الفصل الثالث: الفقه الإسلامي

الفرع الأول: أزمة الفقه الإسلامي

  • {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم 30).
  • {فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون} (الروم 43).
  • {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} (آل عمران 67).
  • {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} (آل عمران 68).
  • {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} (النحل 120).
  • {ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (النحل 123).
  • {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161).

إن الإسلام دينا لفطرة وهو دين الحنيفية المتغيرة حسب الزمان والمكان وحسب الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وهو متطابق تماما مع فطرة الناس التي تحمل تشابها كبيرا مع قوانين الطبيعة. لذا ربط قوله: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} (الروم 30). أي طبائع الناس بقانون الطبيعة بقوله: {لا تبديل لخلق الله}. ثم علق في نهاية الآية بأن هذا الدين هو {الدين القيم}. أي صاحب السيطرة والقوة وبالتالي فله القيومية. وقد أكد بأن معظم الناس لا تعرف هذه الحقيقة عن الإسلام بأنه دين منسجم مع طبائعها ومع قوانين الطبيعة معا وهنا تكمن أزمة الفقه الإسلامي.

لنضرب الآن أمثلة من الطبيعة وكيف ربط طبائع الناس بها:

  1. إن أعلى نقطة على سطح الأرض هي قمة إيفرست في جبال هيمالايا، وأخفض نقطة على سطح الأرض هي ساحل البحر الميت في وادي الأردن. فإذا نظرنا إلى المكان الذي يعيش فيه الناس رأينا أنه محصور بين هاتين النقطتين. وبين هاتين النقطتين يقع سطح الكرة الأرضية ببرها وبحرها. ونرى عددا قليلا من الناس يعيش على ساحل البحر الميت، ونرى بعض المغامرين من الناس يصلون إلى قمة إيفرست.
  2. إن أطول نهار في السنة في مدينة دمشق هو 14 ساعة و26 دقيقة، وأقصر نهار في السنة هو 9 ساعات و50 دقيقة. فإذا سأل سائل: ما هو طول النهار في بقية أيام السنة؟ فالجواب هو: بينهما.
  3. إن العين لا تبصر إلا الألوان المحصورة بين الطيف الضوئي مع مركباته فهي لا تبصر تحت الحمراء ولا فوق البنفسجية.
  4. إن الأذن لا تسمع إلا الذبذبات الصوتية المحصورة بين 20-20000 هرتز. وكذلك حركة اليدين والأرجل ونبضات القلب والشهيق والزفير ودرجات الحرارة لجسم الإنسان.
  5. إن النسبة الطبيعية للسكر في الدم تتراوح بين 70ملغ/ل حداً أدنى و120ملغ/ل حدا أعلى. فإذا وصل السكر في الدم إلى نسبة 70 فهو طبيعي. ولكن على الحد الأدنى تماما. ويحتاجإلى مراقبة. وإذا وصل السكر في الدم إلى نسبة 120 فهو طبيعي ولكن على الحد الأعلى تماما ويحتاج إلى مراقبة. أما النسبة الطبيعية للسكر في الدم عند ملايين الناس فهي بين الحدين. وكذلك نسبة الكولسترول والشحوم وبقية العناصر المكونة للدم.
  6. إن درجات لحرارة في مدينة ما تنحصر دائما بين حدين أدنى وأعلى. فمثلا نقول إن أدنى حرارة في مدينة ما استمرت لساعة واحدة هي الصفر وأعلى درجة حرارة استمرت لساعة واحدة هي 40 أو نقول إن أدنى درجة حرارة في مدينة ما استمرت لمدة 24 ساعة هي 5 درجات مئوية فوق الصفر، وأعلى درجة استمرت لمدة 24 ساعة هي 38 درجة. أما بقية درجات الحرارة على مدار السنة فهي بينهما. وقد تتغير “تحنف” في اليوم الواحد أربع أو خمس مرات ولكنها تبقى بين الحدين. وكذلك نسبة هطول الأمطار وسرعة الرياح ودرجات الرطوبة وارتفاع الأمواج في البحر.
  7. إن الحد الأدنى للسوائل التي يجب أن يتناولها الإنسان يجب أن لا يقل عن كمية معينة في النهار الواحد. أما الحد الأعلى فهو مفتوح حسب درجات الحرارة وحسب حالة الإنسان في حالة عمل أو راحة.
  8. إن الحد الأدنى لسرعة جسم منطلق من الأرض هو حوالي 7كم/ثا وذلك لكي ينفذ من الجاذبية الأرضية. أما الحد الأعلى فهو مفتوح. ومن الناحية النظرية مفتوح حتى سرعة الضوء وفي هذه الحالة يتحول الجسم إلى ضوء.
  9. إن الحد الأعلى للسرعة في الوجود المعروف حتى الآن هو سرعة الضوء فلا يوجد سرعة أعلى منها، ولكن يوجد سرعة أخفض منها. فإذا سأل سائل إذا كان الجسم ساكنا فسرعة الصفر هي الحد الأدنى. أقول: إن السرعة لا تطلق على جسم ساكن فمتى نطلق على جسم ما مصطلح السرعة فيجب أن يكون متحركا.
  10. إن الحد الأدنى اللازم لوجود حياة في مكان ما هو وجود الماء “الرطوبة” ووجود الأوكسجين.
  11. إن الحد الأدنى لعدد المدارات حول النواة في كل العناصر هو مدار واحد، والحد الأعلى هو سبع مدارات. فكل العناصر في لطبيعة مداراتها بين الواحد والسبعة حيث أن بعض العناصر لها مدار واحد كالهيدروجين، وأخرى لها سبعة مدارات.
  12. إن الحد الأدنى لعدد الحواس التي يجب أن يمتلكها الإنسان لكي يستوعب العالم الخارجي هو السمع والبصر.
  13. إن الحد الأعلى للعلاقة العضوية بين الذكر والأنثى هو الجماع الجنسي.

