الباب الثالث: أم الكتاب والسنة والفقه

الفصل الأول

أم الكتاب (الرسالة)

تمهيد

قلنا إن أم الكتاب هي مجموعة الآيات المحكمات {منه آيات محكمات هن أم الكتاب} (آل عمران 7) وهي الكتاب المحكم الذي قال عنه {الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} (هود 1) وهي التي خضعت للتطور وللتدرج وللناسخ والمنسوخ ولا تحمل صفة الأزلية وهي التي تلازم فيها الإنزال والتنزيل ولا يوجد فيها جعل {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (الرعد 39).

فالكتاب المحكم هو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم التي تحتوي على الحدود والعبادات والأخلاق وعلى تعليمات عامة وخاصة وأحكام مرحلية. هذه الأمور كلها تدخل في السلوك الإنساني “الذاتي” (Subjective) والتي تضع أسس علاقة “صلة” الإنسان مع الله “العبادات”، ومع أخيه الإنسان “الأخلاق” وأسس التشريع في الحدود، وهي التي أطلقنا عليها مصطلح العقل الاتصالي.

فلنناقش باختصار كل مفردات أم الكتاب، ولكن قبل ذلك علينا أن نبدأ بالمدخل التالي لفهم أم الكتاب.

لقد بحثنا في فصل جدل الكون وجدل الإنسان المواضيع الرئيسية لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أي لمواضيع القرآن الذي وقع به الإعجاز وقد بينا أن إعجازه يكمن في التشابه لذا فهو يحمل طابعا متميزا إلى أن تقوم الساعة بينما كانت نبوة موسى وعيسى في التوراة والإنجيل تحمل الطابع النسبي المرحلي التاريخي طبقا لمعارف الإنسان حين نزلوها لذا قال عن التوراة والإنجيل إنهما هدى للناس من قبل.

لنبحث الآن موضوع الرسالة أي بماذا أصبح محمد صلى الله عليه وسلم رسولا؟

إذا قارنا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالتي موسى وعيسى نرى أن رسالة موسى وعيسى تحمل اسم “الكتاب” أي مجموعة التشريعات التي جاءت إليهما ولكن هذه التشريعات تحمل الطابع الزماني والمكاني “المرحلي التاريخي” من حيث الزمان والمكان “لبني إسرائيل”. لذا كان موسى رسول بني إسرائيل، وأرسل عيسى لبني إسرائيل لتعديل شريعة موسى. وهكذا يجب أن نعلم أن شريعة موسى وعيسى كانت شريعة عينية، أي أن كل التشريعات التي جاءت إليهما تشريعات عينية وأن مفهوم التجريد في التشريع لم يكن عند موسى وعيسى، لذا فقد وجه الله سبحانه وتعالى اللوم لبني إسرائيل لشدة تمسكهم بشريعة موسى عندما جاء عيسى وقال: {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم} (آل عمران 50).

ومن جراء هذا التمسك بشريعة موسى ثم بشريعة عيسى المعدلة، وعلى مرور الزمن، أصبح هذا التشريع غير صالح، وخرج من الحياة تماما كما خرج التوراة والإنجيل من الحياة أيضا في تفسير الكون والإنسان، لذا فقد أصبحت الديانتان اليهودية والمسيحية ديانتين كنسيتين توجدان في المعابد فقط وخرجتا منا لحياة وبقي في الحياة منهما الفرقان فقط “الوصايا”، حيث أن الفرقان عبارة عن أخلاق وليس تشريعا ولا تفسيرا للكون والإنسان.

أما بالنسبة لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالوضع يجب أن يكون مختلفا تماما، حيث أن محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بالإضافة إلى أنه خاتم الأنبياء فكما أن نبوته جاءت بشكل متشابه لكي تصلح لكل زمان ومكان فيجب أن تكون لرسالته خاصية ما تميزها تماما عن الرسالات التي قبل وتجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهذه الخاصية ليست خاصية التشابه، حيث أن التشابه فقط لآيات القرآن والسبع المثاني. وهذه الخاصية ينطبق عليها قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء 107) وقوله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا… الآية} (الأعراف 158).

إن مشكلة الأدبيات الإسلامية والفقه الإسلامي المتعلقة بالرسالة هي أنها إلى اليوم لم تميز هذه الخاصية لكي تستعملها بيسر وسهولة وتكون مقنعة لغير المسلم، قبل أن تكون مقنعة للمسلم نفسه بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس جميعا وهو رحمة للعالمين وأن الرسالة صالحة لكل زمان ومكان.

إن إغفال هذه الخاصية جعل من التشريع الإسلامي تشريعا متزمتا متحجرا وحجب عنا فهم أسس الشريعة الإسلامية كما حجب عنا فهم السنة النبوية على حقيقتها حيث أن مفهوم السنة النبوية مرتبط بهذه الخاصية التي تتيح لنا وضع مفهوم عاصر متجدد دائما للشرع الإسلامي وللسنة النبوية، وبالتالي وضع أسس جديدة للتشريع الإسلامي.

فإذا أردنا أن نقسم الرسالة إلى مواضيع رئيسية رأيناها تتألف من:

  1. الحدود.
  2. العبادات.
  3. الأخلاق “الوصايا”.
  4. التعليمات التي تحمل الطابع التعليمي الخاص أو العام وليست تشريعات.
  5. التعليمات التي تحمل طابع المرحلية.

هذه المواضيع كيف نفهمها ضمن منظور عام خاص بها حصرا يجعل من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة صالحة لكل زمان ومكان أي متجددة دائما؟

هذه الخاصية لا يمكن أن نفهمها إلا إذا فهمنا صفتين أساسيتين متميزتين من صفات الدين الإسلامي بشكل عام، وهما من المتناقضات حيث أن الحركة الجدلية بينهما هي حركة تناقضية تفرزها التناقضات الداخلية للحياة الإنسانية في مجال المعرفة وعلوم الاجتماع والاقتصاد والتي ينتج عنها دائما مجالات جديدة في التشريع كما ونوعا. هذان النقيضان هما الاستقامة والحنيفية حيث يكمن فيهما جدل التشريع وبالتالي تطوره وبدونهما يستحيل فهم الدين الإسلامي فهما معاصرا والاقتناع بصلاحيته لكل زمان ومكان.

فالاستقامة جاءت في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة 6). وقوله: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161). وقوله: {وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام 153). وقوله عن موسى وهارون: {وهديناهما الصراط المستقيم} (الصافات 118).

أما الحنيفية فقد جاءت في قوله تعالى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} (الأنعام 79). وقوله: {ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161) وقوله: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم 30). وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة} (البينة 5).

لاحظ قوله تعالى هنا: {وذلك دين القيمة}. وقوله في سورة الروم: {ذلك الدين القيم}. وقوله {حنفاء لله غير مشركين به} (الحج 31). وقوله: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النساء 125). وقوله: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين} (يونس 105). وقوله: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} (النحل 120). وقوله: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا} (النحل 123). وقوله: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما} (آل عمران 67). وقوله: {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا} (آل عمران 95).

ونبدأ بـ “حنيف” فنقول: اشتق “الحنيف” من “حنف” وتعني في اللسان العربي الميل والانحراف، ويقال للذي يمشي على ظهور قدميه “أحنف” والحنف اعوجاج في الرجل إلى الداخل. وبما أن الحنف والخنف والجنف تشترك في صوتين وتختلف في صوت واحد فلها معان مشتركة، فالحنف الميل والانحراف في الرجل، والخنف الميل والانحراف في اللفظ حيث أن جزءا من الأصوات يميل نحو الأنف، والجنف الانحراف والميل في القسمة كقوله تعالى: {فمن خاف من موص جنفا} (البقرة 182).

