربه الأندلسي في كتابه (العقد الفريد ـ كتاب الياقوتة في العلم والأدب ـ المجلد الثاني ـ ص 244 ـ 245) مايلي:

  1. لما خلق الله العقل قال له: أقبل، فأقبل. ثم قال له: أدبر، فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ماخلقت خلقاً أحب إلي منك ولا وضعتك إلا في أحب الناس إلي. ولما خلق الحمق قال له: أقبل، فأدبر. ثم قال له: أدبر، فأقبل. فقال: وعزتي وجلالي ماخلقت خلقاً أبغض إلي منك، ولا وضعتك إلا في أبغض الناس إلي.
  2. لما أهبط الله آدم إلى الأرض، أتاه جبريل فقال له: ياآدم، إن الله قد حباك بثلاث خصال لتختار منها واحدة وتتخلى عن اثنتين. قال: وماهن؟ قال: الحياء والدين والعقل. قال آدم: اللهم إني اخترت العقل. فقال جبريل للحياء والدين: ارتفعا. قالا: لن نرتفع. قال جبريل: أعصيتما؟ قالا: لا، ولكنا أمرنا أن لانفارق العقل حيث كان.
  3. وكّـل الله الحرمان بالعقل، ووكل الرزق بالجهل، ليعتبر العاقل فيعلم أن ليس له في الرزق حيلة.

ففي الحديث الأول، الذي يزعمون أنه قدسي، أمور لايقبلها عقل ولايسيغها لب ولا فؤاد. أولها، هذا التشخيص الممجوج للعقل. ثانيها، هذا المشهد التصويري السخيف الذي يذكرنا بعروض الأزياء في يومنا هذا. ثالثها، قول الله تعالى للعقل: ماوضعتك إلا في أحب الناس إلي، وقوله للحمق: ماوضعتك إلا في أبغض الناس إلي. فالعقل الفطري التكويني أوجده الله تعالى في جميع الناس حين خلق سبحانه البشر من تراب ثم سواهم ثم عدلهم ثم نفخ فيهم من روحه فكان العقل الفطري. أما أن نزعم أن الله تعالى وضع العقل في خلق له عشوائياً لا على التعيين، ثم أدخلهم الجنة لأنهم عرفوه بالعقل، ووضع الحمق في آخرين ثم أدخلهم النار لأنهم لم يتفكروا بآياته، فهذا يجرح العدل الإلهي والمساواة بين الناس بهبة العقل، وتبدو معه مسألة الخلق لعبة الإنسان فيها كعرائس الخيطان لا دور له لا قرار ولا اختيار ـ سبحانه تعالى عما يصفون ـ وهذا يتعارض عمودياً مع قوله تعالى {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} الكهف 29، ومع صريح قوله تعالى {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين} الأنبياء 16، 17.

وفي الحديث الثاني، أيضاً، أمور لاتقل عجباً من الحديث الأول. أولها، أنه يتعارض مع قصة الخلق كما وردت في آيات التنزيل الحكيم، ومع قصة الخلق التي رواها المفسرون أخذاً من كتب الأثر المليئة بالإسرائيليات، ولقد أشرنا إلى القصة القرآنية في معرض نقد الحديث الأول فلا نعيد. ثانيها، بزعمه أن الله أهبط آدم إلى الأرض، فإن سأله سائل: فأين كان آدم قبلها؟ قال “في جنة الخلد، وهذا ما أقره القرآن الكريم¨. ناسياً أن جنة الخلد لم تكن موجودة في زمن الخلق الأول، ولا في زمن نزول الآيات، ولا الآن، لأن الجنة والنار مرتبطتان وجوداً بيوم القيامة، بدليل قوله تعالى من أول سورة التكوير في وصف ماسيحصل من تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وحشر الوحوش ونشر الصحف إلى أن يقول {وإذا الجحيم سعرت * وإذا الجنة أزلفت} 13 ـ 14. ثالثها، زعمه أن آدم حين أهبطه الله إلى الأرض ـ بحسب تصوره ـ لم يكن ربه قد حباه بالعقل. ناسياً أن آدم قبل الهبوط إلى الأرض مرّ بتجربة قاسية فشل فيها، وتعرض لامتحان صعب رسب فيه، فعصى أمر ربه وغوى،والسؤال الآن: هل كان آدم خلال ذلك كله بلا عقل؟ رابعها، إن كان آدم بلا عقل قبل أن يأتيه جبريل. فكيف صح عنده أن العقل هو أفضل الخصال الثلاث المعروضة عليه؟

أما الحديث الثالث فهو إما من تأليف جبري جاهل، أو من وضع مغرض خبيث عالم، ولايقل أحدهما عن الآخر إضراراً بالفكر وإضلالاً للخلق. فأول الحديث افتراء على الله، ووسطه حضّ على الأخذ بالجهل، وآخره دعوة وقحة إلى ترك العمل. وهو بجملته كافٍ ـ إن تم تطبيقه عملياً ـ لإهلاك وتدمير ألف أمة وأمة.

يزعم قائل الحديث أن الله سبحانه قرن الحرمان من الرزق بالعقل وجعل العقلاء محرومين، وقرن سعة الرزق بالجهل وجعل الجهلة مرزوقين، فأوكل هذا بهذا وذاك بذاك، ثم بين أن القصد الإلهي من ذلك هو تعليم العقلاء، أن لاحيلة لهم في الرزق لأن الرزق مقسوم كما هو شائع عند الجبريين من العوام في قولهم: “لو تجري جري الوحوش غير رزقك ماتحوش¨.

والسؤال الآن: من أين استقى قائل الحديث هذه المعلومة الخطيرة في أهميتها؟ لقد نظرنا في التنزيل الحكيم كتاباً وقرآناً، وتأملنا في آياته المحكمات والمتشابهات، فلم نجد ظلاً لهذا الافتراء. بل على العكس تماماً، وجدناه سبحانه في عشرات المواضع يرفع من شأن العمل ويأمر به، ووجدناه يحط من شأن الجهل ويذم الذين لايعملون.

يقول تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} الطور 21، والكسب هو مردود العمل. ويقول تعالى {لايكلف الله نفساً إلا وسعها لها ماكسبت وعليها ما اكتسبت} البقرة 286، أي لها أجر ماعملت من عمل صالح مفيد منتج، وعليها عقاب ماعملت من عمل طالح ضار هدام. ويقول تعالى {ربنا وآتنا ماوعدتنا على رسلك ولاتخزنا يوم القيامة إنك لاتخلف الميعاد * فاستجاب لهم ربهم إني لاأضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} آل عمران 194، 195.

الأهم من ذلك كله أن الله تعالى يربط الدخول إلى الجنة بالعمل فيقول {الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} النحل 32. ويقول {ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} غافر 40. وقوله تعالى {وتلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} الأعراف. هذه الآيات تدحض مااعتاد السادة العلماء من ترديده على مسامعنا في دروسهم وندواتهم وبرامجهم ليل نهار على شاشات الفضائيات من أن الإنسان لايدخل الجنة إلا برحمة الله، وكأن مهمة النبي (ص) عندهم أن يُكَذّبَ الله ورسوله.

أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: لن يُدخِل أحداً عمله الجنة. قالوا ولاأنت يارسول الله؟ قال: لا، ولا نا. إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ولايتمنين أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب¨ أهـ (البخاري ـ باب المرضى حديث رقم 5241 العالمية).

وأخرج الترمذي في سننه حديثاً سبقنا إلى تحليله الزميل سامر اسلامبولي في كتابه “علم الله وحرية الإنسان¨ ص 96، 97:

عن عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله (ص) وفي يديه كتابان فقال: أتدرون ماهذان الكتابان؟ فقلنا: لا يارسول الله إلا أن تخبرنا، فقال للذي بيده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، أجملهم عن آخرهم فلا يزاد فيهم ولاينقص منهم أبداً. ثم قال للذي في شماله: وهذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولاينقص منهم أبداً. فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان أمراً قد فُرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل. ثم قال رسول الله (ص) بيديه فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد (فريق في الجنة وفريق في السعير). أهـ.

هذان نموذجان على سبيل المثال لا الحصر، اخترناهما من بين عشرات الأحاديث في كتب الصحاح والمسانيد والموطآت والسنن، التي تدور حول محور إلغاء دور العمل في تحديد مصير الإنسان، تارة تحت عنوان “رحمة الله¨ وتارة تحت عنوان “جفت الأقلام وطويت الصحف¨. أما الحديث الأول عند البخاري فالمشكلة فيه نقلية، بمعنى أنه يتعارض عمودياً مع آيات التنزيل الحكيم التي ذكرنا بعضها آنفاً فلا نعيد، ويتعارض عمودياً أيضاً مع كثير من الأحاديث النبوية الأخرى التي تأمر بالعمل وتحض عليه. وأما الحديث الثاني عند الترمذي فالمشكلة فيه عقلية، إذ هو يحكي أولاً عن كتابين من رب العالمين فيهما أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، وأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، لايزاد فيهم ولاينقص منهم.