هذه الحقيقة أول من اكتشفها وسلم بها في التاريخ الإنساني هو إبراهيم عليه السلام. وبهذا كانت ميزته على الأنبياء والمرسلين. أي أنه اكتشف الطبيعة الحنيفية “المتغيرة” وسلم بها وبذلك اكتشف أن كل شيء ما عدا الله فهو حنيف. وأن تثبيت أية ظاهرة في الوجود هو شرك بالله، أي أشرك هذه الظاهرة مع الله في بقائها وثباتها. لذا فقد تم ربط الحنيفية بالتوحيد حيث أتبع مصطلح {حنيفا}. بقوله: {وما كان من المشركين} (الأنعام 161).

هذا فيما يتعلق بظواهر الطبيعة الحنيفية حيث أن الإيمان بحنيفية الطبيعة وبالحدود الموجودة فيها والحركة في هذه الحدود فيه توحيد الربوبية ومن هنا كان إبراهيم {أمة قانتا لله حنيفا} (النحل 120). وهو الذي سمانا المسلمين والحنفاء. فإذا أخذنا ظواهر الطبيعة الحنيفية وأسقطناها على سلوك الناس، رأينا أن سلوك الناس يكون ضمن حدود دنيا أو عليا أو الاثنين معا. فإذا جاء للناس دين يتطابق مع هذه الفطرة فهو يتناسب معهم ويعيش معهم، وهذا الدين هو الدين المبني على الحدود في التشريع لا على تشريعات عينية. وهذا هو الدين الإسلامي الذي له المنعة والقوة والقيومية ويتطابق مع طبائع أهل الأرض، وأكثريتهم لا تعلم ذلك.

ولكي يبين أن إبراهيم كان أول الحنفاء حيث اكتشف الحنيفية في الوجود قبل أن يأتيه الوحي قال: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} (الأنبياء 51). ولكي يبين أن الديانتين اليهودية والنصرانية لا تحمل الطابع الحنيف، وأن الحنيفية انتقلت من إبراهيم كنظرة إلى الكون إلى محمد صلى الله عليه وسلم كدين عالمي شمولي بقوله تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} (آل عمران 67).

وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة أن الديانة اليهودية كانت ديانة عينية، حيث أن الناس كانوا لا يستوعبون المفهوم الشمولي الحدودي في الآيات “67-71” من سورة البقرة حيث أمر الله بني إسرائيل بذبح بقرة، أية بقرة، فأرادوها هم بقرة عينية، أي أرادوا أن يدلهم الله على بقرة معينة من بين كل جنس البقر الموجود، وكذلك آية العقوبات {النفس بالنفس والعين بالعين…الآية} (المائدة 45).

انطلاقا من هذا المفهوم للدين الإسلامي الحنيف نفهم تماما الأمور التالية:

  1. إن رسالة الإسلام رسالة عالمية وليست للعرب فقط أو للقرن السابع الميلادي {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو} (الأعراف 158). فهو دين واحد من إله واحد مالك للسموات والأرض لكل من في السموات والأرض.
  2. نفهم لماذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي رحمة للعالمين {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء 107).
  3. نفهم لماذا كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي خاتم الرسالات بالإضافة إلى أن القرآن كان خاتم النبوات، حيث أن رسالته تعني أن الإنسان ابتعد عن المملكة الحيوانية وهو مدين لله في هذا البعد وقد وجهه الله في المعرفة بالنبوات والتشريع بالرسالات حتى وصل عند محمد صلى الله عليه وسلم إلى درجة النضوج في المعرفة والتشريع بحيث أصبح قادرا أن يعتمد على نفسه في معرفة الوجود وفي التشريع “الإنسان المعاصر”.

انطلاقا من هذا نتوجه بالسؤال التالي: هل الإسلام جاء ليحيا الناس به أم ليحيوا من أجله؟ فإذا جاء الإسلام ليحيا الناس من أجله فهذا يعني أنه لا يتناسب مع فطرتهم وفرض عليهم فرضا وسيأتي يوم يعافونه ويهربون منه. وإذا جاء ليحيوا به فهو متناسب معهم فيكل زمان ومكان.

من هنا يجب أن ننطلق في فهم أزمة الفقه الإسلامي الموروث والتفسير، والذي أصبح يشكل عبئا علينا حيث أصبح غير متناسب مع معلوماتنا وظروفنا في القرن العشرين حيث أن الأزمة تنطلق من خطأ في المنهج، لا من ضعف في اللغة العربية أو قلة في التقوى:

1 – أما بالنسبة للتفسير فقد ظن المفسرون أن القرآن على غرار التوراة فكلاهما فيه كونيات وقصص. ففسروا القرآن بالتوراة غير آخذين بعين الاعتبار خاصية التشابه. وقد ثبت هذا التفسير إلى يومنا هذا.

