الفصل الأول: المنهج المتبع لفهم التنزيل الحكيم

خلال مسيرتنا نحو قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم، قمنا حتى الآن بنشر أربعة كتب ابتداء من عام 1990، ونحن الآن في عام 2007 نقوم بتحضير الكتاب الخامس الذي نأمل أن يصدر في بدايات عام 2008. كما أننا نقوم مع فريق عمل بتلخيص أهم الأبحاث في الكتب الأربعة ومن الكتاب الخامس لترجمتها إلى اللغة الإنكليزية، وتقديمها للقارئ المسلم غير العربي، وغير المسلم وغير العربي. لذا رأينا أن نقدم له النقاط الرئيسية للمنهج المتبع في تأليف الكتب.

هذه النقاط تتألف من المنهج اللغوي والمنهج المعرفي المتبع في التعامل مع التنزيل الحكيم. وقد تم اختصار وتكثيف المنهج في بنود مرقمة لجعلها سهلة على القارئ، وبدأنا بالبنود اللغوية، ثم الفكرية ثم الفقهية، وهي تعرّف القارئ كيف وصلنا إلى الاستنتاجات التي أوردناها في الفصل الثاني تحت عنوان (المصطلحات) وهي التي تم شرحها واستنتاجها بشكل مفصل في كتبنا الأربعة. وفيها يرى القارئ ما هو معنى ومحتوى القراءة المعاصرة، حيث تم اختراق كثير مما يسمى بالثوابت، وخاصة ما يسمى أصول الفقه التي تم وضعها من قبل الناس في القرون الهجرية الأولى وهي – برأينا – لا تحمل أي قدسية، وبدون اختراق هذه الأصول لا يمكن تجديد أي فقه.

ونورد هنا مقولة آينشتاين الشهيرة:

“إنه لمن الحماقة أن تعتقد أنك ستحصل على نتائج مختلفة وأنت تكرر الشيء نفسه¨.

فمن هنا نرى أن أطروحات التجديد لا معنى لها ولا تؤتي ثمارها، وإنما هي تكرار للذات وللسلف وهي مجموعة من الخطابات والكلمات الرنانة بدون أي معانٍ أو أفكار مفيدة. فأي تجديد لا يسمى تجديداً إلا إذا اخترق الأصول، وعلينا أن نعي حقيقة تاريخية هامة جداً وهي أن التاريخ الإنساني حسب التنزيل الحكيم يمكن أن يقسم إلى مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة الرسالات التي انتهت برسالة محمد (ص). والمرحلة الثانية مرحلة ما بعد الرسالات والتي نعيشها نحن. أي أن الإنسانية الآن لا تحتاج إلى أية رسالة أو نبوة، بل هي قادرة على اكتشاف الوجود بنفسها بدون نبوات، وقادرة على التشريع بنفسها بدون رسالات. والإنسانية اليوم أفضل بكثير من عصر الرسالات، لأن البشرية كانت بحاجة إليها للرقي من المملكة الحيوانية إلى الإنسانية، أما نحن فلا. وعلينا أن نعي أن المستوى الإنساني والأخلاقي في تعامل الناس بعضهم مع بعض أفضل بكثير من قبل وحتى في عهد الرسالات. فالبكاء على عصر الرسالات لا جدوى منه، لأننا الآن في مستوى أرقى معرفياً وتشريعياً وأخلاقياً وشعائرياً. ويكفي أن ضمان حقوق الإنسان أصبح كابوساً على رأس كل متسلط. والمؤسسات المدنية المحلية والعالمية التي تقوم على أساس تطوعي، تتنامى يوماً بعد يوم، وأنه تم إلغاء الرق بشكل كامل، حيث دشنت الرسالة المحمدية بداية تحرير الرق والمرأة ولم ينته إلى الآن. هذه المظاهر التي كانت لا تعرفها البشرية من قبل. ونحن قرأنا التنزيل الحكيم على أنه خاتم الرسالات، بعيون وعقل عصر ما بعد الرسالات على أساس أنه جاء للأولين بمستوى، أي قرؤوه بعيونهم وبمستوى معارفهم، ولنا بمستوى آخر نقرأه بعيوننا وبمستوى معارفنا، ولا يمكن أن تكون الصلاحية إلا هكذا.

المنهج المتبع في التعامل مع التنزيل الحكيم

المنهج، أي النظام المعرفي المتبع، الذي انطلقت منه في محاولة فهم التنزيل الحكيم وإعادة تأسيس فقه إسلامي معاصر يتلخص في نقاط أساسية نراها صالحة كمنطلق لقراءة ثانية للكتاب والسنة، على ألا ننسى أنها ليست القراءة الأخيرة، وإلا لوقعنا فيما وقع فيه السلف والسلفيون والآباء والآبائيون. فالذي يدعي فهم كتاب الله ككل من أوله إلى آخره فهماً مطلقاً ولو كان النبي (ص) نفسه، إنما يدعي شراكة الله في المعرفة في ضوء قوله تعالى {ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} الرعد 43. هذه النقاط تتلخص فيما يلي:

إيمانيات:

1 – إن آيات التنزيل الحكيم عبارة عن نص إيماني وليست دليلاً علمياً، يمكن إقامة الحجة بواسطتها على أتباع المؤمنين بها فقط، وأما على غيرهم فلا يمكن. وعلى أتباع الرسالة المحمدية المؤمنين بالتنزيل الحكيم أن يوردوا الدليل العلمي والمنطقي على مصداقيتها.

2 – إن التاريخ الإنساني ككل في مسيرته العلمية والتشريعية والاجتماعية منذ البعثة المحمدية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هو صاحب الحق في الكشف عن مصداقية التنزيل الحكيم، وهذه المصداقية ليس من الضروري أن ترد على لسان صحابي أو تابعي أو فقيه.

3 – إن الوجود المادي وقوانينه هما كلمات الله، وأبجدية هذه الكلمات هي علوم الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا والفضاء.. إلخ، وإن الكم المنفصل (Digital) والكم المتصل (Equations) هما آلية هذه العلوم، وهذا الوجود مكتفٍ ذاتياً ولا يحتاج إلى شيء من خارجه لفهمه، وهو لا يكذب على أحد ولا يغش أحداً، وبنفس الوقت لا يساير أحداً وهو عادل في ذاته {وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً} الأنعام 115.