فإن فرضنا أن قياس الكتاب 25625 سم، وأن ورقة في مثل رقة ورق السجائر، وأن كل ورقة تتسع على الوجهين لـ 400 اسم. وتركنا أسماء من عاشوا قبل القرن السابع الميلادي وأسماء من سيأتون بعد القرن العشرين، مكتفين بما عاشوا خلال 14 قرناً ميلادياً، رغم أن المعنى العام للحديث يشير إلى أن المقصود هو أهل الجنة والنار من أول الخلق إلى أن تقوم الساعة. وفرضنا أن متوسط عمر الجيل هو 50 عاماً مع أنه أقل من ذلك إن نحن توخينا الدقة، ثم فرضنا أخيراً أن عدد سكان الأرض في العصر النبوي لايزيد عن 200 مليون وأن عددهم في نهاية القرن العشرين لايزيد عن خمسة مليارات إن نحن اعتمدنا أدنى الإحصائيات الموثقة. ينتج لدينا المعادلات التالية:

1400 سنة 50 ¯ 80 جيلاً.

5 مليارات ـ 200 مليون ¯ 8،4 مليار مقدار زيادة عدد السكان خلال 14 قرناً

8،4 مليار 28 ¯ 170 مليون مقدار الزيادة في كل جيل.

وهذا يعني أن عدد سكان الأرض في نهاية الجيل الأول هو 370 مليون، خلفهم أبناء الجيل الثاني مع الزيادة ليصبحوا 540 مليون، ثم ذهب هؤلاء ليحل محلهم جيل ثالث عدده بعد الزيادة 710 مليون. وهكذا إلى آخر الأجيال الـ 28. وبعملية جمع بسيطة ينتج أن عدد من تعاقبوا على الأرض من الخلق منذ العصر النبوي وحتى نهاية القرن العشرين هو 86،69 مليار إنسان تحتاج أسماؤهم إلى 000،465،17 ورقة. فإذا علمنا أن كل 1000 ورقة من ورق السجائر تبلغ سماكتها 5 سم، نتج لدينا أن الكتابين اللذين خرج بهما رسول الله (ص) على أصحابه ـ كما يزعم الحديث ـ تبلغ سماكة الواحد منهما أكثر من 42 كم. وإذا علمنا أن وزن المتر المربع من ورق السجائر هو 20 غراماً، نتج لدينا أن وزن الكتاب الواحد لايقل عن 13 طناً، وهذا ماعنيناه بقولنا إن المشكلة في هذا الحديث مشكلة عقلية، فهناك استحالة عقلية تطبيقية تمنع صحة الحديث(3).

ثمة نوع آخر من الأحاديث المنسوبة إلى النبي (ص)، يرسخ الأساطير والخرافات، ويروي غرائب الأخبار وعجائب الأحداث مايذهل عقول العوام وألباب أنصاف المثقفين. ولقد أشرنا في موضع آخر إلى مثال منها هو حديث المعراج. وهانحن نقف أمام مثال ثانٍ هو حديث الجساسة. (انظر صحيح مسلم ـ كتاب الفتن وأشراط الساعة ـ انظر نص الحديث في نهاية هذا الفصل).

ونقف قبل التعليق على هذا الحديث لتعريف بعض ما ورد فيه. أما تميم، فهو تميم بن أوس بن حارثة الداري، روى عنه النبي (ص) قصة الجساسة والدجال وعدّ ذلك من مناقبه. كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين، وأما الجساسة فهي دابة في جزائر البحر تتجسس الأخبار وتأتي بها إلى الدجال وهي إحدى عشر علامات تسبق قيام الساعة، وهي دابة عظيمة تخرج من صدع في الصفا، وهي المذكورة في قوله تعالى {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم} النمل 82. وأما بيسان ـ بفتح ثم سكون وسين مهملة ونون ـ فهي مدينة بالأردن بالغور الشامي بين حوران وفلسطين، وهي موضع في جهة خيبر من المدينة المنورة، وهي موضع معروف بأرض اليمامة، وهي قرية من قرى الموصل، وهي أخيراً قرية من قرى مرو الشاهجان (انظر معجم البلدان لياقوت ج1 ص 527، 528). وأما زغر ـ بضم ثم فتح وراء معجمة على وزن زفر ـ فهي قرية بمشارف الشام. وأما عين زغر فهي نبع في طرف البحيرة المنتنة من ناحية الحجاز بينها وبين البيت المقدس ثلاثة أيام (انظر معجم البلدان لياقوت ج2 ص 142، 143). وأما الدجال، فهو المسيح المزيف، الذي يخرج ـ بحسب زعم رواة أخباره ـ قبل نزول عيسى بن مريم على المئذنة البيضاء الشرقية للجامع الأموي الكبير بدمشق، ليملأ الدنيا عدلاً بعد أن امتلأت جوراً.

والعجيب أولاً، أن أصحاب كتب الحديث بموطآتها وصحاحها ومسانيدها وسننها، وأصحاب كتب السيرة، وأصحاب كتب التراجم والأخبار، قد اختلفوا حول كل صغيرة وكبيرة في كتبهم، بدءاً من عدد السنين التي عاشها النبي (ص). مروراً بلون رايته في الحرب. وباسم أخت مارية أم المؤمنين، وباسم الصحابي الذي أهداها له النبي (ص)، وانتهاء بدعاء التشهد في قعود الصلاة الأخير الذي أحصوا له تسع صيغ. إلا أنهم جميعاً أفردوا عشرات الصفحات في كتبهم لرواية قصة الجساسة والدجال ويأجوج ومأجوج التي غدت قاسماً مشتركاً بينهم تزيد تفاصيلها عند أحدهم وتنقص عند آخر.

والعجيب ثانياً، هذه الأوصاف التي وصفوا بها الدجال في أحاديث نسبوها للنبي (ص). فهو في صحيح مسلم / كتاب الفتن:

  1. أعور العين اليمنى (الحديث رقم 100).
  2. مكتوب بين عينيه كافر (الحديث 102).
  3. أعور العين اليسرى (الحديث 104).
  4. جُفال الشعر أي كثيره (الحديث 104).
  5. معه نهران يجريان نهر ماء، ونهر نار، فالماء نار والنار ماء (الحديث 105).
  6. ممسوح العين عليها ظفرة غليظة (الحديث 105)
  7. مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب (الحديث 105)
  8. يجيء ومعه مثل الجنة والنار (الحديث 109).
  9. شاب قطط أي شديد جعودة الشعر (الحديث 110).
  10. يخرج من أرض صخرية بين الشام والعراق (الحديث 110).
  11. سريع في الأرض كالغيث إذا استدبرته الريح (الحديث 110).
  12. يأمر السماء فتمطر ويأمر الأرض فتنبت (الحديث 110).
  13. يدعو رجلاً فيقطعه بالسيف نصفين ثم يدعوه فيأتي ضاحكاً (الحديث 110).
  14. يمر بالخرائب فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل (الحديث 110).
  15. محرّم عليه أن يدخل المدينة المنورة (الحديث 112).
  16. عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل أحد النبي (ص) عن الدجال أكثر مما سألت، فقال لي النبي (ص): وماينصبك منه؟ إنه لايضرك. قلت: يارسول الله إنهم يقولون إن معه الطعام والأنهار. قال: هو أهون على الله من ذلك (الحديث 114).

والعجب من هذه الأوصاف أنه مرة أعور بالعين اليمنى ومرة أعور بالعين اليسرى، ولو صح الحديثان لكان الدجال أعمى، وأنه مكتوب بين عينيه كافر يقرأها كل مؤمن يحسن القراءة والكتابة، والعجب هو أن الأميين يقرؤونها أيضاً ولاندري كيف؟ والأعجب أنه ينَزّل المطر وينبت النبات ويميت ثم يحيي، وهذه كلها صفات لانعرف أحداً اتصف بها غير الله تعالى. فإن صحت هذه الأحاديث فنحن أمام إله معبود بكل معنى الكلمة وليس أمام دجال. لكنها حسب حديث المغيرة مجرد أقاويل شاعت بين الناس لانصيب لها من الصحة، بدليل عبارة (إنهم يقولون) التي لم ينكرها النبي (ص) في الخبر، بل جاء جوابه عليها حاسماً بقوله: هو أهون على الله من ذلك.