2 – وأما بالنسبة لأم الكتاب “الرسالة” فقد ظن الفقهاء أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم هي شريعة عينية على غرار شريعة موسى، لا شريعة حدودية. وقد وقعوا في خطأ أن آيات أم الكتاب هي نص، ولا اجتهاد في النص. فوقفوا على الآية أي على الحد، لا عند الحد. علما بأنه إذا أراد فريقا كرة قدم أن يلعبا مباراة بكرة القدم فعليهما أن يلعبا ضمن حدود الملعب لا عند حدوده. مثال على ذلك آية الإرث، حيث وقفوا على الآية تماما أي على الحدود ولم يتحركوا ضمن الحدود أبدا. وأننا لا نلومهم على ذلك لأن مفهوم الحدود “الرياضيات” والتحليل الرياضي وضعه إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر.

وهكذا نفهم لماذا سميت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأم الكتاب بينما سميت رسالة موسى وعيسى بالكتاب لأنه يمكن استنباط ملايين الكتب في التشريع من أم التشريع، ومعظم التشريعات المعاصرة لأهل الأرض تدخل ضمن أم الكتاب.

3 – الفهم الخاطئ للسنة النبوية على أنها عين الحديث، وإنما السنة النبوية هي منهج في التعامل مع الكتاب طبقا للظروف الموضوعية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم وهو بهذا كان الأسوة الحسنة لنا وكذلك سنة الحدود والأخلاق والتي تشكل الطاعة المتصلة “وأطيعوا الله والرسول”.

إن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته هما الخاتم، ولكل الناس ولكل زمان ومكان. فكونهما الخاتم فهذا يعني بالضرورة أن الإنسانية ببعثته صلى الله عليه وسلم نضجت لكي تفهم وتتعامل مع قوانين الوجود واستنباط هذه القوانين من القرآن أو من خارجه لوحدها، ونضجت أيضا لكي تشرع لوحدها ضمن حدود الله. وفي هذا اكتملت خلافة الإنسان لله في الأرض في ربوبيته في السيطرة على الطبيعة. وفي ألوهيته في قدرته الذاتية على التشريع. وبهذا قال للنبي صلى الله عليه وسلم فقط {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة 3). والإنسان كلما تقدم في سلم الحضارة زاد فهمه للحدود. وكلما بعد عن الحضارة زاد جهله بالحدود لذا قال تعالى: {الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر الا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (التوبة 97).

وكل الثورات التي ظهرت في العالم وتخلصت من شريعة موسى وعيسى وقعت في أحضان الإسلام بدرجات متفاوتة دون أن تدري. لذا فإننا نضع تعريفا معاصرا وأصيلا للتشريع الإسلامي كالتالي:

التشريع الإسلامي: هو تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله. حيث أنه في بعض الحالات يمكن أن يقف هذا التشريع على الحدود. وفي معظم الحالات ضمن الحدود، لذا فهو تشريع حنيفي “متطور” يتناسب مع رغبات الناس ودرجات تطورهم التاريخي “الاجتماعي والاقتصادي والسياسي” ويقر بأعراف الناس. وإن تجاوز حدود الله لا يجوز أن يخضع للتجربة من قبل الناس ليتأكدوا من صلاحيته، حيث أن نتيجة هذه التجربة ستكون الخيبة والفشل، لأن الله من على الناس وأعطاهم الحدود التي يجب أن يعملوا ضمنها لمصلحتهم الخاصة وذكر أن تجاوز حدود الله فيه ظلم كبير {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} (الطلاق 1). وفيما يتعلق بالعقوبات فيجب على الإنسان أن يسعى جاهدا أن لا يقف على الحد إلا في الحالات البينة تماما “ادرؤوا الحدود بالشبهات” وفي الحالات الاستثنائية.

وقد أدرج الله سبحانه وتعالى القتل والفواحش ضمن الحدود وضمن الوصايا لأن الإنسان يجب أن يمتنع عن القتل وعن الفواحش من وازع أخلاقي ذاتي أولاً، ومن وازع قانوني سلطوي ثانياً.

وعلى هذا المبدأ فلنناقش مبادئ التشريع الإسلامي المدونة وهي الكتاب والسنة والقياس والإجماع. ولنحدد مفهومنا لها:

1 – الكتاب:

في آيات أم الكتاب توجد الحدود، والعبادات جزء منها وكذلك الوصايا والتعليمات والآيات المرحلية، فعلينا أن نفرق بينها ونفرز آيات الحدود على حدة لأنها أساس التشريع، والعبادات أساس التقوى الفردية، والوصايا أساس الأخلاق “التقوى الاجتماعية”، والتعليمات “يا أيها النبي” والآيات المرحلية لأن هذه الأقسام تعلمنا التشريع. وآيات الحدود هي آيات أساس التشريع وليست عين التشريع، حيث يجب الوقوف عندها لا عليها ويمكن الوقوف عليها في بعض الحالات. لذا فالقول بأن لا مجال للاجتهاد فيما ورد فيه نص بالنسبة للحدود قول لا يصح. وبالنسبة للأشياء التي لم ترد في حدود الله علينا وضع حدود بأنفسنا وهذه الحدود بحد ذاتها متغيرة مثل ضرائب الدخل.

2 – السنة:

لها نوعان: سنة الحدود والوصايا وهي طاعة متصلة. أما الباقي فهو ضمن الطاعة المنفصلة أي طاعة الرسول في حياته. وسنة الني صلى الله عليه وسلم هي منهج في الحركة بين الحدود أو الوقوف عليها أو وضع حدود مرحلية في أمور لم ترد في الكتاب وهو بهذا كان الأسوة السحنة ويجب علينا أن نقلده في الاجتهاد لأنه فتح لنا الباب بنفسه.