أما المستقيم والاستقامة فقد اشتقت من الأصل “قوم” وله في اللسان العربي أصلان صحيحان: الأول جماعة من الناس للرجال فقط وهي جمع امرئ، والأصل الثاني الانتصاب أو العزم، ومن الانتصاب جاء المستقيم والاستقامة “ضد الانحراف” ومنا لعزم جاء الدين القيم أيا لدين القوي صاحب السيطرة، ومن هذا الباب جاء التقييم وأصله أنك تقيم شيئا مكان شيء. وبمعنى السيطرة والعزم جاء قوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} (النساء 34). وقوله: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة 255). وجاء قوله تعالى لمعنى العزم والسيطرة في قوله: {قل إنني هداني ربي إلى صرط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} (الأنعام 161) هنا نلاحظ أن عزم الدين وقوته وسيطرته تأتي بهاتين الصفتين معا الاستقامة والحنيفية حيث جاءتا معا في آية واحدة وأن قوة الدين الإسلامي تكمن في استقامته وحنيفيته معاً.

قد يسأل سائل: كيف تكمن قوة الإسلام في هذين النقيضين؟

إن الجواب على هذا السؤال هو ما يلي:

يتولد من هذين النقيضين مئات الملايين من الاحتمالات في التشريع وفي السلوك الإنساني العادي بحيث تغطي كل مجالات الحياة الإنسانية في كل مكان وزمان إلى أن تقوم الساعة.

أما لفظة الحنيف بمعناها الطبيعي الكوني المباشر فنقول عنها: لقد جاءت في قوله تعالى: {إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} (الأنعام 79). فهنا {حنيفا} حال والحال تصف الفعل وأول فعل قبلها هو فطر وقد شرحت معنى “فطر” في فصول سابقة ومنها جاءت الفطرة “القانون الطبيعي”.

أي أن طبيعة السموات والأرض والوجود المادي كله في هذا الكون الثنائي هي طبيعة حنيفية متغيرة، فمن ناحية الحركة لا يوجد حركة مستقيمة في هذا الوجود المادي ابتداء من أصغر الإلكترونات إلى أكبر المجرات كلها لها مسارات منحنية “مائلة” ولا يوجد فيها استقامة لذا وضع صفة الحنيفية صفة أساسية للوجود المادي قاطبة، فالدين الحنيف هو دين منسجم مع هذا الوجود، وصفة “الحنف” هي صفة طبيعية فطرية، فإذا حمل الإنسان هذه الصفة في فطرته فهي تنسجم مع وجوده في هذا الكون المادي لأنه في أي منحن يختلف ميل النقطة عن النقطة التي قبلها والتي بعدها.

وهذه الصفة هي صفة الميل والانحراف في التشريع وفي الطباع والعادات والتقاليد والتي نقول عنها صفة التغير “المتغيرات”. فإذا كان الأمر كذلك فيجب أن يكون هناك ثوابت يحتاجها الإنسان في حياته وتشكل علاقة جدلية مع المتغيرات، وهذه الثوابت لا تخضع للتحول “مستقيمة” بل تنسب إليها المتغيرات. فهنا ظهرت حاجة الإنسان إلى الله ليدله على هذه الثوابت والتي سماها “الصراط المستقيم”.

حيث أن التحول والتغير موجود أصلا في طبيعته وهو قوي جدا في طبيعة الكون والمجتمعات، ولا يحتاج الإنسان لمن يدله عليه، ولكن يحتاج إلى من يدله على الثوابت لذا قال في سورة الفاتحة {اهدنا الصراط المستقيم}. ولا يوجد آية تقول اهدنا إلى الحنيفية لأنها أصلا موجودة لذا قال عن الحنيفية: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} (الروم 30) ولكن أمرنا أن نكون حنفاء ولا يعني أبداً أن الصراط المستقيم “الثوابت” جاء ليلغي المتغيرات بل ليشكل علاقة جدلية معها، “الثنائية”، وهنا يكمن التفاعل الجدلي بين الثابت والمتحول “المستقيم والحنيف” في الدين الإسلامي. فإذا سأل سائل: إذا كانت الحنيفية “التغير” موجودة في طبيعة الوجود، فما هو الصراط المستقيم “الثوابت”؟

يجب علينا لنفهم هذا أن نرجع إلى الرياضيات (Mathematics) وخاصة ما يسمى التوابع المستمرة أو رياضيات نيوتن والتي ظهر فيها مفهوم التحليل الرياضي (Mathematical Analysis) ومفهوم النقاط المميزة ذات الطبيعة الخاصة بها.

إن التحليل الرياضي علم يربط علاقة تابع بمتحول أو متحولين أو أكثر. فإذا كان التابع هو Y والمتحول هو X فالتابع هو:

(Y = f (x

وإذا كانا متحولين فالتابع هو:

(Y = f (x, z

ولكن هذه العلاقة للتوابع المستمرة تأخذ أشكالا متعددة يمكن

أن نحصرها فيما يلي:

  1. تابع منحن “حنيف” له نهاية عظمى فقط ونقطة النهاية لها وضع مميز خاص بها بين كل نقاط المنحني، وجاء التعبير الرياضي لهذا التمييز بأن المشتق الأول يساوي الصفر. “انظر الشكل رقم 1”. “انظر الأشكال في نهاية مبحث الحدود في التشريع”.
  2. تابع منحن “حنيف” له نهاية صغرى فقط. “انظر الشكل رقم 2”.
  3. تابع منحن “حنيف” له نهايتان عظمى وصغرى كالتوابع الموجِيَّة. وهذا المنحني له نقطتان مميزتان هما النهاية لعظمى والنهاية الصغرى حيث المشتق الأول يساوي الصفر في النهايتين ونقطة الانعطاف وهو تغير الميل من الأعظمي إلى الأصغري وبالعكس أي نقطة التوازن بين الأصغري والأعظمي وفيها المشتق الثاني يساوي الصفر. “انظر الشكل رقم 3”.
  4. تابع مستقيم مواز للمحور × ليس له نهاية عظمى ولا نهاية صغرى أي كل نقاطه هي عظمى وصغرى معا. “انظر الشكل 4”.
  5. 5 – تابع منحن له نهاية عظمى و صغرى ولكن بنمط مقارب أي التابع المنحني يقترب من المستقيم ولا يمسه إلا في اللانهاية. “انظر الشكل 5”.
  6. حالة منحن فيه الحد الأعلى موجب والحد الأدنى سالب. “انظر الشكل 6”.

هذه التوابع تصف ظواهر في الطبيعة، ونلاحظ في التوابع المنحنية أنا لنهايات العظمى والصغرى فيها يمر منها خط مستقيم مماس لها ولكن له خاصية أساسية هي أنها لا يمكن أن تتجاوزه إذا كانت النهاية عظمى ولا يمكن أن تنزل عنه إذا كانت النهاية صغرى ولا يمكن أن تتجاوزه أو تنزل عنه إذا كانت له نهايتان عظمى وصغرى، وتصل إليه فيا للانهاية إذا كان خطا مقاربا ولا يمكن أن تخرج عنه إذا كان مستقيما.

هنا نلاحظ أن التوابع منحنية بحد ذاتها ما عدا الحالة الرابعة حالة الخط المستقيم، ولكن بنفس الوقت لا تتجاوز أبدا المستقيمات المماسة للنهايات، وأن مجال تحقيقها وعملها هو مجال النهايات تحت النهاية العظمى وفوق النهاية الصغرى، أو بين النهايتين العظمى والصغرى هذه النهايات المتمثلة بمستقيمات تعطينا حدود تحقيق التابع المنحني ما عدا الحالة الرابعة وهي حالة المستقيم. وخارج هذه النهايات لا يتحقق التابع.