4 – بما أن التنزيل الحكيم هو كلام الله {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ} التوبة 6، فوجب بالضرورة أن يكون مكتفياً ذاتياً، وهو كالوجود لا يحتاج إلى أي شيء من خارجه لفهمه، هذا لإيماننا واعتقادنا بأن خالق الكون بكلماته هو نفسه موحي التنزيل الحكيم بكلامه، وهو الله سبحانه وتعالى. لذا فإن مفاتيح فهم التنزيل الحكيم هي بالضرورة داخله، فلنبحث عنها داخل التنزيل الحكيم وبدون صحاح ومسانيد .. إلخ وبدون قول صحابي أو تابعي، ويمكن سماع كل الأقوال والاستئناس بها. وعلينا أن نتعامل مع التنزيل الحكيم مباشرة بدون خوف منه ولا خوف عليه، فالله لا ينهزم.

إن أبجدية كلام الله هي فهم المصطلحات، لذا أوردنا فصلاً خاصاً بها، والمنهج المعرفي في التعامل مع التنزيل الحكيم حيث أن المعرفة أسيرة أدواتها وهذا ما سنشرحه في المنهج.

ولذا فإن التنزيل الحكيم مطلق في ذاته، نسبي لقارئه ونسبيته تتبع تطور نظم المعرفة وأدواتها، وهذا ما نطلق عليه ثبات النص في ذاته وحركة المحتوى لقارئه، وهنا نعلم لماذا كان النبي (ص) ممتنعاً عن شرحه إلا في الشعائر فقط لأنها من الثوابت.

5 – الأصل في الحياة هو الإباحة، وصاحب الحق الوحيد في التحريم هو الله فقط، وهو أيضاً يأمر وينهى، لذا فإن المحرمات أُغلقت بالرسالة المحمدية، وكل إفتاءات التحريم لا قيمة لها ولو كان عددها بالمئات.

أما غير الله، ابتداء من الرسل وانتهاء بالهيئات التشريعية، فهي تأمر وتنهى فقط {وَمَا آتَاكُمْ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر 7، حيث أن الأمر والنهي ظرفي زماني مكاني، والتحريم شمولي أبدي. لذا فإن الرسول (ص) لا يحرم ولا يحلل، وإنما يأمر وينهى، ولذا فإن نواهيه كلها ظرفية ولا تحمل الطابع الأبدي.

6 – إن محمداً (ص) كان مجتهداً في مقام النبوة {لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَار} التوبة 117، ومعصوماً في مقام الرسالة {يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النّاسِ} المائدة 67، لذا فهناك سنة نبوية وسنة رسولية، وفي السنن الرسولية أو النبوية لا يوجد محرمات إطلاقاً وإنما هي أوامر ونواهٍ.

7 – إن الإيمان بالله واليوم الآخر هو تذكرة الدخول إلى الإسلام، والإسلام يقوم على هذه المُسَلّمة، والعمل الصالح هو السلوك العام للمسلم، وكل قيمة إنسانية عليا ليست وقفاً على أتباع الرسالة المحمدية هي من الإسلام مثل بر الوالدين والصدق وعدم قتل النفس وعدم الغش والأمانة .. إلخ. وبما أن العمل الصالح من الإسلام، فأبدع ما شئت، فلك أجر أنت ومن اتبعك. ورأس الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله شهادة شاهد {قُلْ إِنّمَا يُوحَى إِلَيّ أَنّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الأنبياء 108. أما شهادة أن محمداً رسول الله فهي رأس الإيمان، والإيمان بها تصديقاً. وأتباعه هم المسلمون المؤمنون، وكل عمل هو وقفٌ على أتباع الرسالة المحمدية ولا يقوم به غيرهم هو من الإيمان، مثل الصلوات الخمس وصوم رمضان ونصاب الزكاة وصلاة الجنازة، حيث أن هذه الشعائر هي من أركان الإيمان وليست من أركان الإسلام وفيها الإبداع بدعة ومرفوض. لذا نرى أن هناك إيمانين: الأول، الإيمان بالله الواحد وهو الإسلام والمسلمون، والثاني الإيمان بالرسول (ص) {يَا أَيّهَا النّبِيّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنْ اتّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} الأنفال 64، وهو الإيمان والمؤمنون، والإسلام يسبق الإيمان دائماً، ويوجد أجر على كل واحد منهما {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} الحديد 28. الكفل الأول على الإسلام والكفل الثاني على الإيمان. وبما أن الإسلام عام إنساني، فهو الدين الوحيد الذي ارتضاه الله لعباده، وهو دين الفطرة، وقد تراكم من نوح حتى محمد (ص). أما أركان الإيمان فهي ضد الفطرة تماماً كصوم رمضان والصلوات الخمس. ولا يمكن للإنسان أن يقوم بها إلا إذا أمره أحد بها وهداه إليها، لذا قال تعالى عن الإسلام والإيمان {يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلَامَكُمْ بَلْ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} الحجرات 17. لذا فإن أهم إصلاح ثقافي نحن بحاجة إليه هو تصحيح أركان الإسلام وأركان الإيمان، حيث تم وضع أركان الإيمان على أنها أركان الإسلام، مما أوقعنا في أزمة ثقافية وأخلاقية كبيرة جداً، حيث أن الأخلاق والقيم الإنسانية العليا أصلاً غير موجودة في أركان الإسلام المزعومة، فالإسلام فطرة والإيمان تكليف.

أوليّات

عند دراسة أي نص لغوي، مهما كان نوعه، لدينا الأركان التالية: المؤلف – النص – القارئ أو السامع.

فالقارئ يتعرف على المؤلف من خلال النص وقراءاته له، وليس ضرورياً أن يذهب القارئ إلى المؤلف ويجلس معه ليفهم منه ماذا يريد بكتابه. فإذا فهم القارئ النص مئة بالمئة كما أراده المؤلف، فهذا يعني أنه دخل إلى عقل المؤلف وصار مثله في المعارف الواردة في النص. وعندما يقرأ القارئ النص فإنه يوظف معلوماته المكتسبة تلقائياً ليفهمه، فإذا لم يفعل ذلك فإنه يعطل فكره ولا يفهم شيئاً، وهذا ما يحصل مع شديد الأسف عند الكثير من الناس حين يقرؤون آي الذكر الحكيم.