3 – القياس:

إن قياس الشاهد على الغائب هو قياس باطل ومجحف. فلا يصح أن نقيس أي مجتمع معاصر على المجتمع الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فإننا نقع في الوهم. أما القياس الحقيقي فهو قياس الشاهد على الشاهد ضمن الحدود. أما الشاهد الأول فهو البينات المادية الموضعية، والشاهد الثاني هو الناس الأحياء الذين سيقاس من أجلهم. مثال: منع التدخين، فالشاهد الأول هو المعلومات الطبية والإحصائية حول التدخين والشاهد الثاني هو الناس الذين سيطبق عليهم قانون منع التدخين. وعلينا أن نعلم أن الأحداث الإنسانية ولكنها لا تتطابق أبداً.

4 – الإجماع:

إن الإجماع في المفهوم المطروح للكتاب والسنة والقياس يعطينا مفهوم الإجماع الحقيقي. وهو إجماع أكثرية الناس على قبول التشريع المقترح بشأنهم، وهم سيلتزمون بهذا الإجماع بتطبيق هذا التشريع، لذا فإن المجالس التشريعية المنتخبة والمنابر التشريعية الحرة وحرية التعبير عن الرأي هي جزء لا يتجزأ من النظام السياسي في الإسلام وذلك حتى يتحقق مفهوم الإجماع وهذا هو المفهوم الحقيقي للديموقراطية التشريعية وحرية التعبير عن الرأي ضمن الحدود.

إن المفهوم الموروث بأن الإجماع هو ما أجمع عليه السلف أو جمهور الفقهاء هو مفهوم وهمي. فقد أجمع هؤلاء العلماء على أمور تخص الناس في حياتهم وضمن مشاكلهم الخاصة بها وليس لنا علاقة بهم. ونرى أن المذاهب الفقهية الموروثة إذا كان فيها أمور تناسبنا حالياً أخذناها بغض النظر عن مؤلفها، وإذا وجدناها لا تتناسب مع ظروفنا تركناها دون حرج ويمكن الاعتماد على الفقهاء في الأمور المتعلقة في فقه العبادات مع ترك العنت والتزمت.

5 – التعريف بالجريمة حسب الزمان والمكان:

يجب على المشرع الإسلامي تعريف الجرائم التي تتطلب تطبيق حدود الله “الحد الأعلى” ووضع توصيف واضح لها. وهذا التعريف والتوصيف يتغير من مكان لآخر ومن زمان لآخر. ويمكن في بعض الحالات إلغاؤه والاكتفاء لعقوبات الأدنى ويمكن في بعض الحالات الاستثنائية التأكيد عليه وتوسيع مجاله. وبهذا نكون قد اتبعنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الحدود. ويجب أخذ إجماع الأكثرية على هذا التعريف. وفي هذه الحالة يمكن أن تقع ألف حادثة سرقة وتقطع يد واحدة، والبقية يأخذون عقوبات أخف من ذلك قد تصل حتى الإعفاء. وكذلك القتل فيمكن أن تقع مائة حادثة قتل ويعدم شخص واحد والباقي يسجن أو يعاقب بعقوبة أخف من القتل.

ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في التشريع الإسلامي المعاصر؟

1 – فهم اللسان العربي على أنه خال من المترادفات، وأن ي نص لغوي من الكتاب أو من خارج الكتاب لا يفهم إلا على نحو يقتضيه العقل.

2 – استيعاب الأرضية العلمية للعصر الذي يعيش فيه المشرعون.

3 – استيعاب القوانين الاقتصادية والاجتماعية للعصر الذي يعيش فيه.

4 – اعتبار علماء الطبيعة بكل فروعها “هندسة-طب-فلك-فيزياء-كيمياء…الخ” هم الساعد الأيمن للمشرع.

5 – الاعتماد كليا قبل إصدار أي حكم بقياس شاهد على شاهد على توفر البينات المادية. لذا فإن علماء الإحصاء بالذات هم شركاء المشرعين الذين لا غنى للمشرع عنهم.

6 – إذا تغير أحد الشواهد –وهنا هي الظروف الموضوعية- فيعاد النظر بالأحكام.

7 – اعتبار أن قاعدة “إن صح الحديث فهو مذهبي” ليست صحيحة دائما لأن صحة الحديث لا تعني أنه مطلق.

8 – عدم التقيد بأي مذهب فقهي تاريخي مهما كان نوعه.

9 – اعتبار الأعراف التي هي بنية فوقية لبنية تحتية هي العلاقات الاقتصادية والإنتاجية والبيئة هي موجه التشريع.

10 – عدم النسيان مطلقا أن أساس التشريع الإسلامي والحياة الإنسانية هو الحرية والإباحة.

11 – يجب عدم نسيان أن الإسلام دين حنيف، فأي تشريع يعرقل مسيرة التقدم في المجتمع والعدالة النسبية، فعلينا أن نحنف عنه “نميل عنه” دون الخروج عن الحدود.

12 – يجب على المشرعين المعاصرين تدقيق مبدأين فقهيين شائعين وهما:

أ- باب سد الذرائع:

لقد جرى تحت هذا الباب تحريم كثير من الحلال فنحن إذا أخذنا الإسقاطات السياسية لهذا الباب فينتج عنها إعلان حالة الطوارئ والأحكام العرفية.

فحالة الطوارئ والأحكام العرفية تطبق عندما تخاف الدولة من أمور قد تحدث، لا حدثت فعلا وتحتاط لهذه الأمور سلفا. هذا الباب يعتبر من أهم أبواب الفقه الإسلامي التي يجب تدقيقها وإعادة النظر فيها.