إذا فهمنا هذه الخاصية تحديدا فإننا نستطيع أن نفهم الإسلام بشقيه المستقيم والحنيف، فالحنيفية هي التابع الذي هو منحن أصلا والاستقامة هي حدود تحقيق هذا التابع المتمثلة بالنهايات، أما إذا أخذنا الحالة الرابعة وهي حالة المستقيم فقط فإننا نرى أن التابع ليس له حدود يتحقق فيها إلا المستقيم نفسه أي لا يوجد فيه مجال للميل “الانحناء” أبدا “غير حنيف”.

فإذا نظرنا إلى التشريع الإسلامي ووجدناه يحمل هذه الخاصية أي خاصيتي الانحناء والاستقامة معا فهذا يعني أنه صالح لكل زمان ومكان أي قابل للحركة في حدود النهايات وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا كان التشريع الإسلامي والسلوك الإسلامي مبنيين على مبدأ النهايات أي الحدود المستقيمة والتي يمكن للحركة الحنيفية أن تتحقق ضمنها وقد أعطانا الله في أم الكتاب الحدود فقط أي المستقيمات التي يمكن أن نكون حنفاء ضمنها وسماها حدود الله وهي مع الفرقان تشكل الصراط المستقيم ونحن نحنف ضمن هذه الحدود المستقيمة.

فإذا نظرنا الآن إلى بعض الآيات في أم الكتاب رأيناها تتصف بهذه الصفة أي صفة الحدود وقد أعطانا الله الحالات جميعها: الحد الأدنى فقط والحد الأعلى فقط، والحد الأدنى والحد الأعلى معا، وحالة المستقيم الذي هو حد أعلى وحد أدنى ولا يتغير، وحالة الخط المقارب الذي يقترب من النهاية “المستقيم” ويمسه في اللانهاية. وحالة الحد الأعلى موجب والحد الأدنى سالب.

ولكن هنا الإحداثيات يجب أن تكون كما يلي: إحداثية (Y) هي تطور التشريع ضمن الحدود وإحداثية (×) هي الزمن أو سياق التاريخ.

ومبدأ الإحداثيات يمثل البعثة النبوية أو زمن تنزيل الرسالة على محمد صلى الله عليه وسلم “الهجرة النبوية”.

p1-452

فما علينا الآن إلا أن نميز آيات حدود الله وهي رأس السنام في التشريع والأخلاق والعبادات، علماً أن هناك فرعاً آخر في الرسالة وهو التعليمات والتي لها شق خاص بها، لذا فإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تتألف من:

  1. الحدود في التشريع. – الصراط المستقيم
  2. الحدود في العبادات. –
  3. الأخلاق (الفرقان) –
  4. تعليمات ليس لها علاقة بالتشريع أو بالعبادات أو بالأخلاق.

الفرع الأول: الحدود في التشريع والعبادات

أولاً – الحدود في التشريع:

لقد وردت الحالات المذكورة آنفا كلها في أم الكتاب أي حالة الحد الأعلى وحالة الحد الأدنى وحالة الحدين الأعلى والأدنى معا وحالة المستقيم فقط وحالة الحد الأعلى لخط مقارب دون المساس بالحد أبدا أي الاقتراب من الحد دون أن تمسه وحالة الحد الأعلى موجبا والحد الأدنى سالباً.

هذه هي الخطوط المستقيمة “الثوابت” والتي تعطينا مجال الحركة الحنيفية في التشريع “التغير”.

1 – حالة الحد الأدنى:

أ – ورد الحد الأدنى من حدود الله في آيات المحارم وهي:

  • {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا} (النساء 22).
  • {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعتنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} (النساء 23).

لقد وضع الله في هاتين الآيتين الحد الأدنى في تحريم النكاح وهذا الحد الأدنى هو الأقارب المذكورين في الآيتين (22، 23) من سورة النساء فلا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوز هذا الحد نقصانا على أساس نه اجتهاد، ولكن يمكن الاجتهاد بزيادة العدد، فإذا بين علم الطب أن الزواج منا لأقارب كبنات العم والعمة والخال والخالة المباشرين له آثار سلبية على النسل وله آثار سلبية على توزيع الثروة، فيمكن أن يصدر تشريع يمنع زواجا من هذا النوع دون أن نكون تجاوزنا حدود الله.

هذا النوع من التشريع يحتاج إلى بينات مادية وإحصائيات قبل البت فيه، ولا يحتاج إلى قياس حالة على نص تراثي لأن ما فعله السلف قد يكون غير مفيد لنا أو قابلا للتغير حسب التطور المعرفي والاقتصادي والاجتماعي للمرحلة التاريخية التي نعيش فيها، وفي هذه الحالة نرى أن التشريع الإسلامي تشريع متجدد دائما وحنيفي “متغير” ولكن ضمن حدود الله. وهكذا نفهم لماذا يكون للمجتهد المخطئ أجر وللمجتهد المصيب أجران.

ب- كذلك ورد الحد الأدنى للمحرمات في الأطعمة وهي الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير في الآية رقم “3” من سورة المائدة: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلك فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم}.

هنا نرى كيف أعطى الحد الأدنى للمحرمات في الأطعمة وبما أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إذا كانت على قيد الحياة وتم ذبحها فهي من لمحللات، وإذا لم تذبح وتركت فستهلك فتندمج تحت بند الميتة لذا أدمج محرمات الأطعمة في سورة الأنعام في قوله: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام 145).

وقد أكد تفصيل ما حرم علينا من الأطعمة بقوله: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} (الأنعام 119).

هنا نلاحظ أنه لم يغلق الحد الأدنى لمحرمات الأطعمة كما أغلقه لمحرمات النكاح حيث قال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام 145). أما بالنسبة لمحرمات النكاح فلا يوجد “فمن اضطر” ي هو حد مغلق تماما.

نلاحظ قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. ورد في نفس آية الحد الأدنى من محرمات الأطعمة “المائدة 3”. لذا نعتقد أن هذه الآية هي آخر آية حدودية وردت في الكتاب، أو آخر آية من آيات أم الكتاب “الرسالة” وليست آخر آية في الكتاب “المصحف”.

كذلك الآية رقم 283 والآية 284 من سورة البقرة هما آيتا الحد الأدنى للمداينة.

كذلك ورد الحد الأدنى للباس المرأة في الآية رقم 31 في سورة النور وسنشرحها في مبحث المرأة في الإسلام.

2- حالة الحد الأعلى: (نظرية العقوبات في السرقة والقتل):

أ – {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} (المائدة 38). والنكال في اللسان العربي من الأصل “نكل” وتعني المنع ومنه جاء القيد ونكل به تنكيلا ونكالا: فعل به ما يمنعه من المعاودة.

في هذه الآية بين العقوبة القصوى للسارق وهي قطع اليد أي أنه لا يجوز أبدا أن تكون عقوبة السرقة أكثر من قطع اليد ولكن يمكن أن تكون عقوبة سرقة ما أقل من قطع اليد، فما على المجتهدين إلا أن يحددوا حسب ظروفهم الموضوعية ما هي السرقة التي تستوجب العقوبة القصوى، وما هي السرقات التي لا تستوجب العقوبة القصوى، وما هي عقوبة كل سرقة. هنا نلاحظ مرة أخرى أن الاجتهاد فتح على مصراعيه ونلاحظ حنيفية الإسلام في الاجتهاد، وعلى المجتهدين أن يضعوا – كل في بلده وحسب زمانه- مواصفات السرقة ذات العقوبة القصوى وهي قطع اليد.