والطريف أن الإمام مسلم يحدثنا في صحيحه عن رجل اسمه ابن صياد تارة وابن صائد تارة أخرى، اعتبر الناس في العصر النبوي ـ لسبب لايعلمه إلا الله ـ أنه الدجال. فأفرد له مسلم خمسة عشر حديثاً في كتاب الفتن وأشراط الساعة (من 85 إلى 99)، اخترنا منها الحديث رقم 91:

“عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا حجاجاً أو عماراً ومعنا ابن صائد، فنزلنا منزلاً، فتفرق الناس وبقيت أنا وهو، فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه، وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي، فقلت: إن الحر شديد، ولو أنك وضعته تحت تلك الشجرة ففعل، فرفعت لنا غنم فجاء بعسٍّ فقال: إشرب أبا سعيد. قلت: إن الحر شديد واللبن حار ـ ومابي إلا أني أكره أن أشرب من يده ـ فقال: ياأبا سعيد، لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة ثم أختنق مما يقول لي الناس، من خفي عليه حديث رسول الله (ص) ماخفي معشر الأنصار، ألستُ أعلم الناس بحديث رسول الله (ص)؟ أليس قد قال رسول الله (ص) “هو كافر¨، وأنا مسلم؟ أليس قد قال “هو عقيم لايولد له¨ وقد تركت ولدي بالمدينة؟ أوليس قد قال “لايدخل المدينة ولامكة¨ وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة؟ قال أبو سعيد الخدري: حتى كدت أن أعذره، ثم قال لي: أما والله إني لأعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن. فقلت له: تباً لك سائر اليوم. أهـ.¨.

والعجيب ثالثاً أن السادة الفقهاء الأفاضل لم يكتفوا بأن اعتبروا الخبر حديثاً نبوياً صحيحاً بل جعلوه من مناقب تميم الداري، واستنبطوا منه حكماً فقهياً يجيز للأفضل أن يروي عن المفضول، وللأنبياء أن يرووا عن أصحابهم، وللأصحاب أن يرووا عن تابعيهم، وللتابعين أن يرووا عن عوام الناس.

لقد كان من السهل في القرون الهجرية الأولى أن يشيع هذا الخبر، وأن لاتجد بين سامعيه من يستنكره، باعتبار أن الأرضية المعرفية السائدة يومها مازالت تؤمن بأن الأرض مسطحة، وأن نهاية اليابسة في جبل قاف حيث يقوم درج طويل يصعد عليه الأموات إلى الملكوت الأعلى، وأن نهاية البحر تمتد خلف بحر الظلمات، وأن مضيق جبل طارق هو آخر المعمورة. كان غموض المجهول الذي يلف معظم أنحاء الكرة الأرضية تربة خصبة لأصحاب الخيال الواسع ليصوغوا مايحلوا لهم من خرافات عجيبة، وكان تميم الداري أول هؤلاء القصاصين الذين حملوا معهم أخبار خرافاتهم النصرانية حين دخلوا في الإسلام. لكن هذه الأرضية المعرفية تغيرت فيما بعد، حتى أصبح كل شبر من الكرة الأرضية في برها وبحرها له اسم على الخريطة. وبدأ المستكشفون والرحالة يجزمون الواحد بعد الآخر بعدم وجود جزيرة من أي نوع كان لافي بحر الشام الذي نعرفه اليوم باسم الأبيض المتوسط، ولا في بحر اليمن الذي نعرفه اليوم باسم المحيط الهندي، تسكنها الجساسة ويقبع فيها الدجال راسغاً بأغلاله ينتظر أن يؤذن له بالخروج. ولعل أول من جزم بذلك ـ فيما قرأنا ـ هو ياقوت الحموي (ت 626 هـ)، الذي بعد أن يروي خبر الجساسة والدجال ويأجوج ومأجوج ونزول المسيح في دمشق يقول: ولهذا الخبر مع استحالته في العقل نظائر جمة في كتب الناس، والله أعلم (انظر معجم البلدان ج1 ص 352). والغريب أن إحدى الفضائيات أفردت في شهر رمضان منذ سنتين فقط ثلاثين حلقة حول الساعة وأشراطها تحت عنوان الوعد الحق كله مليء بهذه الخرافات والأساطير حتى أنه عندما قال الشيخ المتحدث: قد يقولون أن الصور الفضائية الآن اكتشفت كل نقطة على سطح المعمورة براً وبحراً وأين هذه جزيرة الجساسة، وعلق قائلاً: هذا لايهمنا فنحن دليلنا الكتاب والسنة!!. ولا أدري عن أي كتاب وأي سنة يتكلم؟ هذه مصادرة كبيرة لعقل السامع.

مرة ثالثة نتساءل: أي عقل هذا الذي يريدنا السادة العلماء الأفاضل أن نحافظ عليه؟ إن المتأمل لايحتاج إلى عناء كبير ليكتشف أن الدعوة للحفاظ على العقل دعوة نظرية صاغوها للتصدير فقط. أما على الصعيد التطبيقي العملي فلهم دعوة أخرى. يقول أحدهم: “أما في الإسلام فلا يعد العقل مصدراً من مصادر الفقه الإسلامي عند فقهاء الشريعة لأنه لايحقق العدالة والمثالية في القانون ذاته، بل ولا الموضوعية الحيادية المجردة أحياناً، لأن العقول البشرية تتفاوت في إدراكها للأمور..¨ أهـ. (أنظر كتاب “تجديد الفقه الإسلامي¨ للشيخ الدكتور وهبة الزحيلي ص 164).

والشيخ بجرة قلم واحدة في بضع سطور يشطب عشرات آيات التنزيل الحكيم التي تأمر بالتفكر والتدبر والنظر، ويدعو كغيره من أصحاب المحابر(4) إلى ترك العقل مطلقاً وهذا محال. إذ بالعقل وحده تدرك الأشياء، ويتم تمييز الخطأ من الصواب، ويمكن التفريق بين الحق والباطل. وبالعقل وحده يصح التكليف وتقوم المساءلة، فالأطفال والمجانين هم وحدهم الذين لايسألون عما يعملون. والشيخ يدعو إلى الأخذ بالنقل مطلقاً وهذا أيضاً محال. لأن في المنقولات من المنكرات والغرائب مالا عين رأت ولا أذن سمعت، ولقد أوردنا آنفاً بعضها فلا نطيل.

إننا نقرأ قوله تعالى: {وماكان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} الأحزاب 36. فهذه الآية في سياقها تتحدث عن حدث بعينه مع الرسول وزينب، فحسب مفهوم السادة العلماء الأفاضل على أساس أن العلماء ورثة الأنبياء بأن يزوجوا من شاؤوا بقرار منهم مستعملين هذه الآية. ومع ذلك فإن زينب أطاعت الأمر كرهاً، وهذا يمكن أن يحدث في حالة خاصة مع رجل وابنته في أي بلد ولكنه ليس تشريعاً وإنما هو قصص، وهو أمر غير وارد أصلاً في كل الشرائع. ونفهم أن العقل كأداة اختيار لامحل له في أحكام الله التي كلف رسوله بإبلاغها للناس. لكننا نفهم أيضاً أن هذه الأحكام بالأصل لاتخرج مطلقاً عن مقتضيات العقل، فالآيات بقوانينها ونواميسها وأوامرها ونواهيها إنما نزلت لقوم يعقلون ويتفكرون. هناك تفاوت في العقول بلا ريب ـ كما يقول الشيخ في عبارته ـ لكن هذا التفاوت لايبرر تعطيلها وإلغاء دورها في التشريع إنشاءً وتطبيقاً.