وقد يقول البعض إن هناك طبا وقائيا، أفلا يمكن أن يكون هناك تشريع وقائي؟ الجواب: إن هذا القياس هو قياس خاطئ للأسباب التالية:

أ‌ – لم يظهر الطب الوقائي إلا بعد بحث علمي وتدقيق بأن عدم تعقيم الأدوات الجراحية يسبب تلوث الجرح، وأن لقاح الأطفال ضد الجدري والسعال الديكي والدفتريا هو مانع فعلا لا فرضا. وذلك بعد آلاف التجارب. أي أن الطب الوقائي مبني على بينات مادية موضوعية وصل إليها المشرع عن طريق الدليل العملي لا النظري.

ب‌ – ومع ذلك فإن المشرع لم يضع ثوابا وعقابا لمن لا يلقح أولاده أي أن الطب الوقائي لم يساهم بحجز الحريات الشخصية إلا من باب معرفي فقط لا من باب أخلاقي ولا من باب جمالي ولا من باب الحلال والحرام.

أما باب سد الذرائع من الناحية الفقهية فلا يمكن أن يستعمل إلا بعد تقديم الدلائل المادية البرهانية. فلا يحق للمشرع أبدا أن يقول “إذا خشي كذا وكذا فعليكم بكذا وكذا” هذا ليس تشريعا. فالمشرع يقول لقد حصل فعلا كذا وكذا ويقدم الإحصائيات والنتائج المادية التي حصلت فعلا، ويقدم الحل التشريعي.

لذا فعلم الإحصاء هو الشريك المباشر للقانون حيث لا يمكن للتشريع بدونه أن يكون فعالا لأن أي فتوى فقهية أو قانونية فيها حجز لحرية الناس. والحرية هي أقدس مقدسات الإنسان، فلا يجوز العبث بها بسهولة وبدون الشعور بالمسؤولية. وعلينا أن نعلم أن التشدد يحسنه كل إنسان: الجاهل والعالم والفقيه وغير الفقيه. وهو لا يحتاج إلى فقه ولا إلى بينات.

فلا يستعمل باب سد الذرائع إلا بعد تقديم البينات المادية المقنعة.

ب- باب درء المفاسد أهم من جلب المنافع:

هذا الباب أيضا من عيوب الفقه الإسلامي يجب تدقيقه لأن هذا الباب إذا طبق –وقد طبق فعلا مئات السنين- كان من نتائجه فقدان روح المغامرة عند الإنسان المسلم. وهنا يجب أن نفهم أن المفاسد والمنافع نسبية تماما. فمثلا عندما يذهب الشاب العربي المسلم إلى أوروبا لطلب العلم، فإنه قد يقع في الزنى و شرب الخمر. فإذا طبقنا هذا الباب خوفا من لوقوع في الزنى أو من شرب كأس خمرة فلا نسافر ولا نتعلم.

إن على الفقهاء والقانونيين أن يتخلوا عن هذا الباب كليا ولو مؤقتا، ثم إذا أرادوا استعماله فيجب أن يستعمل أيضا بعد تقديم البينات المادية الإحصائية لحدث ما، ثم الإفتاء.

وهكذا نرى أن الفقهاء والقانونيين هم أكثر الناس احتياجا للمعلومات المختلفة في الطب وبقية العلوم والمعلومات الإحصائية في كل مجالات الحياة أي أنهم سيكونون أكثر الناس استعمالا واستفادة من الحاسوب الإلكتروني مثلاً.

نتائج الفقه الإسلامي في يومنا هذا:

إن المذاهب الفقهية الخمسة الرئيسية “الحنفي، الشافعي، الحنبلي، المالكي، الجعفري” هي من أطر تفاعل الإسلام مع مرحلة تاريخية معينة عاشهاهؤلاء الفقهاء بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد كان عملهم تقويما للسنة النبوية والخلفاء الراشدين حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم هذا التفاعل، ومن بعده الخلفاء الراشدون.

وجاء الفقهاء وأطروه ونهجوه ووضعوا له أسسا تنسجم مع الشروط الموضوعية التاريخية التي عاشوها هم لا نحن. وقد كان فقههم قويا في حينه وتكم قوته في أنه أجاب على كل المسائل المطروحة عليه في مجتمعهم في سياقه التاريخي، وقد كان تفاعلهم مع مجتمعهم تفاعلا إيجابيا ووطنيا في نفس الوقت، حتى إن الشافعي له مذهبان: القديم والجديد. فعندما سافر إلى مصر واستقر فيها كتب مذهبه الجديد لأنه غير المكان ضمن نفس المرحلة التاريخية. وبعد هذا التفاعل ضعفت الدولة الإسلامية ووهنت ولم يستمر هذا التفاعل الإيجابي والوطني.

فبعد استيلاء العناصر غير العربية والشعوبية على السلطة في بغداد، بدأ هذا الاستيلاء في عصر المعتصم واكتمل في عصر الواثق، ومن جراء هذا الاستيلاء ضعفت السلطة، ومنع الاجتهاد وقمع الفكر، وأصبح الفكر الإسلامي فقه السلطة أيا كانت، ومن عهد الواثق أصبحت من المهمات الأساسية للفقيه قمع الفكر الحر النقدي وترضية عامة الناس بأوضاعهم المتردية وجعلهم يقبلون بالسلطة أيا كانت، حتى إنه جاء في “العقد الفريد” لابن عبد ربه ما يلي “إذا كان الحاكم عادلا فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان ظالما فعليه الوزر وعليك الصبر”.