هنا قد يقول قائل: إنه هناك حالات تعتبر في ظاهرها سرقة عادية ولكن عقوبة قطع اليد تعتبر غير كافية كأن يسرق إنسان ما أسرار بلده ويبيعها إلى دولة أجنبية أو يسرق أموال الناس عن طريق الابتزاز أو عن طريق شركات ومشاريع وهمية، أو يسرق موال الدولة ويساهم في تخريب الاقتصاد الوطني أو تخريب البنية السليمة للدولة في وضع الرجل المناسب في المكان غير المناسب أو ترويج المخدرات أو تخريب المنشآت من مباني وجسور وسدود ومحطات توليد الطاقة الخ… فهل تكفي عقوبة قطع اليد بالنسبة لهذه الجرائم؟

من أجل حالات كهذه جاءت الآية رقم 33 من سورة المائدة وهي {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. تلاحظ في هذه الآي عقوبات حدية لذا وضع فيها عدة خيارات للاجتهاد وكلها عقوبات تفوق عقوبة قطع اليد وهذه الخيارات هي (الإعدام، قطع اليد والرجل من خلاف، السجن المؤبد) وعلى مجالس التشريع تحديد الحالات التي تنطبق عليها كل من هذه العقوبات سلفا وفقا للظروف الموضوعية.

وبما أن هذه الأحكام تعتبر عقوبات قصوى فقد فتح باب التوبة والعفو لهؤلاء الناس في الآية {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} (المائدة 34) وقد وضع للتوبة والعفو شرطا أساسيا وهو {من قبل أن تقدروا عليهم} أي حتى يحصل مرتكب هذه الجرائم على العفو فعليه أن يتوب ويعترف من قبل أن يعتقل أو يكشف أمره ففي هذه الحالة يصبح العفو حكما مرجحا.

ب – {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا} (الإسراء 33)

{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} (البقرة 178).

هنا بينا لعقوبة القصوى للقتل بغير حق وهي الإعدام لذا قال: {فلا يسرف في القتل}، أي أنه لا يجوز أن تكون العقوبة القصوى للقاتل ظلما وعدوانا هي قتله هو وأهله، فهنا يجب على المجتهدين توصيف جريمة القتل التي تستحق العقوبة القصوى وهي الإعدام والتي تسمى جريمة قتل مع سابق الإصرار والترصد، ولكن هناك جرائم قتل يمكن أن ترتكب ولا يعاقب عليها بالإعدام مثل القتل غير المتعمد والقتل دفاعا عن النفس… وهكذا دواليك.

وهناك أيضا عفو أهل القتيل لذا قال: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} (البقرة 178). هنا بين كيف فتح الإسلام باب الاجتهاد في نظرية العقوبات في القتل إلى يوم الدين، أما في حالة قتل الخطأ فقد وضع الحد الأدنى لعقوبة قتل الخطأ وهي:

{وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهليه إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما} (النساء 92).

هنا وضع الحد الأدنى في قوله: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين}. ووضع الحد الأدنى وهو تحرير رقبة لأنه يمكن أن يطلب تحرير أكثر من رقبة.

ملاحظة هامة جداً:

نود الإشارة إلى مسألة هامة جدا قبل التطرق إلى موضوع الإرث كما هو مشروح هنا في كتاب (الكتاب و القرآن), و هو أن الدكتور محمد شحرور قد أعاد النظر بقراءته الأولى لهذا الموضوع (المعروضة أدناه) والتي تتعلق بآيات الميراث و الوصية على نحو يختلف عما هو مشروح هنا و قد قام في كتابه الأخير (نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة) بتخصيص فصل كامل لهذا الموضوع نوصي بمراجعته للمهتمين.

3 – حالة الحد الأدنى والحد الأعلى معاً:

أ – {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين فن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} (النساء 11).

{ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم} (النساء 12).

{تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم} (النساء 13).

{ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} (النساء 14).

نلاحظ هنا في الآية قوله: {تلك حدود الله}. وقوله: {ويتعد حدوده}. فالحركة هنا مسموحة ضمن حدود الله فهذا يعني وجود أكثر من حدين حيث جاءت بصيغة الجمع والتعدي هنا هو الحركة في اتجاه الحد حتى نصل إليه، فإذا تجاوزناه حصلت حالة التعدي ولا يعني التعدي هو الوقوف على الحد فقط بحيث تمنع الحركة بأي اتجاه.

نلاحظ من قوله تعالى: {ويتعد حدوده}. أنا لهاء في حدوده تعود على الله فقط، علما بأن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ذكرا قبلها مباشرة في قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده}. هنا نستنتج استنتاجا قاطعا بأن صاحب الحق الوحيد في وضع حدود تشريعية دائمة إلى أن تقوم الساعة هو الله وحده فقط، ولم يعط هذا الحق للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو عطاه الله هذا الحق لقال “ويتعد حدودهما” أي أن كل تشريع حدي أو حدودي ورد من قبل النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرحلي وغير ساري المفعول إلى أن تقوم الساعة. وهنا تكمن عظمة السنة النبوية والأسوة الحسنة للرسول صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد ضمن حدود الله أو في وضع حدود مرحلية ظرفية تتعلق بالشروط التاريخية في شبه جزيرة العرب.

لنر الآن ما هي هذه الحدود في آية الإرث: الحدود هي:

الحد الأعلى للذكر والحد الأدنى للأنثى بمعنى أنه مهما بلغ التفاوت في تحمل الأعباء الاقتصادية للأسرة أي أن الرجل مسؤول مسؤولية كاملة والمرأة لا تتحمل أية مسؤولية بمعنى المسؤولية الاقتصادية 100% على الرجل وصفر على المرأة، ففي هذه الحالة جاءت حدود الله لتعطينا أن يأخذ الذكر ضعف الأنثى فهنا أعطى الحد الأدنى للأنثى 33.3%) والحد الأعلى للذكر 66.6%. فإذا أعطينا الذكر 75% والأنثى 25% نكون قد تجاوزنا حدود الله، أما إذا أعطينا الذكر 60% والأنثى 40% فلا نكون قد تجاوزنا حدود الله بل بقينا ضمنها.

وبما أن الله أعطانا الحد الأعلى للذكر والحد الأدنى للأنثى فيأتي دور الاجتهاد حسب الظروف الموضوعية التاريخية بتقريب الفرق بينهما، وهذا التقريب مسموح حتى التساوي الكامل فيما بينهما طبقا للحالات الإرثية المنفردة كل على حدة أو طبقا للوضع التاريخي التطوري العام أو طبقا للاثنين معاً، وهذا التقريب بينهما يحتاج إلى بينات مادية إحصائية، لا إلى عواطف جياشة مع المرأة أو مع الرجل. وهنا تظهر مرة أخرى استقامة الإسلام في الحدود وحنيفيته في الحركة بين الحدود، وأن الاجتهاد في الإسلام ضمن حدود الله يعتمد على البينات المادية الإحصائية آخذا بعين الاعتبار مصلحة المجتمع والتيسير على الناس، لا على العواطف ولا على قال فلان، أي أن الفقه الإسلامي لا يقوم أبدا على مطابقة حالة راهة على نص قيل منذ مئات السنين، ففي هذه الحالة يفقد الإسلام طابعه الحنيفي.

فإذا سأل سائل: كيف عرفت أن 33.3% هي الحد الأدنى للانثى و66.6% هي الحد الأعلى للذكر وأن الحركة الحنيفية هي ضمن هذين الحدين ي التقريب بينهما لا التبعيد؟ الجواب هنا يأتي من أهل الأرض “الناس” لقوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الروم 30). ولو استفتينا مليار إنسان من أهل الأرض لهم علاقة بالإسلام ويعرفون آية الإرث، ومليار إنسان لا يعرفون عن قواعد الإرث الإسلامي شيئا عن الحركة هل تكون باتجاه التقريب أو التبعيد؟ لجاء الجواب منهم جميعا: الحركة باتجاه التقريب وكذلك في الطبيعة {لا تبديل لخلق الله}. فإن التوابع ذات النهايات العظمى والصغرى معا تتحقق ضمن هذه النهايات لا خارجها.