ففي التنزيل الحكيم، ولله المثل الأعلى، المؤلف هو الله مطلق المعرفة، والنص هو التنزيل الموحى، والسامع هو الناس محدودو المعرفة من زمن التنزيل إلى أن تقوم الساعة، بمختلف مداركهم ومعارفهم المتطورة دائماً والمتقدمة دائماً. لهذا، لا يمكن لإنسان واحد، أو لمجموعة من البشر في جيل واحد، أن يفهم النص القرآني بشكل كامل مطلق كما أراده صائغه، وإلا أصبح شريكاً لله في المعرفة، بدلالة قوله تعالى {لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون} الأنعام 67.

ولما كان ذلك كذلك، وبما أنه لا وحي ولا تنزيل بعد محمد (ص) الخاتم، يضع الأنباء في مستقرها، وبما أن الله يعلم بعلمه الكلي اختلاف القارئ – إلى أن تقوم الساعة – في الأرضية المعرفية وفي المدركات، فجاء تنزيله يحمل ظاهرة التشابه، أي ثبات النص وحركة المحتوى في النبوة، وجاءت الأحكام في هذا التنزيل حنيفية، تحمل مرونة التطابق مع المتغيرات الزمانية والمكانية، في تحركها بين حدود الله الدنيا والعليا في الرسالة، تاركة للمجتمع وللأرضية المعرفية في المجتمع فهمم وصنع المعاني، واختيار النقطة الملائمة لها، ضمن هذه الحدود حصراً، لتقف عليها وتأخذ بها، ومقلدة للتشريع الإلهي في مؤسساتها التشريعية بإصدار شرائع حدودية ظرفية.

لغويّات

1 – الألفاظ خدم للمعاني، فالمعاني هي المالكة سياستها المتحكمة فيها. ووظيفة اللغة هي آلية التفكير ونقل ما يريده متكلم إلى سامع.

2 – حين يخاطب المتكلم سامعاً، فهو لا يقصد إفهامه معاني الكلمات المفردة، لأن الثقافة المعجمية غير كافية لفهم أي نص لغوي، فما بالك إذا كان النص هو التنزيل الحكيم.

والمعاني موجودة في النظم، وليس في الألفاظ كلاً على حده. وحين نقول إن الولد أكل تفاحة حمراء، فنحن نعني ضمناً وبالضرورة أن هناك تفاحاً بألوان أخرى، وعندما نقرأ قوله تعالى: {الإثم والبغي بغير الحق) فنحن نفهم ضمناً وبالضرورة أن هناك إثماً وبغياً بحق، ولو لم نقل ذلك لفظاً بالنص. وهذا ما نطلق عليه المسكوت عنه.

3 – اللغة حاملة للفكر، وتتطور معه. وهناك تلازم لا ينفصم بين اللغة ووظيفة التفكير عند الإنسان، حتى الأحلام التي يراها النائم، يراها ضمن حامل لغوي.

4 – التنزيل الحكيم يحوي أعلى مستوى من البلاغة التي لا يمكن تجاوزها أو الإتيان بمثلها في أداء المعنى وتوصيله إلى السامع. فهو الكتاب الوحيد الذي يمثل في جميع آياته الخيط الفاصل بين التطويل الممل والإيجاز المخل، ولهذا فعلينا أن نقرأ المسكوت عنه الذي اقتضته البلاغة، كما في آية المواريث حيث سكت عن الذكر في قوله تعالى {وإن كانت واحدة فلها النصف} وفي قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} النساء 11.

5 – التنزيل الحكيم خال من الترادف، في الألفاظ وفي التركيب. فاللوح المحفوظ غير الإمام المبين، والكتاب غير القرآن، وللذكر مثل حظ الأنثيين لا تعني للذكر مثلاً حظ الأنثى. ومن يقول بالترادف في المفردات والتراكيب فكأنه يقول إن التنزيل الحكيم نزل على مبدأ ما أعذب هذا الكلام لا أكثر من ذلك مقارنة بالشعر الذي لا يعيبه الترادف والكذب. وإن القول أن الناقة لها خمسون اسماً، فهذا يمثل مرحلة ما قبل التجريد النهائي في اللغة، ويمثل بدائية اللغة، لذا فإننا لا نأخذ به الآن.

6 – التنزيل الحكيم خالٍ من الحشو واللغو والزيادة، فما اعتبره النحاة زائداً في النحو، ليس زائداً في الدلالة، ولا يمكن حذف كلمة من التنزيل الحكيم دون أن يختل المعنى، ولا يمكن من جهة ثانية تقديم أو تأخير أي من كلماته وألفاظه، دون أن يفسد النظم الحامل للمعنى، وليس مجرد خلل في جمالية الشكل أو الوقع الموسيقي.

7 – التنزيل الحكيم دقيق في تراكيبه ومعانيه، فالدقة فيه لا تقل عن مثيلتها في الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات. وهذا أمر طبيعي، فصانع هذا الكون من أصغر ذرة إلى أكبر مجرة، وخالق هذا الإنسان بأعصابه وأوردته وشرايينه وعظامه ولحمه وجلده وشعره وأجهزة السمع والبصر والإدراك، هو ذاته صاحب التنزيل، الذي لابد وأن تتجلى في دقته وحدة الصانع ووحدة الناموس. فلكل حرف فيه وظيفة، ولكل كلمة فيه مهمة، وقوله تعالى {ولأبويه لكل واحد منهما السدس} النساء 11. لا تعني أبداً (ولوالديه لكل واحد منهم السدس).

لذا فإن تطور مستوى الدقة عندنا أعلى بكثير من مستوى الدقة عند السلف، فالكون هو الكون، ولكن مستوى الدقة عندنا الآن في دراسة الكون أعلى بكثير مما كان عليه في القرن الماضي. واستعمال دقة العصر في العلوم والتشريع هو من أساسيات القراءة المعاصرة.