لقد استمر هذا الفقه منذ ذلك الحين مرورا بالمماليك الذين لا يعرفون حتى اللغة العربية والدولة العثمانية حتى يومنا هذا. فما هو دور الفقهاء في هذه الحقبة التاريخية عندما كان يحكما لمسلمين “قطز، وبيبرس، وأقطاي، وقلاوون” وسلاطين بني عثمان؟ لقد كان لهم دور هو ترضية عامة الناس وإبعادهم عن مشاكلهم الحقيقية وحصر الإسلام في نواقض الوضوء ومفسدات الصلاة والطهارة والنجاسة ولباس المرأة والرجل ومناسك الحج، وقد انعكس الوضع السياسي والاقتصادي المشرذم في الأمراء والمماليك المختلفين في تشرذم الفقهاء أنفسهم، فأصبح لكل أمير رعيته وفقهاؤه حتى أصبح في الجامع الأموي أربع محاريب للصلاة من أجل أتباع الفقهاء الأربعة، وأصبح الالتزام الفقهي موازيا للالتزام والولاء السياسي.

فكما أن الأمير كان لا يسامح الناس بالولاء لغيره، أصبح الفقيه أيضا لا يقبل من أتباعه بسماع غيره، حتى أصبحت المقولة “المريد بين شيخين كالمرأة بين رجلين” هي السائدة. وقد استمر هذا الأمر مئات السنين، وما نحن المسلمين في عصرنا الحاضر وما نحمله من فقه نظن أنه فقه إسلامي إلا نتاج لهذه العملية التاريخية الطويلة.

وقد أخذ المعتزلة بادئ ذي بدء على عاتقهم مهمة تقديم طرح فلسفي معرفي للكون والحياة والإنسان، وقاموا بدور إيجابي جدا فقد استطاعوا من الناحية الفلسفية المعرفية سحق كل العقائد القديمة للشعوب التي دخلت الإسلام وكانوا هم درع الإسلام الحصين من الناحية العقائدية، حيث أن الفقهاء بأجمعهم لم يستطيعوا مواجهتهم، حتى جاء أبو الحسن الأشعري وجابه المعتزلة بنفس سلاحهم، لا بسلاح الفقه، ثم أكمل هذه المهمة الفلاسفة المسلمون حتى جاء الغزالي واتهم الفلاسفة بالزندقة ومنع الفكر الحر النقدي. فكان الغزالي من أهم أركان تجميد الفكر الإسلامي وتشويه نظرية المعرفة حيث وقع في خرافات وأوهام التصوف.

وبعد ضرب المعتزلة الضربة الساحقة كانت الساحة خالية من الناحية الفلسفية المعرفية فجاءت الصوفية لتملأ هذا الفراغ بمادة هيولية غثة حولت الإسلام إلى دين خرافة وتمائم وتعاويذ وأوراد وأذكار فأصبح المسلم بين نارين. النار الأولى: تكبيل الفقهاء وتشرذمهم وتحويل الإسلام إلى دين كنسي بحت. والنار الثانية: خرافية المعرفة.

فعندما كانت دائما مشاكل الإنسان المسلم عبارة عن مشاكل يومية يعيشها ويلمسها، فعوضا أن تعرفه بأسبابها الحقيقية “منهج البحث العلمي الموضوعي” حولتها إلى قوى غير مرئية فقدمت الصوفية إلى السلطة إنسانا مقهورا ذليلا إمعة جاهلا قانعا بكل شيء وهذه الأطروحة مازالت حتى يومنا هذا، حتى أصبح الدعاء المشهور القديم الجديد هو “اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا” هذا الدعاء هو دعاء إنسان مفلس مستسلم قانع بأن أمور قيادته خرجت من بين يديه إلى الأبد.

وهذه الأطروحة شيطانية خادعة، فكلما حلت مصيبة بالمسلمين يقول لنا مشايخنا هذه ذنوبكم لأنكم ابتعدتم عن الله، كما لو كان المسلمون هم المذنبون الوحيدون في الأرض وأصبح الدعاء السائد هو “اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللطف فيه” هذا الدعاء لإنسان مستسلم غير صحيح، علما بأن الدعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم إن صح هو “لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر” “الجامع الصغير ج2 ص 203”.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عندما يتحدثون مع المسلمين بأحاديثهم الخرافية، ويسأل سائل ما، عنده بقية من عقل، كيف حصل هذا فيكون الجواب “إن الله على كل شيء قدير” ولقد أعطينا جوابا لهذه المعضلة في فصل جدل الإنسان.

لقد استبدلت الصوفية والفقه المتشرذم المتخلف، بالجامعات ومعاهد البحث العلمي الزوايا والتكايا المليئة بمضيعة الوقت والخزعبلات وحلقات الدرس المقتصرة على قراءة حاشية ابن عابدين والطهارة والنجاسة ومفسدات الوضوء. وعندما خرج العثمانيون من سوريا كان هناك مدرسة واحدة ومئات حلقات الذكر والنوبات والزوايا والتكايا. وليتني أرى من يذكر لي عالما واحدا في الرياضيات أو في الفلك أو الفيزياء أو في بقية العلوم ظهر خلال أربعة قرون من حكم الدولة العثمانية.