وبما أنه قال “حدود” فقوله تعالى: {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك}. هنا أعطى حالة وجود إناث فقط في الإرث وافترض أن الإناث لا يتحملن أية تبعة اقتصادية، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يأخذن أقل من ثلثي التركة، هنا نلاحظ كيف جاء الحد مرة أخرى:

{وإن كانت واحدة فلها النصف}. هنا أيضا الحد الأدنى لميراث الأنثى إن كانت وحيدة الوالدين.

ب – كذلك وردت حالة الحد الأدنى والحد الأعلى معا في الآية رقم “3” في سورة النساء حيث وضع فيها الحد الأدنى والحد الأعلى من حيث تعدد الزوجات في قوله تعالى: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} (النساء 3).

انظر شرح هذه الآية الحدودية في الأشكال التالية:

الآية رقم (11) {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيماً}

p1-460

الآية رقم (1) {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم}

p1-461

الآية (176) {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم}

p1-462

4 – حالة الحد الأدنى والحد الأعلى معا على نقطة واحدة أي حالة المستقيم أو حالة التشريع العيني:

هذه الحالة جاءت في حد الزنا فقط حيث وضع الجد الأعلى والأدنى معا في نقطة واحدة وهو مئة جلدة في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور 2). لاحظ كيف نوه بأن هذا هو الحد الأعلى والأدنى معا في قوله: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}. هنا أكد بأنه لا يجوز التخفيف لتبيان أن هذا الحد هو الأدنى أيضا. علما بأنه لم يذكر موضوع الرأفة في قطع اليد للسارق لن قطع اليد هو الحد الأعلى فقط ومجال الرأفة والتخفيف مفتوح بل ذكر العكس تماما في قوله: {نكالا من الله}. لتبيان أن هذا الحد فيه تنكيل من الله فلا يجوز تجاوزه ولا يطبق إلا في حالات العقوبة القصوى للسرقة فقط.

فإذا كان حد الزنا هو نقطة لا مجال للزيادة والنقصان فيه ففي هذه الحالة تصبح المشكلة هي كيف يقام هذا الحد أي ما هي الشروط الظرفية التي يطبق فيها هذا الحد؟

بما أن الله سبحانه وتعالى ثبت حد الزنا فلم يترك الشروط الظرفية لإقامة الحد لاجتهاد الناس بل أعطانا الشروط الظرفية أيضا وهي “أربعة شهداء” و”الملاعنة” بالنسبة للرجل وزوجه. ووضع أيضا عقوبة من يرمي الآخر بالزنا بدون تحقيق هذه الشروط وذلك من الآية 3 إلى الآية 10 في سورة النور.

وقد سمى الآيات التي بين فيها الشروط الظرفية لحد الزنا بالآيات المبينات حيث لم تأت الآيات المبينات إلا في موضوع الزنا.

ونرى أن حد الزنا هو الحد الوحيد الذين بين الله تعالى فيه الشروط الظرفية لإقامة الحد لكونه حدا أدنى وأعلى معا في نقطة واحدة.

أما في بقية الحدود كالسرقة فلم يبين فيها الشروط الظرفية لأنها إما أعلى أو أدنى، أو أعلى وأدنى ضمن مجال بينهما لا على نقطة واحدة.

5 – حالة الحد الأعلى بخط مقارب لمستقيم أي يقترب ولا يمس:

وهي حالة علاقة الرجل بالمرأة من ناحية الجنس، وتبدأ هذه العلاقة بحدودها الدنيا، وهي عدم ملامسة الرجل للمرأة بتاتا وتنتهي بخط مستقيم يقارب الزنا، فإذا اقترب الإنسان من الزنا ولم يزن، فإنه لم يقع في حدود الله، حيث أن الزنا هو من حدود الله التي يجب أن لا يقف عليها الإنسان أي لا يمسها مهما اقترب منها بينما في حد نكاح المحارم يمكن أن تقف على الحد، وفي حد القتل يمكن الوقوف على الحد، أما في حد الزنا فلا يمكن الوقوف عليه، فالوقوف عليه يعني أنه وقع فيه. وبما أن حد الزنا هو من حدود الله في خط مستقيم مقارب وتتسارع كلما اقترب منها الإنسان.

وهذا يطابق الحقيقة تماما في علاقة الرجل بالمرأة، لذا جاءت العقوبة عليه في خط مستقيم، حد أعلى وحد أدنى معا لذا قال: {ولا تقربوا الزنى} (الإسراء 32)، {لا تقربوا الفواحش} (الأنعام 151).

هنا نلاحظ أن الحالة الرابعة وهي عقوبة الزنا منسجمة تماما مع الحالة الخامسة وهي حد الله في علاقة الرجل بالمرأة وهي الزنا “العلاقة الجنسية المباشرة دون عقد نكاح”.

6 – حالة: الحد الأعلى موجب مغلق لا يجوز تجاوزه، والحد الأدنى سالب يجوز تجاوزه:

وهي العلاقة المالية بين الناس، وهذان الحدان يمثلان الربا كحد أعلى موجب والزكاة كحد أدنى سالب، وهذا الحد يمكن تجاوزه بالصدقات وبما أن هناك موجبا وسالبا فهناك حالة الصفر بينهما. أي هذه الحالة تشمل الربا “الموجب” والقرض الحسن “الصفر” والزكاة والصدقات “السالب”.

يفهم من هذا أن هناك ثلاث حالات لإعطاء المال يمكن للإنسان أن يحنف بينها حسب الظروف الموضوعية التي يعيشها وحسب وضع الإنسان الذي يأخذ المال. هذه الحالة هي الربا والصدقات.

p1-465 p1-466

الربا

لقد قلنا إن موضوع الربا هو من حدود الله، الحالة رقم (6)، الحد الأعلى الموجب والصفر والحد الأدنى السالب. لذا فلا يمكن فصل موضوع الربا عن موضوع الزكاة والصدقات.

إن لفظة الربا في اللسان العربي من الأصل “رب و-ربء” “الراء والباء والحرف المعتل وكذلك المهموز منه” ولها أصل واحد وهو الزيادة والنماء والعلو، تقول ربا الشيء يربو إذا زاد، وربا الرابية يربوها إذا علاها، والربوة المكان المرتفع.

لقد ورد الربا في الكتاب في الآيات التالية:

  • {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} (البقرة 275).
  • {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم} (البقرة 276).
  • {يا أيها الذي آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين} (البقرة 278).
  • {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (البقرة 279).
  • {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} (البقرة 280).
  • {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران 130).
  • {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} (آل عمران 131).
  • {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (آل عمران 132).
  • {وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما} (النساء 161).
  • {وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} (الروم 39).

نلاحظ في هذه الآيات ما يلي:

أ‌ – ربط الربا بالصدقات بقوله: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات} (البقرة 276).

ب‌ – ربط الربا بالزكاة بقوله: {وما آتيتم من ربا… وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون} (الروم 39).

ت‌ – وضع حد أعلى للفائدة “الربا” بقوله: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} (آل عمران 130).

ج – وضع حد الصفر بقوله: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون} (البقرة 279).

جاء في تفسير ابن كثير (ج1/ص 592) عند الكلام عن آية الكلالة، النساء 176: ما يلي: “وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه – الجد والكلالة وباب من أبواب الربا”.

إن الربا إذا هو أمر غير مقطوع فيه، وقد أشكل حتى على أمير المؤمنين عمر.

الآن إذا أردنا أن نربط مفهوم الربا بالزكاة والصدقات فما علينا إلا أن نعرف الزكاة والصدقات.