بعد كل هذا، هل يحق للمشايخ على شاشات الفضائيات بإطلاق أطروحة الإسلام دين العقل تشدقاً ونفاقاً؟ وهل يستحق بعد هذه السخرية والاستهزاء بالعقل الإنساني والإرادة الإلهية أن يطلق لقب إمام على إنسان كالبخاري ومسلم أو غيره، وأن الطامة الكبرى أن يكون احترام العقل عند الزعماء العرب كاحترام العقل عند البخاري ومسلم وغيرهم حيث ساهم هؤلاء جميعاً في استقالة العقل العربي منذ قرون. وإن أحاديث الغيبيات في كل كتب الحديث ـ وماأكثرها ـ تحتقر العقل الإنساني، والإرادة الإلهية لاتنسجم مع العقل الإنساني، وتخريجة هذا القول {إن الله على كل شيء قدير} إنما هي لإسكات الآخر. وقد شرحت أن هذه المقولة هي من باب دخول الشيطان إلى عقول الناس لإسكاتهم وتخديرهم. فالعقل الإنساني لايبحث عن قدرة الله على فعل هذا أو ذاك، بل يبحث عن كيف تمت مشيئة الله في فعل هذا أو ذاك. أي أننا نسأل كيف تمت مشيئة الله في خلق الشمس {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق}، ولانسأل هل الله قادر أن يجعل الشمس مكعبة بدلاً من كرة، لذا فإن الإرادة الإلهية تنسجم مع العقل الإنساني. ومعظم أحاديث الغيبيات في كتب الحديث لاتنسجم مع هذا، لذا فهي أحق بأن تهمل ويرمى بها جانباً وخاصة مايسمى بالأحاديث القدسية المليئة بالبهتان والكذب. ومعظم محتويات كتب الحديث أصلاً لاتستحق أن يوحي بها الله إلى أحد، فالوحي أجَلّ من ذلك بكثير، مما يعني أن هناك وحياً واحداً وهو التنزيل الحكيم، ولا يوجد وَحيَان.

ثمة في منقولات التراث ـ كما سبق أن قلنا ـ مشكلة نقلية هي الأهون يدخل فيها الوضع والتصحيف، ومشكلة عقلية يدخل فيها التحريف والتوظيف. هذه المشكلة تزداد خطورة فتتحول إلى سكين تذبح الفكر والعقل وتجبرهم على الاستقالة في ضوء قولهم: الوحي وحيان، وحي قرآني ووحي حديثي، وفي ضوء تفسيرهم لقوله تعالى {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} النجم 3، 4.

لابد لكي نستجلي أبعاد المشكلة العقلية التي أوجدتها قراءة بعض المفسرين لآيتي النجم 3، 4، ثم اتكأ عليها السادة العلماء بعد ذلك لتكريس وصايتهم على عقول الخلق وسلوكهم، من أن نقف بالتعريف عند عدد من المفردات هي اللفظ والكلام والقول والنطق.

يقول عبد الله جمال الدين بن هشام الأنصاري (708ـ 761 هـ) في كتابه “قطر الندى وبل الصدى¨:

  • الكلمة قول مفرد أو مركب…
  • والقول لفظ دال على معنى، وليس كل لفظ قولاً.
  • واللفظ إخراج أصوات تشتمل على حروف سواء دلت على معنى أم لم تدل.

فالكلمة لفظ وضع لمعنى مفرد، وقد تطلق على الجمل المفيدة كقوله تعالى {كلا إنها كلمة هو قائلها..}

والقول إن كان لفظة واحدة دالة على معنى فهو مفرد كقولك: زيدٌ، خادم، فرس. وإن كان أكثر من لفظة فهو مركب كقولك: غلام زيد، وكقولك: كذلك يضرب الله الأمثال للناس أهـ.

أما النطق فهو البيان عند الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {خلق الإنسان * علمه البيان} الرحمن 3، 4. ومن هنا جاء تعريف أرسطو للإنسان بأنه المخلوق الحي الناطق المبين، ولم يقل إنه المخلوق الصائت أو اللافظ. لأنه إن قال ذلك دخل في التعريف جميع الحيوانات ولم يعد تعريفه مانعاً من دخول الغير فيه، فزقزقة العصافير وزئير السباع ورغاء الأنعام كلها أصوات ملفوظة بلا معانٍ. ومن هنا، نفهم أن الله تعالى حين علّم آدم الأسماء كلها إنما وهبه ونفخ فيه مايمكنه من معرفة (تمييز ـ تقليم) معاني الأصوات ومدلولاتها، أي المطابقة بين الصوت والمدلول بعلاقة طبيعية بداية قبل التجريد. ونفهم أن {ألم} البقرة 1 حروف ومقاطع صوتية قابلة لأن تلفظ، لكنها ليست نطقاً وليست قولاً، لأننا عندما نسمعها لاتتحول في أذهاننا إلى صورة لها دلالة ومعنى. ونفهم أخيراً معنى المنطق في قوله تعالى {وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء..} النمل 16. ونلاحظ في الآية أن سليمان (ع) تعلم منطق الطير، ولو كان النطق مجرد لفظ بالأصوات لقال: (سمعنا منطق الطير). ونلاحظ أنها تشير إلى عملية تعليمية عقلية تؤكد ماذهبنا إليه من أن المنطق هو اللفظ المسموع المعقول الذي يحمل معنى. فإن استنكر معترض هذا التعريف زاعماً أن الحيوانات عموماً والطيور خصوصاً تصدر أصواتاً لايفهمها الإنسان لأنها غير ذات معنى. قلنا له: إن القرآن نفسه يؤكد تعريفنا وينقض زعمه. وإلا فكيف ضحك سليمان من قول النملة (النمل 19)، وكيف تحاور مع الهدهد وأصدر إليه الأوامر (النمل 27، 28)؟ إن هذه الآيات تدل بوضوح على أن للطيور والحشرات والحيوانات ألسناً يفهم بها بعضهم بعضاً، لاينفي وجودها عدم فهم الإنسان العادي لها. وهذا يذكرنا بما يقوم به العلماء اليوم من اختراع أجهزة استشعار تساعدهم على فهم أصوات الدلافين في البحر، أي فهم منطقها.

ومن هنا نفهم أن النطق هو البيان بطريقة إبلاغ صوتية مباشرة برباط منطقي عقلاني بين الألفاظ، أي بوجود مسند ومسند إليه، وهو مانقول عنه الجانب النحوي (SYNTAX) وأن القول هو المعنى المراد من هذا البيان، وكلاهما لايصدر إلا عن مخلوق قادر على التفكير والتمييز، بدليل أنه تعالى في آية النمل 19 أشار إلى النمل بميم الجمع للعاقل في كلمة (مساكنكم)، وأشار في آية الإسراء 44 إلى المخلوقات التي تسبح في السموات والأرض بالاسم الموصول ( من) المخصص للعاقل، وذلك في قوله تعالى {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات..} النور 41.

إن التأمل في الحروف المقطعة في أوائل السور، على ضوء ماسلف، وورودها في ألسن أهل الأرض قاطبة كمقاطع صوتية، يجعلنا نفهم حديثه (ص): أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصاراً. فهو يتحدث به عن المفردات (الكلمات) والألفاظ لاعن النطق والقول، ويشير به ـ فيما نرى ـ إلى تلك المقاطع الصوتية في أوائل السور والتي تنطبق مع هذا القول ومع (أوتيت القرآن ومثله معه) وقوله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن والعظيم} الحجر 87، ولا علاقة لكتب الحديث والكلام النبوي بذلك مطلقاً، وإذا تصفحنا كل كتب الحديث ودرسناها من حيث المستوى ـ وقد أوردنا بعضاً من هذه الأحاديث ـ وخاصة الغيبيات وعلامات الساعة الصغرى والكبرى فلا نرى فيها أي جوامع كلم، وهي من حيث المستوى المنطقي والبلاغي والجمالي دون الوسط وهي أقرب إلى الحكايات والأساطير وقصص الأطفال، فقصة أليس في بلاد العجائب تنسجم أكثر مع قصة المعراج، فاللفظ آلته اللسان والشفاه والأوتار الصوتية وغايته الإسماع، وهذا يتساوى فيه البشر مع كل الحيوانات الأخرى، النابحة والراغية والعاوية. أما النطق فآلته الألباب والمعاني والربط بين الكلمات برباط منطقي نسميه علم النحو، والقول المعني المراد نقله من المتكلم للسامع وغايته الإفهام. ومن هنا جاء قوله تعالى {فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون} الذاريات 23. إذ لو كان المنطق هو اللفظ لما اكتمل التشبيه في الآية.

وإذا كنا لانعجب أن يخلط السادة العلماء الأفاضل بين اللفظ والكلام والقول والنطق في تفسير آية النجم المذكورة آنفاً، فداء القول بالترادف يقود صاحبه إلى أدهى من هذا، إلا أننا نعجب كثيراً من عدم انتباههم إلى أن الله سبحانه في الآية يقرن بين النطق والعقل وينفي أن يكون نطق رسوله بالآيات صادراً عن الهوى، والهوى هو نقيض العقل وآفته. إننا نفهم أن اللفظ خادم للنطق، وأن النطق خادم للقول. فكلمات الله قوانين نجدها في كتاب النبوة ولانجدها أبداً في كتاب الرسالة، وأقواله نجدها في كتاب الرسالة كمعاني وكتاب النبوة كقوانين (قوله الحق)، ومهمة النطق بيان هذه الأقوال وتلك الكلمات، تارة باللفظ المسموع، وتارة باللفظ المكتوب المفرد، وتارة بالإشارة. ومثال هذه الأخيرة الإيماء بالرأس قبولاً ورفضاً، وبسط الكفين في الدعاء والتعجب وإظهار العجز، وقديماً قال الشاعر فأحسن:

العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة

ثم علينا أن نربط بين القََسَم وهو {والنجم إذا هوى} وجواب القسم {ماضل صاحبكم وماغوى * وماينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}.