وبالمقابل كان في كل بلد عشرات المشايخ من فقهاء ومتصوفة دورهم الأساسي تخدير الناس وإبعادهم عن مشاكلهم المباشرة وأعدائهم الحقيقيين. فقد كانوا أعمدة السلطة ودعائمها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفاسدة، سواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا. ومازال ورثة هؤلاء الناس يعيشون بيننا حتى يومنا هذا تحت أسماء شتى يعيشون ويفقهون على المسلمين ما يسمى بالإسلام حسب زعمهم، ولم يعلموا أن وجودهم هو أحد المشاكل التي يعاني منها الإسلام. وأن وجودهم يحجب الفكر النقدي عن الناس.

وما نحن في عصرنا الحاضر إلا أمة مهزومة ورثنا فكرا نظن أنه فكر إسلامي أصيل وما هو إلا تفاعل تاريخي بحت، ونعيش حياة مادية معاصرة ونعرف ماذا يوجد في العالم فأصبحنا نعيش في شخصية مزدوجة مهزوزة نبحث عن ذاتنا في الفكر الفلسفي الموروث وفيما يسمى بالحجاب الشرعي، ونعيش حياتنا في الوقت الحاضر وهذه المشكلة غير قابلة للحل إلا إذا أعدنا النظر في الفكر الفلسفي السلفي الموروث كاملا، وأجرينا تفاعلا جديدا للكتاب والقرآن مع معطياتنا الحالية، وهذه هي السنة في تفاعل الكتاب من جديد وإعادة تأويل القرآن. وعلينا أن نكون على ثقة بأننا قادرون على أن نفقه لأنفسنا.

لذا فإن الطرح الذي ينادي بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على أساس أن الإسلام هو الموروث من كتب الفقه وعلى أساس أن حدود الله هي تشريع عيني هو طرح في فراغ ووهم لا يمكن أن يكتب له النجاح وهو من باب مضيعة الوقت والمال والأنفس. علما بأن الدولة بدأت تنفصل عن الدين بمفهومه الموروث، إن لم تنفصل كليا، حيث أن الحياة ومشاكلها لا ترحم أبدا ولا تساير أحدا. وأعطتنا الحياة المعاصرة انطباعا بأن الإسلام لا يصلح لكل زمان ومكان، وهذا غير صحيح. فالإسلام يصلح لكل زمان ومكان بمفهومه الحقيقي الذي نقدمه.

الفرع الثاني: فلسفة القضاء الإسلامي والعقوبات

أ – القضاء الإسلامي:

بعد أن شرحنا نظرية الحدود والجدل المستمر بين النقيضين الاستقامة والحنفية والذي يتولد منه ملايين الحالات من التشريع، نقول إن فلسفة التشريع الإسلامي تقوم على العلاقة الجدلية بين الثبات والتغير وبالتالي تقوم على نفس علاقة الثبات والتغير في إصدار الحكم من قبل القاضي. وهكذا فإن القضاء الإسلامي يسمح بإصدار حكمين متغايرين لقضيتين متشابهتين. كما أن التشريع يسمح بتنفيذ النسب الإرثية حسب تغير الأحوال وذلك انطلاقا من المبدأ الطبيعي التالي:

لا يمكن لحدثين إنسانيين أن يتطابقا تماما، ولكن يمكن أن يتشابها وهناك حدود للتشابه بينهما، وكذلك في الطبيعة لا يمكن لحدثين أن يتماثلا تماما. فهناك الجدل بين التماثل والاختلاف، هذا الجدل إذا أخذ بعين الاعتبار في حالة إصدار حكم قضائي، فيكون هذا الحكم أقرب إلى العدل، ولكن لا يمكن تحقيق هذا عمليا في القضاء إلا إذا كانت النصوص القانونية تحمل الطابع المستقيم والحنيف معا، أي أن النص القانوني هو نص حدودي يجب الوقوف عنده لا عليه.

في هذه الحالة لدينا حالتان:

1 – الحالة الأولى: النص القانوني هو نص عيني، أي لا يحق للقاضي أن يحيد عنه قيد شعرة واحدة والوقوف عليه تماما. في هذه الحالة لا يوجد عند القاضي أي مجال للحركة وأخذ القرار طبقا لكل حالة تخاصمية على حدة وعند ذلك يفقد القضاء هيبته ويصبح القاضي مجرد موظف عادي يمكن لأي إنسان مهما بلغ من قلة الذكاء أ البلاهة أن يصبح قاضيا بمجرد أنه قدم امتحانا وحفظ النصوص عن ظهر قلب، وإذا كانت هذه الحالة عند العرب موجودة الآن فقد ورثناها منا لفقه الخاطئ الذي يقول لا اجتهاد في مورد النص والذي استمر أكثر من ألف عام. وهذه الحالة يرفضها القضاء الإسلامي رفضا باتا.

2 – الحالة الثانية: أن يكون النص القانوني إسلاميا، أي حدوديا بمعنى أن النص القانوني يعطي للقاضي فقط الحدود العليا التي لا يمكن تجاوزها، أو الحدود الدنيا التي لا يمكن النزول عنها أو الحديث الأدنى والأعلى والمسموح له أن يتحرك بينهما. في هذه الحالة يمكن للقاضي أن يصدر مئات الأحكام المتغايرة لقضايا متشابهة.

مثال: إذا وضع القانون غرامة القتل الخطأ “الدية” مبلغ مئة ألف ليرة سورية وسجن سنة واحدة. فيجب أن ينص القانون على حدوديته، أي هل هذا حد أعلى أم حد أدنى؟ فإذا كان حدا أدنى فيحق للقاضي أن يفرض غرامات ابتداء من مئة ألف ليرة فما فوق، ولكن لا يجوز له أبدا أن يصدر حكما بأقل من ذلك. هذا النوع من القانون يعطي للقاضي حرية الحركة لتحقيق العدالة منسوبة إلى كل قضية على حدة.