الزكاة والصدقات: هي مبلغ من المال نقدي أو عطاء عيني يعطى من شخص لآخر دون أي مقابل أو التزام من الذي أخذ تجاه الذي أعطى، والفرق بين الزكاة والصدقات، أن الزكاة هي الحد الأدنى للهبة أي الحد الأدنى للصدقات وهي من فرائض الإسلام. لذا فعندما أورد المستفيدين من الزكاة قال: {إنما الصدقات}. حيث أن الزكاة هي من ضمن الصدقات، والصدقات هو المصطلح الأعم. هنا نرى أنا لحد الأدنى للعطاء السالب هو الزكاة وهو فرض، وهذا الحد الأدنى مفتوح بالصدقات وبما أن الأمر كذلك فقد وجهنا الله نفسه إلى الزمر من الناس التي يجب أن تعطى لهم الصدقات، أي أن هذا الحد مفتوح في الكم وفيه توجه في الكيف لذا قال: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين…الآية} (التوبة 60).

وبما أن سورة التوبة لا تحوي حدودا فهذا يعني أنها مفتوحة للاجتهاد في الزيادة أو النقصان وقد اجتهد عمر بحيث ألغى الصدقات على المؤلفة قلوبهم بعد أن أعز الله الإسلام ونصره. حيث أن هذه الآية ليست من آيات الحدود. وقد عرفنا في مبحث الزكاة الفقير والمسكين، وقلنا إن الفقير هو الإنسان الذي لا يستطيع سداد أي قرض ضمن الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة. فلهؤلاء الناس جاءت الآية {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}. أي أن هؤلاء الناس لا يستطيعون سداد أي قرض أصلا فالمال الذي يعطى لهم هو ليس بقرض أصلا وإنما هو هبة وأجرها عند الله.

وجاءت الآية أيضا التي ربطت الربا بالزكاة: {وما آتيتم من ربا}. إلى قوله: {وما آتيتم من زكاة}. وعند إعطاء مال لهؤلاء الناس على أساس قرض مع فائدة فتنطبق عليه الآية 275 من سورة البقرة: {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}. وجاءت الآية 278 من نفس السورة: {ذروا ما بقي من الربا}. والآية 279 {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. هذه هي الحالة الأولى من حالات العطاء.

أما الحالة الثانية فهي للناس الذين يستطيعون سداد القرض ولكن دون أية فائدة أي حالة الصفر أو ما يسمى بالقرض الحسن وفي هذه الحالة جاءت الآية 279 من سورة البقرة: {وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون}. وهذه الحالة أيضا هي الحد الأعلى في معاملة أصحاب الصدقات، لذا فضل الهبة وقال: {وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} (البقرة 280).

الآن إذا أخذنا بقية الحالات وهم الناس الذين لا تنطبق عليهم آية الصدقات، ابتداء من الهبة بدون مقابل وحتى القرض الحسن كأعلى حد وعمليا هؤلاء الناس هم أهل الفعاليات التجارية والصناعية والزراعية والذين هم عصب الاقتصاد مثل شركات النفط والسيارات والتعدين وكل حقول الصناعة والزراعة والتجارة والخامات، فما حكم هؤلاء وهم ليسوا من أهل الصدقات؟ من أجل هؤلاء جاءت الحالة الثالثة وهي الحد الأعلى في الفائدة وهو مغلق تماما وهذا الحد الأعلى جاء في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران 130).

أي أن الله وضع سقفا للفائدة من أجل الناس الذين لا يستحقون الصدقات وليسوا بحاجة إليها، وهؤلاء يشكلون شريحة كبيرة في المجتمع وهم الصناعيون والحرفيون والمزارعون والتجار… وهكذا دواليك.

هذه الفائدة هي ضعف مبلغ الدين ولا يمكن أن تزيد عن ذلك ي أن أساس النظام المصرفي الإسلامي هو ما يلي:

  1. لا يعطى مستحقو الزكاة والصدقات قروضا، بل هبات دون مقابل.
  2. يمكن في حالات معينة إعطاء قرض دون فائدة وهي معاملة الحد الأعلى لأصحاب الصدقات.
  3. لا يوجد في النظام المصرفي الإسلامي قرض مفتوح الأجل قد تبلغ الفوائد فيه أكثر من ضعف المبلغ، لذا فإن أجل القرض في المصارف الإسلامية كحد أعلى هو حتى تبلغ الفائدة ضعف المبلغ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون المبلغ مسددا، وفي الحالات التي تبلغ فيها الفائدة أكثر من ضعف المبلغ الأصلي فيحق للمدين الامتناع عن دفع ما زاد عن الضعف.

هذه هي أسس النظام المصرفي الإسلامي، حيث أن المصارف هي عصب الاقتصاد الحديث من تجارة وصناعة وزراعة. ففي حالة تقيد المصارف بهذه القاعدة فلا مانع أن يضع المسلم ماله في هذه المصارف لكي تديره ويأخذ عليه الفوائد.

وفي هذه الحالة تكون الدولة المسلمة هي صاحبة الحق الوحيد في تحديد نسبة الفائدة السنوية طبقا للوضع الاقتصادي السائد، والمصارف فقط هي صاحبة الحق الوحيد في إعطاء القروض بفوائد وتطبيق أقصى العقوبات على الذي يقرض بفائدة من غير المصارف.

هنا نناقش وضع النظام المصرفي الإسلامي بالنسبة لاقتصاد معافى سليم ضمن نسب تضخم مقبولة طبقا للأوضاع السائدة. أما إذا كانت في الاقتصاد نسبة تضخم نقدي عالية، ففي هذه الحالة لا تحل المصارف مشكلته وإنما تحل المشكلة بحلول جذرية أخرى.

وكذلك البيع بالتقسيط “إلى أجل” يمكن أن نتجه فيه بنفس الاتجاه أي يجب أن لا يتجاوز المبلغ المقسط ضعف السعر النقدي.

ومع هذا وذاك فإننا نقدم اجتهادا ونترك لذوي الاختصاص من الاقتصاديين والمصرفيين والتجاريين المسلمين أن يضعوا تفصيلات لذلك بشرط أن لا يتجاوزوا حدود الله.

p1-471

نستنتج من هذا البحث ما يلي:

1 – إن الإسلام مستقيم في الحدود والوصايا “الفرقان”. وحنيف ضمن الحدود فهو يحمل صفة الثابت في الحدود “الاستقامة” والتحول “الحنيف” ضمن الحدود لذا قال: {مخلصين له الدين حنفاء}.

2 – لقد أعطى الله سبحانه وتعالى تشريعات عينية لموسى وعيسى في الكتاب وذلك لتتناسب مع الظروف التي عاشوها هم، لذا سميت تشريعات موسى وعيسى “الكتاب” وهذه التشريعات لم تحمل الصيغة العالمية وإنما حملت الطابع الزماني المكاني، أي أنها لم تكن مبنية على نظرية الحدود لذا تم تجاوزها وتم فصل الشريعة عن الدولة بالنسبة للمسيحية واليهودية وهذا عين الصواب.

3 – لقد سميت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بأم الكتاب لأنها حنيفية على نظرية الحدود لذا فهي تحمل الصيغة الكونية، ويمكن استنتاج ملايين الأحكام العينية من خلالها، ومن الصعب تجاوزها إلا على الجاهل، وكلما زاد الإنسان تحضرا وتقدما زاد فهمه لحدود الله وقناعته بها. وإننا نرى معظم أهل الأرض ملتزمين بحدود الله في معظم تشريعاتهم وخاصة المتحضرين منهم.

لذا وصف الأعراب وهم أقل تحضرا من أهل المدن بأنهم: {وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله} (التوبة 97). هنا نلاحظ كيف بين أن حدود الله هي الرسالة وأن أم الكتاب هي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وكذلك يتبين لنا لماذا سمى مجمل الرسالة والنبوة “بالكتاب” لأن الكتاب آياته عينية من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس.

إن الفرق بين الصحابة ساكني المدينة ومكة وبين الأعراب في فهم حدود ما أنزل الله هو أن الصحابة أكثر تحضرا من الأعراب. ولنا أن نذكر فرق التحضر بين الصحابة وبيننا بسبب العنصر الزمني، وهو فرق أكبر بكثير من ذلك الفرق. لذا فنحن مؤهلون الآن لفهم حدود ما أنزل الله على رسوله أكثر بكثير من أهل القرن السابع الميلادي.