ماهو هذا النجم الذي إذا هوى؟ هل تبرع أحد وقال لنا ماهو هذا النجم الذي إذا هوى يبين لنا أن هناك وحياً، وماعلاقة هذا النجم بأقوال الرسول (ص) وأفعاله؟ لا يمكن أن نرى النجم إذا هوى إلا في التنزيل الحكيم. فالتنزيل جاء منجّماً. فقوله تعالى {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر} نرى هنا التنجيم أنه الفواصل بين الآيات. فإذا هوى نجم تغير المعنى تماماً. (وقد شرحت مفهوم الطفرات الزمنية والمعرفية في بحث القصص وبني إسرائيل). ونرى هذا في قوله تعالى {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}، إن وجود التنجيم بين هاتين الآيتين يرينا أن الآية الأولى حلقة من التطور، ثم قفزة إلى حلقة متأخرة ولا تليها مباشرة، وهي وجود البويضة في رحم المرأة. فلو هوى هذا النجم بين الآيتين لأصبح الخبر كاذباً. وهذه الخاصية لاتوجد إلا في التنزيل الحكيم لأنه وحي، ولا علاقة لأي قول أو فعل وتقرير جاء من النبي (ص) بهذا المعنى. ولا علاقة لهذه الآية التي يستشهد بها السادة العلماء إلا بالتنزيل الحكيم.

نأتي الآن إلى تعريف (الحديث النبوي) السنة عند السادة الفقهاء على أنها وحي ثانٍ بقولهم إن الله يوحي الفكرة إلى محمد (ص) وهو يصوغها بلغته وبطريقته! هنا نطرح السؤال التالي: إن الطريقة الوحيدة التي شاء الله أن يخاطب بها الناس هي الطريقة اللغوية {حم، عسق، كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم} الشورى 1ـ3، حتى المنامات نراها ضمن آلية لغوية ولو كانت رمزية. فالسؤال: بأي لسان أوحى الله الفكرة إلى النبي (ص)؟ هل أوحاها بالإنكليزية، والنبي (ص) نقلها وصاغها إلى العربية؟ أو هل أوحى له الفكرة باللغة العامية، والنبي (ص) قالها بالفصحى؟ لأن الفكرة بحد ذاتها لا يمكن أن تكون بدون قالب لغوي، وهذا نراه في قوله تعالى {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه..} القصص.

وهكذا نرى تهافت هذا القول. ومن يتبنى هذا القول لايعلم أبجدية الفكر الإنساني ولايعلم لماذا أنزل الله الكتاب عربياً وبلسان عربي مبين. ولو كان سبحانه أوحى الفكرة ذات معنى لتصبح قولاً، فعلينا أن نطلق على كلام النبي (ص): قال الله عوضاً عن: قال رسول الله.

في ضوء هذا كله، نصل إلى الجزم بأن التنزيل الحكيم من قول الله تعالى وحياً، وأن دور الرسول هو النطق به بياناً وليس قولاً، وبهذا نستطيع أن نقول عندما نتلو آيات التنزيل الحكيم: قال الله، نطق رسول الله: {ألم * ذلك الكتاب لاريب فيه}. مثال ذلك سورة الإخلاص. فالله تعالى يأمر نبيه الكريم (ص) {قل هو الله أحد} فينقل النبي (ص) هذا القول ناطقاً به دون زيادة ولا نقص ودون تقديم ولا تأخير، وإن أضاف من عنده أن هذه السورة تعادل ثلث القرآن فهي من عنده ولا علاقة للوحي بها. ولكي نفهم دور الرسول في بيان ماقاله تعالى في تنزيله الحكيم، نقف عند سورة النحل: {وماأرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لاتعلمون * بالبينات والزبر وأرسلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم ولعلهم يتفكرون} النحل 43، 44. فأهل الذكر في الآية 43، هم أهل الرسالات السماوية التي أنزلها تعالى وحياً على رسل قبل محمد (ص). والآية تحكي عن وقائع تاريخية من غيب الماضي حين أرسل تعالى رسالات إلى الخلق على يد رجال يوحى إليهم، ثم تأمر من لايعرف شيئاً عن هذه الرسالات سواء عن جهل أم عن تشكيك بسؤال أهل هذه الرسالات عن صدق هذه المعلومة التاريخية. ومن هنا فنحن نعجب حين يطلق السادة العلماء الأفاضل على أنفسهم لقب أهل الذكر، ويطلبون من عباد الله أن يقصدوهم بالسؤال عن كل شاردة وواردة، امتثالاً لآية لا علاقة لهم بها لا من قريب ولا من بعيد. أما الذكر في الآية 44، فهو الصيغة اللغوية للتنزيل الحكيم كما نطقها رسول الله (ص) بعد أن أنزلت إليه وحياً، وهو الذي أمر الله تعالى نبيه ورسوله أن يبينه للناس. والبيان له معنيان: الأول التوضيح والشرح إما شفهياً أو عملياً، وقد عرفنا هذا في الشعائر وخاصة الصلاة والزكاة، لا من أقوال الفقهاء بل من قوله تعالى {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} النور 56، فقد أمرنا سبحانه أن نتعلم الصلاة والزكاة من الرسول (ص) لأنه أوكل له هذه المهمة، وهي من السنة الرسولية لذا قال: {وأطيعوا الرسول} فلا داعي لإسقاط هذا على تعريف السنة كما عرفه الشافعي حيث يجب علينا نسفه من جذوره، ولنا قول في الصلاة والزكاة فيما بعد. والثاني الإظهار والكشف عكس الكتمان كما في قوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد مابيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} البقرة 159. وعكس الإخفاء كما في قوله تعالى {ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير..} المائدة 15.

فإذا عدنا إلى الآية 43 من سورة النحل في ضوء الآية 15 من سورة المائدة تأكد لدينا ماسبق أن قلناه من أن أهل الذكر هم بنو إسرائيل لأنهم أدرى بما كتموه وما أخفوه وماحرفوه من جانب، ولأن الذكر المنزل على قلب محمد (ص) وحياً موجود في كتبهم وزبورهم قبل إخفائه وتحريفه من جانب ثان، بدليل قوله تعالى واصفاً التنزيل الحكيم {وإن لفي زبر الأولين * أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} الشعراء 196، 197.

لقد قلنا إن التنزيل الحكيم هو قول الله، وأن دور الرسول (ص) هو البيان بالنطق إظهاراً وكشفاً، فما هو دورنا نحن كـ (ناس)؟

ويأتي الجواب واضحاً لايحتمل التأويل في قوله تعالى {ولعلهم يتفكرون} النحل 44. إن الله تعالى أنزل القول بلسان عربي مبين قابل للإدراك الإنساني لبيان التزيل، ودور رسوله الكريم هو البيان بالنطق، ودورنا نحن الناس بالتفكر. ونلاحظ أن هذه الأدوار الثلاثة تدور حول محور واحد هو التنزيل الحكيم، لامحل فيه لرجال الدين ولا لكتب الفقه ولا لكثير مما ورد في كتب الحديث التي يضعها السادة العلماء الأفاضل بمرتبة كتاب الله تعالى، لا بل هي عند بعضهم أعلى مرتبة منه. ومن هنا، فلا عجب إن سمعنا أحدهم يقول: “ إذا تعارض قول لأصحابنا مع القرآن أخذنا بما عليه أصحابنا¨. ولاعجب إن رأينا أن أحكام التكفير التي يطلقها هذا البعض بمباركة من السلطان الحاكم ويقوم جلاوذته على تنفيذها، فينفون هذا بعد تجريده من مناصبه (انظر الحكم الصادر عن الأزهر الشريف بحق الشيخ علي عبد الرازق)، ويحكمون بطلاق هذا من زوجته (انظر الحكم القضائي الصادر بحق نصر حامد أبو زيد). هذه الأمور لاتستند في حيثياتها إلى آية قرآنية ولا إلى سيرة نبوية عملية، بقدر ماتستند إلى كتب تفسير وكتب فقه يزعم أصحابها أنها تمثل ماقاله تعالى في كتابه العزيز، وما فعله النبي (ص) في حياته المباركة. صحيح أن هؤلاء البعض ـ بحسب الظاهر ـ مؤمنون بالله واحداً وبرسله وباليوم الآخر، إلا أنهم مشركون بالقرآن الكريم. ولاعجب أخيراً إن رأيناهم يعطلون العقل ويغتالون التفكر، ويدعون العصمة بوراثتهم للأنبياء، حتى وصلت الوقاحة بأحدهم إلى القول “بأن القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن¨!!.