ولكن هذا النوع من القانون، وبالتالي القضاء، يتطلب من القاضي أن يكون شخصا مميزا، أي شخصا معروفا بنزاهته وميله إلى العدل، وبخبرته الواسعة في الحياة، ومشهود له بالفطنة والذكاء بحيث لا يمكن لأي إنسان حفظ القانون أن يصبح قاضيا، بل يتطلب الأمر أكثر من ذلك بكثير. مثال على ذلك: هيئة محلفين لكل قضية على حدة. وفي هذه الحالة أيضا يظهر الجدل بين المدعي العام والمحامي، فالمدعي العام يبرز أوجه القضية التي تتطلب العقوبة القصوى، والمحامي يبرز أوجه القضية التي تقتضي تنزيل العقوبة.

هذا النوع من الجدل بين التشديد والتخفيف يساعد القاضي على الوصول إلى حكم أقرب إلى العدالة “العدالة النسبية” في القضية المعروضة عليه. لذا فإن وجود المدعي العام والمحامي هو من أسس بنية القضاء الإسلامي.

إن أساس القانون في الدولة العربية الإسلامية هو أنه قانون حدودي لا عيني وبالتالي فإن القضاء فيها مرن ومميز، إلا في بعض الحالات الاستثنائية التي يمكن أن يكون القانون عينيا كحالة حد الزنا “الفاحشة العلنية”، ولكن في هذه الحالة يجب على القانون شرح ظروف إقامة العقوبة، علما بأن هذه الحالات الشاذة يجب أن تكون مهمة جدا كحد الزنا والخيانة الزوجية أو حالة الخيانة الوطنية بحيث يجب أن تعرف تعريفا واضحاً.

وعلى القضاء الإسلامي أن يأخذ بعين الاعتبار الحديث النبوي “ادرؤوا الحدود بالشبهات” والحدود في العقوبات تعني العقوبة القصوى. هنا لاحظ قول النبي صلى الله عليه وسلم “ادرؤوا الحدود” ولم يقل “ادرؤوا العقوبات بالشبهات”. فإذا كان هنا سارق وثبتت عليه السرقة ولكن هناك شبهة “شك” بأن هذه السرقة قد لا تنطبق عليها عقوبة قطع اليد، في هذه الحالة يمتنع القضاء عن إصدار حكم قطع اليد وينزل إلى الحكم الأدنى من ذلك.

ب – العقوبات:

نوع العقوبات:

لقد وردت عقوبات قطع اليد والإعدام والجلد على أنها عقوبات حدية في الجلد وحدودية في قطع اليد والإعدام، ونلاحظ أنه لم ترد عقوبة السجن في الكتاب كعقوبة من الله، ولكن وردت عقوبة السجن في سورة يوسف كعقوبة من الناس “عقوبة عزيز مصر ليوسف”.

لم يضع الله سبحانه وتعالى عقوبة السجن في مجال العقوبات لأنه تركها للناس لتحددها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن السجن إهانة لكرامة الإنسان حيث أن الحرية هي أقدس ما يملكه. أما قطع اليد والإعدام فهما الحد الأعلى للعقوبات على السرقة والقتل لذا فهي استثنائية أي خاصة جداً.

والآن إذا أجرينا مقارنة بين عقوبة الجلد وعقوبة السجن، فنعتقد أن الجلد أرحم بكثير من السجن للأسباب التالية على أساس أن الجلد هو عقوبة نتيجة حكم وليس وسيلة للتحقيق والاستنطاق:

  1. لا يعطل الإنسان عن عمله.
  2. لا يؤثر على أهل المعاقب إذا كان عنده مسؤولية إعالة زوجة وأطفال.
  3. لا يتطلب أية نفقة من الدولة مثل بناء السجون ووضع الحراسة…الخ.
  4. لا يفسد الإنسان من الناحية الأخلاقية كما يفسده السجن.
  5. إن طبيعة الإنسان تفضل الجلد على السجن، فإذا أجرينا استفتاء بين كل المساجين في العالم بأن كل مائة جلدة تعادل سجن سنة فإني أعتقد أن أكثرية المسجونين تفضل الجلد على السجن.

لقد أصر الإسلام على علنية العقوبة، وقد يظن البعض أن هذا الإصرار هدفه تربوي بحت وذلك لكي يردع بقية الناس عن ارتكاب الجريمة. هذا صحيح ولكنه يأتي في المرتبة الثانية في أ÷مية العلنية في العقوبة. أما المرتبة الأولى لعلنية العقوبة فهي ما يلي:

إن علنية العقوبة في الإسلام هي أكبر وأهم ضمان للناس ضد تعسف الحاكم والأحكام.

فإذا كانت السلطة التنفيذية والسلطة القضائية في أي بلد تعلم أن أية عقوبة يجب أن يصدر بها حكم ويجب أن تنفذ علنا. فهذا يعني أنا لناس ستسأل عن البينات التي قامت على المعاقب حتى نفذ فيه الحكم وعلى السلطة أن تقدم هذه البينات. ولا تتجرأ أية سلطة مهما كانت ظالمة أن تنفذ العقوبات بشكل علني إلا إذا كانت البينات متوفرة.

وهذا ما نطلق عليه ديموقراطية العقوبات في الإسلام حيث يكمن فيها أكبر صمام أمان ضد التعسف في الأحكام وفي العقوبات.

 

اترك تعليقاً