8 – عند تأويل آيات التنزيل الحكيم لابد من الإمساك بالخيط اللغوي الرفيع الذي لا يجوز تركه، والذي يربط ويصل الشكل بالمضمون، لأنه إذا انقطع هذا الخيط بين البنية والدلالة، تصبح احتمالات معاني الآية لانهائية.

9 – نحن ننطلق من أن إرساء أسس التدوين والتقعيد، جاء لاحقاً للسان العربي ولاحقاً للتنزيل الحكيم وليس سابقاً له. فإذا قال سيبويه إن الفعل يجب أن يماثل الفاعل في الإفراد والتثنية والجمع. ثم نقرأ قوله تعالى: {هذان خصمان اختصموا} الحج 19. فهذا لا يعني أن الله أخطأ في القواعد التي أرساها سيبويه، بل يعني أن سيبويه حين أسس لقواعده لم يحكم ما أسسه على ما ينبغي، وهذا يفسر لنا خلافات مدارس النحو وأهله في المئات من المسائل.

إن أسس النحو والصرف جاءت بعد أن وُجدت اللغة واللسان وليس قبلها. والمتأمل في هذه القواعد والأسس، يجد أنها تتبع النصوص كيفما تحركت، وأنها مصاغة أصلاً استخراجاً مما تحركت به النصوص، وأن الحكم في صحة القاعدة أو في عدم صحتها لما قاله العرب وسمعوه، ونحن نؤكد أن السلطة للنص على القاعدة وليس العكس.

10 – لقد جاء التنزيل يحمل في ذاته تطويراً لغوياً لم يعرفه الجاهليون في لسانهم قبله. ففيه مفردات أتى بها من لغات أخرى غير العربية، وفيه أسلوب متميز بالنظم يخرجه كلية من دائرة الشعر أو الخطابة التي عرفها العرب قبله، وفيه مصطلحات مستحدثة انفرد بها، لم تكن موجودة قبله، وهذا وأشباهه كثير كثير، يؤكد استحالة اعتبار مفردات الجاهلية كافية بذاتها لفهم التنزيل الحكيم.

11 – لقد وضع الخليل وسيبويه قواعد اللسان العربي على مبدأ الشكل: المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، وهو ما يسمى بعلم النحو. ثم جاء علم البلاغة (المعاني) وكأنما هناك فصل بين النحو والبلاغة كل على حده. فسيبويه والجرجاني وابن جني وأبو علي الفارسي وكل علماء اللغة ظهروا في القرون الهجرية الأولى. ونحن الآن في بدايات القرن الحادي والعشرين، نعلم أن علوم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والطب وكل العلوم الأخرى تقدمت بشكل هائل لا يقاس أصلاً بالماضي. ونسي علماء الدين عندنا أن علوم اللغات تطورت أيضاً بشكل هائل. فكيف لم يؤخذ بعين الاعتبار هذا التطور الهائل لعلوم اللسانيات عند دراسة آيات التنزيل الحكيم لفهمها بشكل أفضل ومعاصر.

المنهج الفكري

1 – لا يمكن فهم أي نص لغوي إلا على نحو يقتضيه العقل.

2 – اللغة حاملة للفكر الإنساني، لكن الفكر الإنساني يمكن أن يكون صادقاً، ويمكن أن يكون كاذباً، وهذا يعني أن توفر الرباط المنطقي، وصحة الشكل اللغوي في النص لا يعني بالضرورة أنه حقيقي، وجمال التركيب اللغوي ومتانته في النص لا يعني بالضرورة أنه صادق.

ومن هنا لا يمكن الاقتصار على إعجاز التنزيل بالقول أنه استعمل مختلف أدوات وأساليب البلاغة والبيان التي عرفها العرب، بل يجب بالإضافة إلى ذلك الإيمان بأن النبأ القرآني صادق وحقيقي. وكل من يعمل في حياته للبرهان على صدقية التنزيل الحكيم في أنبائه وواقعيته في تشريعاته فهو من الصدّيقين.

لقد كان يعنيني كثيراً صدق النبأ في النص القرآني، وواقعية التشريع في آيات الأحكام أكثر مما يعنيني جمال التركيب والصياغة فصدق النبأ الإلهي عندي أهم من تصديق المراجع كائناً من كان مؤلفها.

3 – بالإضافة إلى أن التنزيل الحكيم يحوي المصداقية، أي أنه صادق متطابق مع الواقع ومع القوانين الطبيعية والفطرة الإنسانية، فهو أيضاً يحوي الأهمية وهو خالٍ من العبث ومن الأخبار غير المهمة والمعروفة عند الناس، فالناس لا تحتاج إلى وحي لتعرف، مثلاً، أن الجرة تنكسر إذا وقعت من ارتفاع عال ولا تحتاج إلى وحي لتعرف أن الفيل ذنبه قصير وخرطومه طويل. لكننا إذا قرأنا قوله تعالى { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم، تلك عشرة كاملة} الآية البقرة 196. وسلّمنا بما ورد في التفاسير بشأنها، رأينا الله يعلّم الناس في الآية أن 3 › 7 ¯ 10، وهذا خبر يعرفه كل الناس، عالمهم وجاهلهم، ولا يحتاجون إلى وحي لمعرفته. وهذا غير معقول في ضوء خلو التنزيل من العبث. فإذا حذفنا كلمة (كاملة) من النص، لم يتأثر المعنى الذي ذهب إليه المفسرون وهو أن الله يعلم الناس الجمع والحساب. وهذا أيضاً غير معقول في ضوء خلو التنزيل من الحشوية.

ما هو إذن تفسير الآية الذي يحقق كل الفرضيات ولا يخل بواحدة منها، ويغطي: صدق النبأ القرآني، وخلوه من الحشو، وبعده عن العبث في سوق المعارف المألوفة عند الناس؟

نقول هو التفسير الذي ينتبه إلى وجود أكثر من نظام واحد للعد عند الناس. فهناك النظام العَشّري والنظام السباعي والنظام الاثني عشري والنظام الست عشري، فالعشرة في النظام الاثني عشري مثلاً ناقصة نعبر عنها بالشكل التالي 12/10، أما العشرة في النظام العُشْري فهي عشرة كاملة، وقوله تعالى: {كاملة} في الآية إشارة إلى نوع نظام العد الذي جاءت آية الحج على أساسه.