أما قولهم أن تحريم الخمر هو الحفاظ على العقل، فإن السّكر هو رجس الخمر، وكل أهل الأرض يحتقرون السكران ويعاقبونه إن أساء لأحد أو قاد أية آلية. فهذا أمر تعرفه الإنسانية جمعاء.

  • الحفاظ على النسب والعرض:

النسب هو تلك العلاقة المادية من جانب والمعنوية من جانب آخر التي تربط الإنسان الذكر العاقل صعوداً بأبيه وأعمامه وأجداده وبأمه وأخواله وأجداده، وتربطه نزولاً بأبنائه وبناته وأحفاده وأسباطه وبأزواج هؤلاء وأولئك جميعاً. ولعل أوضح مايصف تلك العلاقة هو قوله تعالى {وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا} الفرقان 54. والماء في الآية هو الذي أشار إليه تعالى بقوله {فلينظر الإنسان مم خلق * خلق من ماء دافق * يخرج من بين الصلب والترائب} الطارق 5 ـ 7. أما من فسره وترجمه إلى اللغات الأخرى بأنه ذلك السائل الذي نشرب ونغسل به قمصاننا ونسقي زرعنا فليس عندنا بشيء (انظر الترجمة التقريبية لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية للشيخ عز الدين الحايك) والبشر في الآية قسمان: ذكور وإناث من الناحية البيولوجية كبشر، وذكور وإناث أيضاً من الناحية الإنسانية في قوله تعالى {ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} نلاحظ عندما قال بشر قال نسباً وصهراً، وعندما قال الناس قال شعوباً وقبائل. أما العلاقة التي تربط الذكر بأسرته وعشيرته فهي صلة الدم التي سماها سبحانه نسباً، وأما علاقة الأنثى بذلك كله فهي صلة الرحم التي سماها صهراً. وهاتان الصلتان: صلة الدم بالنسب وصلة الرحم بالمصاهرة، هما العمدة والأساس في بناء الأسر التي تقوم عليها المجتمعات من الناحية الإنسانية. يبقى أن نشير إلى لطيفة لغوية تتجلى في إطلاقه تعالى على صلة الرحم اسم الصهر. فالصاد والهاء والراء أصل صحيح في اللسان له معنى واحد هو التذويب بالحرارة الشديدة. والصّهر ـ بفتح وسكون ثم راء معجمة ـ في الكيمياء هو تحويل المعادن الجامدة إلى سوائل، أما الصّهر ـ بكسر فسكون ثم راء معجمة ـ فهو صلة قربى بالزواج. وصهر الرجل: زوج ابنته أو ابنة أخيه، أو زوج أخته أو ابنة أخته. وقل مثل ذلك في صهر المرأة، وهذا من المجاز. فكأن رحم المرأة مصهراً (بوتقة) تنصهر فيه البويضات مع المنويات وتذوب فيه مورثات الذكور والأنوثة لتعطي جنيناً يحمل صبغيات والديه.

والنسب نظام اجتماعي يتحدد فيه انتماء الإنسان وولاؤه، قد يتبع الأم الوالدة حيناً، كما كان سائداً في العشائر والقبائل البدائية وكما هو سائد عند اليهود حتى اليوم، وقد يتبع الأب الوالد حيناً، كما كان ـ ومازال ـ سائداً عند العرب. والقرآن الكريم دقيق وهو يتحدث عن مسألة النسب، كما هو دقيق وهو يتحدث عن المسائل الأخرى. ففي آية الأحزاب 40 يقول تعالى {ماكان محمد أبا أحد من رجالكم..} والأب في الآية هو الوالد لأنه قد يكون الأب غير والد. والآية كما نفهمها تتحدث عن شأن خاص يتعلق بزيد بن حارثة وتبني النبي (ص) له، وتخاطب أهل زمن النزول، وعن شأن عام يتعلق بالانتساب لمحمد (ص) برابطة أبوة نفى سبحانه قيمتها وإن صحت ليرسخ بدلاً منها رابطة الإيمان بالرسالة والنبوة، وهذا معنى قوله تعالى في تتمة آية الأحزاب 40 ( ولكن رسول الله وخاتم النبيين..) والمخاطب هنا هم المؤمنون بمحمد (ص) في كل الأزمنة والعصور حتى قيام الساعة. ويقول تعالى {وماجعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم..} الأحزاب 4. والآية كما فهمناها تصحح خطاً شائعاً وتصوّب خلطاً كان سائداً قبل نزولها، هو الظهار. فالزوجة ليست أماً والدة، ولاينطبق عليها ماينطبق على الأم، وقول الزوج لها: أنت حرام علي كظهر أمي، لغـو هو قائله، ولقد أوضح سبحانه ذلك بقوله {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ماهن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزورا..} المجادلة 2. فالزوجة لا يمكن أن تكون أماً والأم لا يمكن أن تكون زوجة، تماماً مثلما أن الأولاد بالتبني لا يمكن أن يكون حكمهم كالأولاد من الأصلاب. نأتي الآن إلى قوله تعالى {..وماجعل أدعياءكم أبناءكم..} الأحزاب 4، فالأدعياء في الآية نوعان: الأول، ابن يدعي أنه لأب والد يرفض الاعتراف به لجملة أسباب اجتماعية، مثاله عنترة بن شداد العبسي الذي رفض أبوه إلحاقه بنسبه بسبب أن أمه سوداء. وزياد بن أبيه الذي أنكره أبو سفيان، كيلا يكون ذلك دليلاً على ارتكابه الزنا. والثاني ولد متبنى يدعي أنه لأب مربّ، مثاله زيد بن حارثة. والأدعياء من النوع الأول أبناء بلا ريب. أما الأدعياء من النوع الثاني فليسوا كذلك. ولهذا أمر تعالى بتصحيح نسبهم وربطهم بالأب الوالد في حال وجوده أو معرفته من هو كحالة زيد بن حارثة الذي كان يعلم بأن له أباً ومن أبوه، وذلك في قوله تعالى {أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله..} الأحزاب 5. المسألة إذن مسألة تصحيح مفاهيم ومسألة وضع النقاط على الحروف، أما من اعتبر آيتي الأحزاب تحريماً للتبني، كما هو شائع عند جميع علمائنا الأفاضل، فنحن ننصحه بإعادة قراءة كتاب الله تعالى، وخصوصاً قوله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله..} الأحزاب 37. فالمخاطب في الآية هو النبي (ص) والمشار إليه فيها باسم الإشارة وبضمير المفرد الغائب هو زيد بن حارثة. والآية تتحدث عن جواز نكاح مطلقات وأرامل الأولاد بالتبني، وقد ورد هذا واضحاً في قوله تعالى في النساء 23 في محارم النكاح (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فهذا هو الحكم الذي يتميز به الابن بالتبني عن الإبن من صلب الرجل. أما الإرث والبر والحرمة والنسب فهو للأب غير الوالد كما هو للأب الوالد. وهذا ينسجم تماماً مع التوضيح الذي بيّنه سبحانه في الآيتين 4 و5 من سورة الأحزاب، ولا يتعارض معه مطلقاً. ولكن ماهو المقصود بعبارة (الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه)؟

في الآية نعمتان: نعمة إلهية، ونعمة محمدية. فإذا كانت النعمة الإلهية على زيد هي أن الله هداه إلى الصراط المستقيم طبقاً لقوله في سورة الفاتحة {صراط الذين أنعمت عليهم} فماهي النعمة المحمدية التي أنعم بها النبي (ص) على زيد؟ لقد بحثنا عن نعمة تتفق وسياق آية الأحزاب 37، فلم نجد إلا أنه احتضنه وتبناه ومنحه نسباً يستعيد به كرامته بين الناس.