4 – إن مصطلح “الشريعة الإسلامية” هو مصطلح خاطئ في الأصل ووهمي، فلا يوجد شيء اسمه الشريعة الإسلامية والقانون المدني حيث أن الإسلام مبني على الحدود فقط وهو دين مدني بحت. ومن هذا المنطلق نرى أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم صالحة لكل زمان ومكان: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} (الأعراف 158). ونفهم لماذا كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بالإضافة إلى شرحنا بأنه خاتم الأنبياء بالقرآن وأن رسالته حرمة للعالمين.

5 – إن أكبر خطأ ارتكب في الفقه الإسلامي هو نزع الصفة الحنيفية منه وذلك بوضع المبدأ التالي: “لا مساغ للاجتهاد فيما ورد فيه نص صريح قطعي” والصحيح أن أساس التشريع الإسلامي هو الاجتهاد ضمن مجالات الحدود “دنيا أو عليا أو الاثنين معا” ويقف الاجتهاد عند النص الذي وردت فيه الحدود، لا على النص الذي وردت فيه الحدود وضمن مجال الحدود. إن اجتهد الإنسان وأخطأ فله أجر واحد وإن اجتهد وأصاب فله أجران. ومن هذا يتبين لنا أن المذاهب الفقهية جميعها هي من التراث وكذلك يتوضح لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم إن صح “الحلال بين والحرام بين” ولم يقل “الحق بين والباطل بين”.

6 – هنا يتوضح لنا مفهوم السنة تماما وذلك بأن محمدا صلى الله عليه وسلم اجتهد وتحرك ضمن نص الحدود بما يتلاءم مع ظروف شبه جزيرة العرب في القرن السابع. وبهذا كان لنا الأسوة الحسنة. ولا يعني أبدا أنه إذا طبق النبي صلى الله عليه وسلم في موقف منا لمواقف الحد الأدنى أو الحد الأعلى فعلينا أن نلتزم هذا الموقف وأن نستمر عليه إلى أن تقوم الساعة تحت شعار السنة، لأن هذا الموقف ليس له علاقة بالسنة، لذا فإن مبدأ القياس الذي وضعه الفقه الإسلامي الموروث هو مبدأ خاطئ، فلا يمكن قياس الشاهد على الغائب، أما التشريع فهو تشريع مبني على البينات المادية الموجودة كدليل ثم الالتزام بحدود الله.

7 – بما أن الحدود سميت حدود الله فهذا يعني أن الذي يضع حدود الله هو الله نفسه فلا يمكن لأي إنسان أن يضع حدودا بنفسه ويقول عنها حدود الله. لذا قال: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} (البقرة 79). فكل شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في السماح أو المنع ولم يرد ذكره أبدا ضمن حدود الله في الكتاب أو في الكتاب أصلا، هو إجراء مرحلي اتخذه الني طبقا للظروف التي عاشها مثال “رجم الزاني المحصن” أو تحريم التصوير. أما شروحات النبي صلى الله عليه وسلم في الحدود التي وردت في الكتاب فهي ملزمة، كفتح الله الصدقات وضع النبي حدا أدنى لها وهو 2.5% فهو ملزم ولا يمكن النزول عنه بل يمكن تجاوزه زيادة وهو ما يسمى بالطاعة المتصلة لله ورسوله.

8 – إن اجتهاد عمر بن الخطاب في عام الرمادة بعدم قطع يد السارق لا يعني أنه عطل حد السرقة، وإنما كان عمر بن الخطاب فاهما لحدود الله، أي أن قطع اليد هو العقوبة القصوى للسارق لذا كان موقفه هو عدم تطبيق العقوبة القصوى وهو في هذا لم يعطل حدود الله إطلاقا، وإنما اجتهد ضمن حدود الله ووقف على الحد الأدنى وهو العفو.

وألغى عمر بن الخطاب تطبيق آية توزيع الغنائم على المقاتلين لأنه كان يعلم أنها ليست من آيات الحدود.

9 – عندما تضع الدولة قانونا، فإن الدولة نفسها تتكفل بحمايته وتطبيقه مثل قانون السير والجمارك…الخ، وبما أن حدود الله هي من عنده وهو الذي وضعها فإن عقوبة تجاوزها تقع على الله لذا حذرنا الله سبحانه وتعالى من تجاوز حدوده وتعديها وقال إنه هناك جنة وهناك الأجر والأجران في الالتزام ضمن حدود الله. وهناك النار في الخروج عنها وتعديها. وكذلك نبهنا أنه عندما يتجاوز الناس حدود الله فإنهم يظلمون أنفسهم: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} (البقرة 229).

10 – إن العقوبة في الإسلام تجب الذنب، فعندما يقتل القاتل العمد أو يسجن القاتل عن غير قصد ففي هذه الحالة “يمحى ذنبه” لذا قال: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} (البقرة 179). أما إذا تم تجاوز حدود الله وتم الإفلات من العقوبة الدنيوية كأن يقتل الإنسان إنسانا آخر عن عمد ولم يعترف ويسلم نفسه ليحاكم وأفلت من العقوبة، أي تم تسجيل الجريمة ضد مجهول، ففي هذه الحالة فقط يكون الله له بالمرصاد ويأخذ عقوبته من الله وفي هذا قال تعالى عن القاتل العمد الذي يفلت من العقوبة الدنيوية: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} (النساء 93).

11 – في الحالات التي لم يرد فيها حدود نهائيا والتي سماها الفقهاء المصالح المرسلة مثل قانون السير وقانون الجمارك…الخ. لا تحتاج هذه الحالات إلى حدود من الله، ولو احتاجت لوضع لها حدودا لأنه في الإسلام التشريعي الحدود لله والتشريع للإنسان وحدود الإنسان تعتمد على نظرية “الأعراف”. وهناك تشريع إنساني حنيف “متغير ضمن حدود الله في حالات الحدود بما تمليه مصالح المجتمع آخذا بعين الاعتبار اليسر لا العسر” وتشريع بدون حدود أيضا بما تمليه مصالح الناس والمجتمع ضمن السياق التاريخي لتطور المجتمعات الإنسانية من حيث المعرفة والعلاقات الاقتصادية.

فلم يحدد الله سبحانه وتعالى لنا حدود الضرائب، فالحد الأدنى هو الصفر “الإعفاء” والحد الأعلى يمليه التطور الاقتصادي والاجتماعي والوضع الطبقي “ضريبة الدخل التصاعدية” حث أن الحد الأعلى متغير دائما وغير ثابت. والحد الأعلى يستنتجه المشرع من مصلحة المجتمع ككل. وهكذا فقط نفهم ما يقال عنه المصالح المرسلة حيث يضع حدوده المجتمع نفسه.

12 – إن حدود الله بشكل عام مغلقة ولا يسمح بتجاوزها، وتجاوز الحدود المغلقة فيه نار جهنم وعقوبة من الله تعالى مثل حدود الإرث وحدود السرقة والقتل ونكاح المحارم. ولكن هناك بعض الحدود وضع الله نسه لها حالات تجاوزها “أي أعطى جواز سفر لاجتيازها” مثل أكل الميتة والدم ولحم الخنزير حيث قال: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} (الأنعام 145). وكذلك الحد الأدنى لعبادة الصوم هي صوم رمضان فوضع هو نفسه حالة التجاوز بقوله: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (البقرة 185).

وكذلك الحد الأدنى للباس المرأة الوارد في الآية 31 في سورة النور وضع له تجاوزا في الحالات التي وردت في نفس الآية، وقد وضع التوبة في حالات التجاوز غير المسموحة بقوله: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} (النور 31).