4 – لا يمكن فهم التنزيل الحكيم، من خلال فهم الشعر الجاهلي ومفرداته، فالمجتمع الجاهلي له أرضيته العلمية وعلاقاته الاجتماعية والجمالية والأخلاقية، التي جاءت مفردات شعره عاكسة لها ومعبرة عنها ومقيدة بها، ونحن لا نجد كلمات أو مفردات عند العرب وقتها، تدل على الجاذبية الأرضية أو على كرويتها، لأنهم لم يعرفوها أصلاً. ولو حصرنا فهم التنزيل الحكيم بها، لما حق لنا أن نقول إن المكتشفات الحديثة العلمية أكدت مصداقية القرآن.

ومن هنا قلنا إن المجتمعات هي التي تشارك في صنع المعاني حسب تطور معارفها، لكن هذه التطورات نفسها محسوبة في التنزيل، بحيث مهما امتدت واتسعت، فسيجد الإنسان أنها منسجمة مع النص القرآني، مصدقة له، ودائرة في فلكه.

5 – التنزيل الحكيم كينونة في ذاته فقط جاء من عند إله هو كينونة في ذاته (موجود في ذاته)، ويظهر هذا جلياً في ثبات النص، وبتعبير آخر ثبات الذكر في صيغته اللغوية المنطوقة. إن النص اللغوي المنطوق للتنزيل هو الشكل الثابت فيه، الذي لا يخضع لا للصيرورة ولا للسيرورة. ولا أحد يملك الإدراك الكلي للتنزيل الحكيم في كلياته وجزئياته، حتى ولو كان نبياً ورسولاً، لأنه يصبح بذلك شريكاً لله في علمه الكلي، وشريكاً لله في كينونته بذاته، تعالى الله عما يصفون. ولكننا نستطيع الإحاطة به تدريجياً من خلال الصيرورة المعرفية النسبية المتحركة، وتصبح الإحاطة كلية يوم تقوم الساعة، أي عند قيام الساعة والبعث والحساب يتم التأويل الكامل والنهائي للقرآن.

إن الإنسان يقرأ التنزيل الحكيم ضمن مستوى معارفه وأدواته المعرفية ومشاكله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وإشكالياته المعرفية، فيجد فيه أشياء لم يجدها غيره، ويفهم منه أشياء لم يفهمها غيره. وهذا يثبت أن التنزيل يحمل صفة الحياة، وانه كينونة في ذاته، وأنه سيرورة وصيرورة لغيره، وهذا ما نعنيه دائماً حين نتحدث عن ثبات النص وحركة المحتوى والجدل بين النص والمحتوى.

من هنا فإن التنزيل الحكيم يحمل دائماً صفة القراءة المعاصرة. فأنت حين تقف كقارئ في نقطة معينة من التاريخ، منطلقاً من نظام معرفي معين، حاملاً إشكاليات اجتماعية ومعرفية معينة، ستفهم من التنزيل ذي النص اللغوي الثابت أموراً، وسيفهم غيرك غيرها مع تغير إحداثياته ومنطلقاته. هنا فقط نستعمل المنطق (قوانين العقل).

6 – إن التنزيل الحكيم هو كلام الله غير المباشر، أما كلمات الله فهي الوجود بفرعيه الكوني والإنساني، وهي القوانين الناظمة لهذا الوجود بفرعيه أيضاً. فمن فهمنا لكلمات الله نفهم كلامه. أي أن مصداقية كلام الله (الرسالات السماوية) لا تظهر إلا في كلماته (الوجود الموضوعي الكوني والإنساني)، وما علينا لنفهم كلامه إلا أن ندرس كلماته في الوجود الكوني والإنساني بسننه وقوانينه. لكن فهمنا لهذه السنن والقوانين يخضع للسيرورة والصيرورة، وعليه نقول إن فهمنا لكلام الله بالتالي فهم متطور غير ثابت، بينما كلام الله ثابت في كينونته كنص.

7 – التنزيل الحكيم هدى للناس ورحمة للعالمين، ومن هنا فهو يحمل الطابع الإنساني لا العروبي، ويجب بالتالي أن نرى مصداقيته رأي العين في كل أنحاء العالم وليس في المجتمع العربي فقط، وعلى مر العصور والدهور وليس في عصر النبوة والصحابة فقط. أي أن التنزيل يحمل الخاصيتين التاليتين:

آ – الوحي لا يناقض العقل (Revelation doesn’t contradict reason).

ب – الوحي لا يناقض الحقيقة (Revelation doesn’t contradict reality).

8 – إن القرآن يؤكد النظرية المادية في المعرفة الإنسانية وهو أن العلم يتبع المعلوم وأن المعلومات تأتي من خارج الإنسان عن طريق الحواس والوحي (الإلهام) وغيرها. أما أن المعلوم يتبع العلم فهو من صفات الله فقط.

9 – إن المعرفة الإنسانية تقوم على مبدأ التقليم (تمييز الأشياء بعضها عن بعض) (Identification) يتبعها التسطير، وهو ضم الأشياء بعضها إلى بعض في نسق وهو ما نطلق عليه التصنيف (Classification). والفؤاد هو الإدراك المشخص بالحواس وهو الذي يعطي المادة الأولية الخام للفكر والعقل.

10 – إن مبدأ الكم والكيف (العدد والإحصاء – القدر والمقدار) هو النافذة التي يطل بها الإنسان على العالم الخارجي. فيبدأ الإنسان بالكيف ثم ينتقل إلى الكم والعكس.

11 – إن عناصر المعرفة الإنسانية بالعالم الموضوعي هو المادة والبعد والموقع والحركة. ومن هذه العناصر الأربعة تنتج الوظيفة والتطور.

12 – إن العالم الموضوعي في التنزيل الحكيم يقوم على جدلية أساسية هي الصراع بين البقاء والهلاك، والنصر دائماً للهلاك. ومن هذه الجدلية نستنتج الجدليات التالية في الطبيعة:

آ – جدلية التناقضات في الشيء الواحد {مخَلّقة وغير مخَلّقة}.

ب – جدلية الأزواج – التأثير والتأثر المتبادل – بين الأشياء {سبحان الذي خلق الأزواج كلها}.