إننا حين دعونا إلى اعتماد نظام التبني في أكثر من موضع من كتبنا كحل إنساني لمشكلتين: مشكلة التوق إلى الإنجاب عند أهل العقم والعقر، ومشكلة اللقطاء المنبوذين الذين تغص بهم دور رعاية اللقطاء، قامت قائمة أصحاب المحابر ولم تقعد. وحين نجدد الدعوة إلى ذلك هنا، نستشهد بالتنزيل الحكيم في حكمه بأن التبني نعمة، لكن السادة الفقهاء الأفاضل حين يحرمونه يستشهدون بفقه تراثي وبسلسلة من العنعنات مهما بلغت درجتها من الصحة تبقى دون كتاب عزيز موحى لايأتيه الريب من بين يديه ولا من خلفه. وشتان مابين الشاهدين. أي أن النسب هو للأب الوالد أو الأب المتبني وفي هذا المعنى الأنساب لاتضيع لأن البويضة البيولوجية هي للوالد والوالدة وهي لاتضيع أيضاً في وقتنا الحاضر بوجود تحليل الحمض النووي. أما تحريم التبني فهو مضيعة حقيقية للأنساب وخاصة للقطاء الذين يعيشون بلا نسب وتحت وطأة نظرة المجتمع لهم وخاصة المجتمعات المتخلفة البدائية كمجتمعاتنا.

أما العِرْض، بكسر ثم سكون وضاد منقوطة، فهو كرامة الإنسان وسمعته بين الناس وموضع فخره واعتزازه. يقول الإمام الشافعي:

إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وحظك موفور وعرضك صيّنُ

لسانك لاتذكر به عورةَ امرئٍ فكُلّـكَ عـورات وللناس ألسنُ

ويقول الشاعر:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكـل رداء يرتديه جميـلُ

ويفهم مما ذكرنا لكل متأمل عاقل أن الكذب يخدش العرض وأن إخلاف المواعيد في التجارة والصناعة يجرح عرض فاعله، وقل مثل ذلك في النميمة والغيبة والغش في المواصفات، وفي هذا المفهوم، العرض له معنى إنساني عالمي للذكور والإناث على حد سواء. وله علاقة بخصوصيات الإنسان ذكراً كان أم أنثى، والتي لايرغب بأن يطلع الآخرين عليها وهي ماتسمى بالعورة أيضاً وهي مايستحي المرء من إظهاره.

ونحن لاندري متى بدأ لفظ العرض ينحرف عن معناه الأصلي. ومتى أصبح المساس به يرتبط في الأذهان بالسفاح والاغتصاب الجنسي للنساء. ولاندري متى بدأ السادة الفقهاء الأفاضل يغفرون للرجل قتل أي رجل آخر يراه في وضع شائن مع زوجته أو أخته أو ابنته، ولايغفرون للمرأة إن قتلت زوجها أو أخاها أو ابنها وقد ضبطته متلبساً بالجرم المشهود. ولاندري متى أصبحت المرأة عرض الرجل، ولم يصبح الرجل عرض المرأة وكأن المرأة لاعرض لها، فإن كان، فهو ليس كرامة ولا سمعة بل هو يتجسد في شيء في جسد المرأة نستحي أن نسميه.

خلاصات ونتائج

إن مقاصد الشريعة ـ في ضوء كل ماطرحناه آنفاً ـ تصبح مقوماتها ودلالاتها لدينا كما يلي:

1 ـ الحفاظ على الحياة:

انطلاقاً من أن الأعمار تطول وتقصر، ومن أن الموت كتاب لايتحقق إلا باكتمال شروطه، وقل مثل ذلك في المرض. وإيماناً منا بأن هذا البند يصبح لامعنى له في ضوء القول “رفعت الأقلام وجفت الصحف¨، وفي ضوء مايطرحه السادة العلماء الأفاضل من أن العمر محتوم، والصحيح أن الموت محتوم لامناص منه ولكنه قابل للتأجيل، فإن تحقيق هذا البند لايكون إلا بإنشاء وتوسيع المؤسسات التي تسهم في إطالة الأعمار، فالنظافة والتداوي ـ مثلاً ـ من أهم عوامل الوقاية من الأمراض والأوبئة قبل وقوعها، ومن أهم عوامل علاجها والحد من انتشارها بعد وقوعها. ومن هنا فإن دعم مؤسسات النظافة العامة وتشجيع الدراسات في الطب والصيدلة وافتتاح مستوصفات ومشافٍ ومراكز بحوث طبية وصيدلانية هي حجر الأساس في هذا البند الهام. تبقى في الجانب الآخر ظواهر تقصر الأعمار كالحروب والجرائم وحوادث المرور، إن تم القضاء عليها كان ذلك خطوة كبيرة على طريق إطالة الأعمار.

2 ـ الحفاظ على المال:

إننا نرى في هذا البند سعة وشمولية غفل عنها السادة العلماء الأفاضل وأغفلوها، حين حصروها بالسرقة في مجال المال النقدي وبالاغتصاب في مجال الممتلكات الأخرى، بغض النظر عن المصدر الأساسي لهذا المال. فمصدر الأرزاق للناس جميعاً هو خيرات الطبيعة وعمل الإنسان ومصدر المال هو العمل بأنواعه الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات والإرث والهبة، وكل هذا يقوم به الإنسان من أجل حياة أفضل.

إن الحفظ والحفاظ في هذا البند لايقتصر على وضع الأموال في الخزائن المصفحة والصناديق الحديدية، فالبعد عن الإسراف من وجوه الحفظ، وإخراج الزكوات عن فائض الأموال باب من أبواب الحفاظ عليها، والتماس النافع المفيد من المشاريع الاستثمارية، وترك الربا المحرم والمتاجرة بالمهربات الممنوعة، وخلق فرص العمل باعتباره المصدر الأساسي لكسب المال كما أشرنا، وتطبيق مبدأ تكافؤ الفرص تطبيقاً عملياً وهذا كله من صور الحفاظ على المال.

3 ـ الحفاظ على العقل:

مرة أخرى ندعو للنظر إلى هذا البند بمنظار واسع شامل من جانب، دقيق واضح من جانب آخر. فكما غفل السادة العلماء الأفاضل عن هذه السعة الشمولية في مسألة الحفاظ على المال، كذلك غفلوا عنها وأغفلوها في مسألة الحفاظ على العقل، حين اعتمدوا المفهوم التراثي للعقل وهو الحفظ أو قوة الذاكرة، التي تعتبر جانباً من جوانب العقل وأغفلت جانب الإبداع في العقل.

لقد كانت الذاكرة وحفظ المعلومات عن ظهر قلب هي الوسيلة الوحيدة لاكتساب المعرفة وتلقي العلم نظراً لندرة وسائل التعليم واقتصارها على المشافهة، حتى شاعت أقوال مثل “لاتأخذ العلم من صُحُفي ولا القرآن من مصحفي¨، ودرجت ألقاب مثل “الحافظ¨ كالحافظ ابن كثير والحافظ الذهبي والحافظ البغدادي لاتعطى إلا لكبار العلماء وتوازي لقب “الدكتور¨ في يومنا هذا، لكن هذه الألقاب وتلك الأقوال بقيت تدور حول محور واحد هو الذاكرة. قيل للشيخ الإمام محمد عبده: فلان حفظ صحيح البخاري عن ظهر قلب. فقال: لقد زادت نسخ صحيح البخاري واحدة. كان الشيخ ـ رحمه الله ـ يدرك منذ ذلك الوقت أن الانتشار الواسع للكتب والمخطوطات والوثائق واختراع آلات التسجيل الصوتية والرقمية قد حلّ محل الذاكرة الحفظية في تلقي العلم. فماذا تراه كان يقول لو أنه رأى الحواسيب اليوم، التي تحتزن كل ماقيل في كتب التفسير والحديث والفقه على مدى أربعة عشر قرناً في رقاقة لاتزيد عن حجم علبة الكبريت؟

ثمة عقل آخر غير العقل الحفظي الذي يصر السادة العلماء الأفاضل على دعوتنا للحفاظ عليه هو العقل النقدي، العقل الباحث عن المعرفة والحقيقة بعيداً عما قاله زيد وحكم به عمرو، الذي يصل به الإنسان العاقل الواعي إلى رؤية الأشياء دونما حاجة إلى استعارة عيون الآخرين. هذا العقل النقدي هو الأساس في اكتساب العلوم والمعارف، وبه تتقدم المعرفة الإنسانية في كافة جوانبها. وهذا العقل النقدي هو العقل المستقيل منذ قرون عند العرب والمسلمين.

إننا نفهم سبب فزع مشايخنا من العقل النقدي ومحاربتهم له، ووصول بعضهم أحياناً إلى تكفير صاحبه. ونفهم كيف وظفوا منع الكلام أثناء خطبة الإمام ـ حسب الحديث النبوي إن صح ـ لاغتيال التساؤلات التي يطرحها أصحاب العقل النقدي؟ لماذا؟ وكيف؟ ومتى..؟ فهم يطلبون من سامعيهم في المساجد ومن مريديهم في مجالس العلم ومن طلابهم في الجامعات أن يحنطوا عقولهم ويصيحوا “ آمين¨ خلف كل معلومة يلقونها إليهم دون نقاش ودون استفسار ودون اعتراض، فالنقاش وقاحة، والاستفسار غباء، والاعتراض كفر.