ج – جدلية الأضداد (في ظواهر الأشياء أو في السلوكيات): الليل والنهار – الفجور والتقوى – الهداية والضلال.

13 – إن أساس الحياة الإنسانية هي الحرية وهي القيمة العليا المقدسة وفيها تكمن عبادية الناس لله. وهي الكلمة التي سبقت لأهل الأرض. والعبودية غير مطلوبة من الله ابتداءً. وإن كان هناك عبودية أصلاً فهي لغير الله حتماً.

أسس الفقه الإسلامي المعاصر

1 – التنزيل الحكيم يضم بين دفتيه نبوة محمد (ص) كنبي، ورسالته كرسول. وآياته من هذه الزاوية تضم آيات النبوة التي تشرح نواميس الكون وقوانينه وقوانين التاريخ وأحداث الرسالات والنبوات (القصص) وتحتمل التصديق والتكذيب، وآيات الرسالة التي تشرح الأحكام والأوامر والنواهي وتحتمل الطاعة والمعصية. أما آيات النبوة فهي المتشابهات التي تخضع لثبات النص وحركة المحتوى، ويمكن إعادة قراءتها في ضوء تطور الأرضية المعرفية على مر العصور والدهور.

وأما آيات الرسالة فهي المحكمات التي لا يمكن أن تكون صالحة لكل زمان ومكان إلا إذا كانت حدودية، حنيفية، قادرة على التطابق بمرونة مع متغيرات الزمان والمكان، أي أنها قابلة للاجتهاد وللمطابقة مع الظروف الموضوعية المستجدة في المجتمعات الإنسانية، لذا فلا يكون الاجتهاد إلا في النص، أما خارج النص فافعل ما تشاء.

2 – تتجسد حدودية آيات الأحكام في التنزيل الحكيم بحدود الله. ونميز فيها نوعين: الأول حدود لا يجوز تعديها وتجاوزها إنما يجوز الوقوف عليها، كحدود الإرث في قوله تعالى {تلك حدود الله، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً} النساء 14. والثاني حدود لا يجوز الاقتراب منها ولا الوقوف عليها، كحدود الصوم في قوله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل .. تلك حدود الله فلا تقربوها} البقرة 187.

ونفهم أن الصيام حقلٌ، حد البداية فيه هو تمييز الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وحد النهاية فيه هو الليل. لكن الله تعالى يرشدنا هنا إلى عدم الاقتراب اللصيق بحد البداية وحد النهاية. بل نترك مسافة أمان، قبل الفجر بدقائق وبعد الغروب بدقائق. ومثله حد الزنا، فهو من الحدود التي لا تحتمل الوقوف عليها، لأن الوقوف فوق حد الزنا زنا، ويجب أن نترك مسافة أمان تفرضها أعراف المجتمع وتقاليده.

3 – ليس ثمة ناسخ ومنسوخ بين دفتي المصحف الشريف. فلكل آية حقل، ولكل حكم مجال يعمل فيه. أما مصداقية قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم بأن الله على كل شيء قدير} البقرة 106، فتظهر في النسخ بين الشرائع. إذ هناك محرمات وردت في شريعة موسى، ثم جاء عيسى المسيح وحلّلها، بدلالة قوله تعالى {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} آل عمران 50، وجاءت رسالة محمد (ص) لتنسخ بعض أحكام مما نزل في رسالة موسى، كأحكام الزنا واللواط ولتستبدلها بأحكام أخرى، ولتضيف أحكاماً لم تنزل من قبل، كالسحاق والوصية والإرث.

أما النسخ بالمعنى والمفهوم الشائع اليوم، الذي يصل بعدد الآيات المنسوخة إلى عدة مئات، والذي يحول الجهاد إلى غزو، ويستبدل السيف بالموعظة الحسنة، فهو ليس عندنا بشيء. فنحن نرى النسخ لا يقل أهمية أبداً عن تنزيل الآية والحكم أول مرة، ونرى أن طريقة التوثيق والبينة التي اعتمدتها لجان جمع آيات التنزيل أيام أبي بكر وعمر وعثمان، هي ذاتها التي كان يجب اتباعها في إقرار وتحديد المنسوخ من كتاب الله.

إضافة إلى أننا ننطلق من أن صاحب التنزيل هو وحده صاحب الحق بالنسخ، وناقل التنزيل هو وحده المسؤول عن إبلاغه للناس، في الوقت الذي لا نجد فيه خبراً ثابتاً يؤيد النسخ، اللهم إلا بعض المتناثرات هنا وهناك، التي لا تليق بموضوع هام أساسي كالنسخ مما يدل على انعدام المسؤولية عند من قال به. وقد ورد الاتكاء على النسخ لإزالة الالتباس في الفهم الإنساني في مرحلة تاريخية معينة.

4 – علينا أن نميّز بين النص التاريخي وتاريخية النص. فهناك القصص القرآني الذي يعتبر نصاً تاريخياً والنص التاريخي حسب التنزيل يحمل صفة العبرة ولا يحمل أي تشريع. والأنباء كلّها بما فيها أنباء الرسل نصوص تاريخية وكذلك الآيات الواردة حول موقعة بدر وأُحد والخندق والأحزاب وتبوك وفتح مكة عبارة عن نصوص تاريخية بما فيها سورة التوبة ولا يؤخذ منها أي أحكام شرعية، ولا علاقة لها بالرسالة، ولها مناسبات نزول لأنها نص تاريخي.

أما آيات الرسالة مثل آيات الإرث والشعائر فهي نص رسالة للطاعة، وفهم هذه النصوص هو الذي يحمل تاريخية النص. ففي القصص النص تاريخي. وفي الفهم الإنساني لآيات الرسالة – كالإرث مثلاً – هناك تاريخية النص.

5 – الاجتهاد يكون في النص المقدس حصراً وصحة الاجتهاد تحدده المصداقية بين الاجتهاد والواقع دون إيقاع الناس في الحرج ودون الحد من حريتهم، فالاجتهاد صحيح ومقبول بمقدار ما يتجاوب مع الواقع الموضوعي، وبعبارة أخرى، بمقدار فهم قارئ النص المجتهد للواقع الموضوعي في لحظة القراءة التاريخية. ومعيار الفهم والمصداقية هذا هو الذي يحدد صحة القراءة أو خطأها، ودرجتها من الصواب والخطأ. وهذا أيضاً ما يحدد نجاح أو فشل أي برلمان في تشريعاته فكلما كانت التشريعات متطابقة ومتجاوبة مع الواقع الموضوعي كان البرلمان ناجحاً في تشريعاته انطلاقاً من فهمه الصحيح للواقع المعاش. وبهذا نفهم أن صاحب الحق الوحيد في إظهار مصداقية كلام الله هو الخط الكامل للسيرورة والصيرورة الإنسانية كلها، منذ آدم والى أن تقوم الساعة. (آل عمران 137 – العنكبوت 20). وليس على لسان صحابي أو تابعي أو فقيه.

6 – الإجماع هو إجماع الناس الأحياء على تشريع (أمر، نهي، سماح، منع) ليس له علاقة بالمحرمات. كالتدخين الذي يمكن منعه لا تحريمه بعد ثبوت أضراره، عن طريق الاستفتاء والمجالس الشعبية والبرلمانات. وكالتعددية الزوجية التي يمكن منعها لا تحريمها وذلك عن طريق الاستفتاء أو البرلمان.

7 – القياس هو ما يقوم على البراهين المادية والبينات العلمية التي يقدمها علماء الطبيعيات والاجتماع والإحصاء والاقتصاد. فهؤلاء هم المستشارون الحقيقيون للسلطة التشريعية والسياسية، وليس علماء الدين ومؤسسات الإفتاء، وبهذه البينات يتم السماح والمنع لا التحليل والتحريم.

8 – إن توضيح الفرق بين التحريم والنهي والمنع وبين التحليل والأمر والسماح، ومعرفة الدور الإلهي ودور السلطة ودور الناس في كل منها، في ضوء أن المحرمات لا تخضع للاجتهاد ولا للإجماع ولا للقياس، والاستثناء منها عيني، وهو في آية تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، ولا يمكن إسقاطه على بقية المحرمات تحت شعار الضرورات تبيح المحظورات، وهذا يساعد كثيراً في إخراج الخطاب الإسلامي المعاصر، من حيز المحلية إلى حيز العالمية كرحمة للعالمين. ولا يحق لأي كان (مفتي – مجلس الإفتاء – برلمان – استفتاء) أن يزيد عدد المحرمات الواردة في التنزيل الحكيم. ومن يقبل ذلك ينطبق عليه قوله تعالى {وأن تقولوا على الله مالا تعلمون}.

9 – وإن فهم الدور النبوي في عصره، بأنه اجتهاد في حقل الحلال تقييداً وإطلاقاً من أجل بناء المجتمع والدولة تاريخياً في ضوء متغيرات الزمان والمكان (التاريخ والجغرافيا)، هو الطريق الوحيد لتطبيق ما قاله علماء الأصول بأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، الأمر الذي نراه أساسياً لخروج الخطاب الإسلامي عند المؤمنين من إطار المكان (شبه جزيرة العرب)، ومن إطار الزمان (القرن السابع الميلادي) إلى العالم بأكمله وإلى الناس جميعاً في كل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة.

10 – السنة النبوية هي الاجتهاد الأول، والخيار الأول للإطار التطبيقي الذي اختاره محمّد (ص) لتجسيد الفكر المطلق الموحى، لكنه ليس الأخير وليس الوحيد، أي هي الأسلمة الأولى للواقع المعاش في شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي. وفيما يتعلق بتأسيس الدولة فهي قفزة زمنية حدد فيها أسس المستقبل لأنه أسسها من مقام النبوة لا من مقام الرسالة.

لقد تعامل الرسول مع التنزيل الحكيم من خلال السيرورة والصيرورة التاريخية البحتة للعرب في شبه جزيرتهم، أي في حدود التاريخ والجغرافيا، ضمن مستواهم الاجتماعي والمعرفي، وضمن الإشكاليات المطروحة أمامه، بحيث أسس دولة مركزية، وحقق قفزة نوعية، أي أنه كان المرآة الصادقة الأولى لتفاعل التنزيل ككينونة في ذاته مع حقبة تاريخية زمنية معينة، ومجتمع معين قائم على أرض الواقع الإنساني الموضوعي المباشر. ومن هنا نصل إلى القول إن الرسول (ص) لم يكن فيلسوفاً ولا رجل فكر، بل كان رجل دعوة جاءه الفكر الموحى من المطلق وطبقه في عالم نسبي محدود زمانياً ومكانياً. من هنا نقول بأن الرسول الأعظم (ص) كان المجتهد الأول الذي صاغ للفكر المطلق الموحى إليه قالباً موضوعياً من خلال سيرورة وصيرورة تاريخية تحكم وجوده ووجود مجتمعه.

لقد كان تطبيق الرسول (ص) لآيات الأحكام على الواقع المعاش هو تطبيق نسبي تاريخي وبهذا يبطل القياس ويبقى الاجتهاد في آيات الأحكام هو الأساس، والأساس هو العقل ومصداقية الاجتهاد في الواقع الموضوعي، ضمن النظام المعرفي المتبع والإشكالية الموضوعية. ومفهوم القياس المطروح في الفقه ليس له معنى ويصبح في تقديم الأدلة والبينات على انطباق (مصداقية) الاجتهاد في النص مع الواقع الموضوعي المباشر (الإشكالية) ضمن رابط بينهما هو النظام المعرفي المتبع.

11 – السنة النبوية شيء، والسنّة الرسولية شيء آخر. فالسنّة الرسولية هي التي وجب إتباعها في حياة الرسول (ص) وبعد مماته وهو ما يميّز الرسالة المحمدية عن غيرها، وهي الشعائر، وهي ثابتة شكلاً ومحتوى على مرّ الزمان، ووصلتنا عن طريق التواتر الفعلي، ولا علاقة لها بكتب الحديث.

أما أقوال النبي (ص) حول المجتمع والسياسة والتنظيم والعادات واللباس والأخلاقيات التي وردت تحت عنوان الحكمة، فهو سنة نبوية ظرفية غير ملزمة ولا تحمل الطابع الأبدي، ويمكن الاستئناس بها ولكنها لا تشكل أحكاماً شرعية.