والعقل النقدي عقل مكتسب، وملكة تنمو في ظل شروط موضوعية منذ السنوات الأولى من عمر الإنسان، فإن لم تتوفر لها هذه الشروط ضمرت ثم غرقت تحت ركام من صدأ التقليد، ليتحول صاحبها إلى ببغاء لايتقن سوى ترديد مايقال له دون تفكر ولا تدبر. ومن هنا فإن أول خطوة في طريق الحفاظ على العقل النقدي هي إعادة صياغة المناهج التعليمية والبرامج التربوية بحيث نخرج بها من إطار التلقين الذي دربت الأمة على اعتماده قروناً في مناهجها وبرامجها.

وأهم البنود في الحفاظ على العقل وبث الروح في العقل النقدي هو الخروج من نفق مظلم اسمه الحديث النبوي. ففيه تم اغتيال هذا العقل، ومن خلاله وخلال السيرة النبوية انتقلت الأسطورة ووصلتنا من أوسع أبوابها، فأصبحنا لانفرق بين ماهو ديني وماهو تاريخي وماهو ميثيولوجي وأسطوري. والعقل النقدي من السهل عليه أن يناقش حديث البخاري بأن الله خلق آدم بطول 60 ذراعاً. ونحن نعرف أن الديناصور انقرض منذ 65 مليون سنة ووجدنا هيكله العظمي. وإلى الآن لم يجد علماء الآثار أي هيكل عظمي واحد لهذا القول. إذاً هناك كذب وأسطورة. كذلك الحديث التي يقول أن أجساد الشهداء لاتأكلها الأرض، فإن العقل النقدي يقول: لماذا لانكشف على قبور شهداء أُحُد ومنهم حمزة بن عبد المطلب، وسنكتشف أننا لن نجد شيئاً أكثر من هيكل عظمي ـ هذا إن وجدناه. هذا كذب ووهم!. ومن السيرة نجد أن حادثة شق الصدر للنبي (ص) وهو طفل مجرد وهم لاأكثر.

أي لدينا المعادلة التالية:

كتب الحديث › كتب السيرة ¯ التاريخ › الدين › الأسطورة والخرافة ¯ إلباس الحق بالباطل (إلباس الحقيقة بالوهم).

وهذه الظاهرة ينطبق عليها قوله تعالى: {لاتلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق..}

أما التنزيل الحكيم فتنطبق عليه المعادلة التالية:

التنزيل الحكيم ¯ أحداث الكون وأحداث التاريخ (الحق ـ النبوة) وهي تخضع للتأويل › السلوك الإنساني الواعي الحر (الرسالة} (فرق الحلال عن الحرام) وهي تخضع للاجتهاد.

وإن دراسة التنزيل الحكيم بفرعيه النبوة والرسالة بعقل نقدي يوصلنا إلى نمو المعرفة الإنسانية بالوجود الموضوعي ونمو الضمير الإنساني، مما يجعل من المسلم إنساناً صادقاً حر الضمير قادراً على فهم وصايا الرسالة، ويزيدنا من الله قرباً حركياً، ونمو الضمير الإنساني يزيدنا من الله قرباً سكونياً.

4 ـ الحفاظ على الدين:

لعل هذا البند من بنود مقاصد الشريعة كما أرساها أصحابها هو أخطر هذه البنود، وأكثرها خروجاً على ماقرره تعالى في تنزيله الحكيم، وعلى ماالتزم به النبي الكريم (ص) وطبقه في كل مراحل حياته المباركة.

أما عن التنزيل الحكيم، فالله تعالى يقول {لاإكراه في الدين} البقرة 256، ويقول {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فيكفر..} الكهف 29، ويقول {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل} الزمر 41. ولايخفى على المتأمل العاقل لهذه الآيات التي أوردناها على سبيل المثال لا الحصر، هذا الاحترام الإلهي للإرادة الإنسانية ولحرية الإنسان في اختيار عقائده ومعتقداته، ثم يرسم سبحانه ـ تطبيقاً لهذا المبدأ الأساس في احترام حرية العقيدة عند الإنسان ـ لنبيه الكريم معالم الخط الذي يتوجب عليه إتباعه في دعوة الناس إلى سبيل ربهم، وفي إبلاغهم رسالة الله إليهم كما نزل بها جبريل الأمين، فيقول {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} الأنبياء 107، ويقول {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وادلهم بالتي هي حسن..} النحل 125، ويقول {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعفُ عنهم واستغفرهم وشاورهم في الأمر..} آل عمران 159.

وأما عن النبي (ص) فقد كان التنزيل الحكيم هو النبع الوحيد الذي يستفيء بظلاله ويغرف من زلاله. فأطلق في مكة شعاره المشهور “خلّوا بيني وبين الناس¨. ومرة أخرى لايخفى على المتأمل العاقل مايحمله هذا الشعار من احترام للحوار مع الآخر، وما ينطوي عليه من رفق عقلاني وهو يتوجه بالموعظة الحسنة ليخاطب عقول الآخرين، هذا الرفق الذي لازمه طوال أيام حياته وهو يبلغ الرسالة، علماً بأن هذا الرفق لم يلازمه دائماً وهو يبني دولته.

وأحسن تعبير عن الحفاظ على الدين هو تبني منظومة حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة التي أصبحت منظومة عالمية. والغريب أن العرب والمسلمين هم وحدهم الذين يتحفظون عليها تحت مختلف الذرائع.

ملحق

أخرج مسلم في صحيحه (كتاب الفتن وأشراط الساعة) عن فاطمة بنت قيس قالت:

(سمعت منادي رسول الله (ص) ينادي: الصلاة جامعة. فخرجت إلى المسجد فصليت مع رسول الله في صف النساء التي تلي ظهور القوم. فلما قضى رسول لله صلاته جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: أتدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إني والله ماجمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميماً الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء فبايع فأسلم، وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهراً في البحر، ثم ارفأوا إلى جزيرة حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أقرب السفينة فدخلوا الجزيرة فلقيتهم دابة أهلب كثير الشعر لايدرون ماقبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلكِ ما أنتِ؟ فقالت: أنا الجساسة. قالوا: وما الجساسة؟ قالت: أيها القوم انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمّت لنا رجلاً فرقنا منها أن تكون شيطانة. قال فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً، وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه مابين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد. قلنا: ويلك وما أنتَ؟ قال: قد قدرتم على خبري فأخبروني ماأنتم؟ قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية، فصادفنا البحر حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهراً ثم أرفأنا على جزيرتك هذه. فجلسنا في أقرها، فدخلنا الجزيرة، فلقينا دابة أهلب كثير الشعر، ولايدرى ما قبله من دبره من كثرة الشعر، فقلنا ويلك ما أنتِ؟ قالت: أنا الجساسة. قلنا: وما الجساسة؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير فإنه إلى خبركم بالأشواق. فأقبلنا إليك سراعاً وفزعنا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بيسان. قلنا عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها هل يثمر؟ قلنا له: نعم. قال أما إنه يوشك ألا يثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية. قلنا عن أي شِأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء؟ قالوا: هي كثيرة الماء. قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زغر، قالوا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين مافعل؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذلك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني، إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرج فأسير في الأرض، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة فهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحداً، منهما استقبلني ملك بيده السيف مصلتاً يصدني عنها. وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت: قال رسول الله (ص)، وطعن بمخصرته في المنبر: هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة (يعني المدينة) ألا هل كنت حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم، فقال: فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن مكة والمدينة. ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق. ماهو من قبل المشرق، ماهو. وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظت هذا من رسول الله (ص) أهـ.

(2) تعليقات
  1. من المعقول ان الإسلام نصلي ونصوم ونحج ونضيع مسؤليه العقل اي الخلافه لو كانت القضيه صلاه وصيام وحج لألهمنا تسبيحه وصلاته كما الهم الطيور فأين الخلافه في الارض وحمايها من الفساد وصلاحها وكيف سنخشع في الصلاه ونحن نرشي الحكام ونلعب القمار ونأكل أموالنا بيننا بالباطل والطبيب لا يرحم المريض والتاجر يغش زبونه والفلاح يرش الثماربمبيد قاتل ويجني الثمار في نفس اليوم او بعد يومين هجر القرآن يضيع التقوى واذا ضاعت التقوى ستصبح الصلاه شكل بهلواني

اترك تعليقاً