وكل أقوال النبي (ص) يؤخذ بها إذا كانت مقبولة إنسانياً، وغير ذلك فهي محلية. وعلى هذا فإن ضرر ما يسمى كتب الحديث أكبر بكثير من نفعها – هذا إن كان فيها نفع أصلاً – أي أن ما يقال عنها السنة النبوية هي جزء من الأحكام المرسلة، وهي غير أبدية وغير ملزمة صحّت أم لم تصحّ. وبهذا يصبح علم الجرح والتعديل وطبقات الرجال لا معنى له وهو عبء علينا.

12 – لقد أنزل الله سبحانه الذكر بصيغته المنطوقة، ليبين النبي للناس كرسول ما تم نقله إليه تنزيلاً (المائدة 67). والبيان هنا ليس التفصيل كما فهمه البعض واسترسل البعض الآخر حتى وصل إلى القول بأن البيان النبوي، إضافة إلى كونه تفصيلاً لمجمل، فهو تخصيص لعام وتقييد لمطلق. ثم تابع بعدهم من وصل إلى القول بحاكمية الخبر النبوي على النص القرآني ونسخه له، انتهاء بأخطر نتيجة يصل إليها عقل مؤمن، هي أن القرآن أحوج إلى السنة من حاجة السنة إلى القرآن، سبحانه وتعالى عمّا يصفون.

إننا نرى أن البيان هو الإعلان وعدم الإخفاء (آل عمران 187 – المائدة 15 – البقرة 187) ودور النبي كرسول في بيان التنزيل الحكيم هو بإظهاره وعدم كتمانه، وفي إعلانه وإذاعته على الناس. فالنبي ليست له أية علاقة بالصياغة اللفظية للتنزيل الحكيم كذكر (الإنزال) بل تنزّل عليه مصاغاً جاهزاً (التنزيل)، كما لا علاقة له بمضمون ما تنزّل عليه من أوامر ونواه.

نحن إذن أمام نص إلهي موحى، صاغه الله تعالى بشكله المنطوق، فتنزلت هذه الصياغة على النبي، وتحددت مهمته كرسول في إعلانها للناس ببيانها وعدم إخفائها كلياً أو جزئياً وفي تبليغها لهم بلاغاً مبيناً، أي معلناً مذاعاً بشكل واضح وصريح دون زيادة أو نقصان وبيان الشعائر وتبليغ أحكام الرسالة، وقد قام محمّد (ص) بمهمته كنبي، وبمهمته كرسول على أكمل وأتم وجه. وأن أطروحة أن النبي (ص) شرح القرآن هي أطروحة غير صحيحة. فإذا نظرنا إلى سُوَرٍ طوال في التنزيل كسورة الأنعام وسورة الأعراف وهود ويوسف ويونس، لنرى ماذا قال النبي (ص) في شرحها، لم نجد شيئاً أو بعض جمل إن وجدت. إن عدم شرح النبي (ص) للقرآن، وللشعائر في الرسالة، يؤكد أنه نبي، ويؤكد أنه الخاتم، وأنه ليس مؤلف التنزيل الحكيم.

13 – إن آيات التشريع ذات الكينونة المطلقة (وهي ما نسميه الشريعة الإسلامية) شيء والفقه الإسلامي الذي يمثل تفاعل الناس وفهمهم للتشريع في لحظة زمانية تاريخية معينة شيء آخر تماماً. إذ أن الشريعة الإسلامية إلهية، بينما الفقه الإسلامي إنساني تاريخي. وبدون وعي هذا الفرق وأخذه بعين الاعتبار، لا أمل لنا بالخروج من المأزق بأن الإسلام إلهي والفقه الإسلامي والتفسير إنساني وهذا هو الفرق بين الإسلام والمسلمين. فالإسلام هو التنزيل الحكيم، والمسلمون هم تفاعل تاريخي اجتماعي إنساني مع التنزيل، أي التشخيص الواقعي التاريخي للتنزيل، وهناك فرق بينهما في الماضي والحاضر والمستقبل.

فإذا رأينا أن الفقه الإسلامي الذي بين أيدينا يمثل القراءة الأولى والفهم التطبيقي الأول (التشخيص الأول) للنصوص والأحكام السماوية، فلا يبقى لنا سوى أن نقوم بالقراءة الثانية، ونحن في بدايات القرن الحادي والعشرين، في ضوء إشكاليتنا ونظمنا المعرفية المعاصرة واختراق أصول الفقه التي لا يمكن أن يتم التطور والتقدم إلا باختراقها. ويجب أن يقرأه من يأتي بعدنا قراءة ثالثة ورابعة.. إلى أن تقوم الساعة.

14 – إذا كان علماء الأصول قد قرروا نظرياً مبدأ (تغير الأحكام بتغير الأزمان) فإننا نقرر نظرياً، وعملياً بعونه تعالى، أن الأحكام تتغير أيضاً بتغير النظام المعرفي، ولا عجب أبداً إن انتهينا في قراءتنا المعاصرة لآيات الإرث في ضوء الرياضيات الحديثة إلى أحكام ونتائج تختلف عن مثيلاتها عند أهل القرن الثامن الميلادي. والمسألة أولاً وأخيراً ليست مسألة ذكاء وغباء، ولا مسألة تقوى وعدم تقوى، إنها ببساطة مسألة إشكالية نعيشها ونظام معرفي نقف عليه، سمحا لنا أن نرى ما لم يستطع السابقون رؤيته. ويجب أن يرى من يأتي بعدنا، بأرضيتهم المعرفية وإشكاليتهم المتطورة عنّا، ما لم نستطع أن نراه في إشكاليتنا ونظامنا المعرفي الحالي.

15 – بما أن التشريع الإسلامي هو تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله، وبالتالي فهو حنيفي مما يسمح بظهور التعددية والاختلاف في الرأي في القضية الواحدة. كما يؤسس لظاهرة الانتخابات والمجالس التشريعية وإلغاء الفتوى ومجالس الإفتاء وإبقائها فقط على الشعائر لا غير وبدون أي تحريمات.

 

اترك تعليقاً