13 – يمكن الاستفادة جدا من تشريعات الحد الأعلى والحد الأدنى وذلك بتطبيقها على حالات مماثل في المجتمع. فمثلا يمكن أن نقول إنه في الدولة العربية الإسلامية يجب ألا يقل الحد الأدنى للرواتب والأجور عن نصف الحد الأعلى للرواتب والأمور. وكذلك بالنسبة للمكافآت والعطاءات التي تمنحها الدولة أو المؤسسات للناس وكذلك بالنسبة للشريحة العليا من ضريبة الدخل بحيث تبدأ الضريبة من الصفر الإعفاء “الحد الأدنى” وتنتهي عند نسبة 66.6% من الأرباح “الحد الأعلى”.

14 – يجب أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى لا ينتظر من الناس السؤال حول وضع الحدود ليضعها لهم. فحدود الله أوحيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغض النظر عن المسألة، كما أن حدود الله في أم الكتاب لا يوجد فيها ناسخ ومنسوخ، وتجاوزها يعرض صاحبها للعقوبة الإلهية، ويمكن أن يكون الناسخ والمنسوخ في الحدود العينية فقط كحد الزنا، فجاء حد الزنا في الآي رقم 2 في سورة النور وهذا الحد ناسخ للآيتين رقم (15، 16) في سورة النساء وهما: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا} (النساء 15)، {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما} (النساء 16).

لذا قال: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} (البقرة 106). هذه الآية تؤكد أنه لا يمكن أن يكون النسخ أو النسيان إلا لآية كاملة وليس لجزء من آية. كما يتبين أن هناك نوعين من إلغاء الأحكام: النوع الأول النسخ، والنوع الثاني الإنساء “الإهمال عن قصد” والفرق بين الآيات المنسوخة والآيات المنساة هو أن المنسوخ موجود بين دفتي المصحف ومازال يذكر في الكتاب، أما لامنسى فهو آيات لأحكام مرحلية جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وحيا وتم نسخها وإهمالها عن قصد “أي عدم تثبيتها في المصحف”، وأعتقد أن من الآيات المنساة آية الرجم للزاني المحصن، فهذه الآية إن صح خبرها فهي منسوخة ومنساة، لذا فإن رجم الزاني المحصن الن ليس من الإسلام.

ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم الزاني المحصن قبل نزول سورة لنور لا بعدها. “عن خالد السيباني سألت عبد الله بن أبي أوفى: هل رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قلت: قبل سورة النور أو بعدها؟ قال: “لا أدري” (انظر فتح الباري ج11 ص 106-107).

ويجدر بنا هنا ن نشير إلى غياب الناسخ والمنسوخ من الشرائع السماوية قبل محمد صلى الله عليه وسلم لأنها كانت شرائع حدية عينية مؤقتة وكان البديل عن النسخ بعث رسول جديد. أما في الرسالة الخاتم فقد جعل الله سبحانه وتعالى الناسخ والمنسوخ تعليما لنا لنهتدي في تطوير التشريع ضمن حدوده. مع التنويه أن مسار الناسخ والمنسوخ كان من العنت إلى اليسر لا العكس.

وتجاوز حدود اله لا يمكن أن يكون فيه أية منافع للناس كقوله: {يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} (البقرة 219).

هنا يبين أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، فإذا كانت هذه من حدود الله فهل في تجاوز حدود الله منافع للناس؟ هذا أولاً. وثانيا إذ كانت من حدود الله فلقد وضع حالات سمح فيها بتجاوز حدوده في الطعام: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} (الأنعام 145). فلماذا قال: {فمن اضطر} في الطعام ولم تعمم على الشراب؟ لم يقلها لأنها ليست من الحدود! وإنما نصحنا الله بتجنب الخمر والميسر وكره لنا ذلك في قوله: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة 90)، {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون} (المائدة 91)، {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين} (المائدة 92).

هنا تبين لنا أن من قال إن الاجتناب هو أقل من التحريم فقد صدق، لن التحريم هو لحدود الله كقوله: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} (المائدة 3). وأن من يقول إن الاجتناب أعلى من التحريم، فقوله من باب المزاودة فقط. وإني أقول لهؤلاء الناس أيهما أكبر. من يشرب كأسا من الخمر أم من ينكح إحدى محارمه؟ ففي حال تحريم نكاح الأخت قال: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم… الآية} (النساء 23). ثم هنا أيضا بين لماذا أمرنا باجتناب الخمر والميسر بقوله: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} (المائدة 91).

أما في حال تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يبين لنا لماذا؟ لأنها حدود الله وعلينا أن نسلم بها ونقبلها. ثم إنه قبل الصلاة من شارب الخمر بقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون… الآية} (النساء 43). وهذه الآية جاءت في سورة النساء، ووضعها مع أحكام لا تزال سارية المفعول إلى اليوم وهي ليست منسوخة لأن النسخ يشمل الآية كاملة وليس جزءا منها كما بين في الآية رقم 106 من سورة البقرة.

وأخيرا بين أنها رجس، والرجس هو من الاختلاط في الأمور. ولكن يبقى أن أنوه أنه لا يصح أن يفهم كلامي على أنه دعوة إلى احتساء الخمور وتسليم العقول لها وتعطيلها بها بل إن قصارى ما أردت الوصول إليه هو أن الله سبحانه أراد إفهامنا أنه يتخذ موقفا من الخمور لأنها تنافي الفطرة، وهذا ما يفعله أهل الأرض الآن جميعا على درجات مختلفة وأنه يأمر السكران بالابتعاد عن الصلاة لأنه لا يعلم ما يقول، والسكر المؤدي إلى فقدان الوعي بالقول والعمل هو الذي ينتج عن الإفراط في شرب الخمر وليس بشربها فقط. فعلى الباحثين المسلمين فرز آيات الحدود في أم الكتاب دون أي تشنج ودون مزاودات هدفها تخويف الناس وزيادة العنت عليهم.

نستنتج من نظرية الحدود ما يلي:

التشريعات العينية:

يتأكد طرحنا السابق الذي طرحناه عن تاريخ الرسالات السابقة والتي كانت تأتي لرسل وأنها عبارة عن أحكام منفصلة عينية وجزء من الوصايا، ثم جاءت الوصايا “الفرقان” إلى موسى وجاء الكتاب وهو أيضا دستور كامل من التشريعات ولكنها عينية وليست حدودية كقوله تعالى عن نموذج لتشريعات بني إسرائيل: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (المائدة 45). وهذه الآية هي حالة خاصة من حالات أم الكتاب، وفيها نلاحظ كيف أعطى تشريعا عينيا ولم يعط تشريعا حدوديا، ونلاحظ في كتاب موسى أن التشريع هو تشريع مشخص “فؤادي” إذ لم تصل الإنسانية وقتئذ إلى المفهوم التجريدي للتشريع الذي عبر عنه بالحدود ولكن أجبرهم على التقيد به حرفيا بقوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون} (المائدة 45).

حيث أن الإنسان لم يكن قد نضج بعد للاجتهاد ضمن الحدود. وعندما أراد تعديل شريعة موسى العينية (انظر شريعة موسى في الكتاب المقدس) أرسل عيسى بن مريم لتعديل هذه الشريعة نحو التخفيف: {ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم} (آل عمران 50). ولكن بقي كتاب عيسى الذي هو شريعة موسى معدلة عينيا لا حدوديا.

وبما أن شريعة عيسى هي شريعة موسى معدلة عينية فهي تحمل الطابع الزماني البحت، وبما أن هاتين الشريعتين مربوطتان إحداهما بالأخرى فقد ربط نبوة عيسى “الإنجيل” بنبوة موسى “التوراة”. لذا أتبعها بقوله: {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين} (المائدة 46).

هنا يكمن سر الوهم الأول الذي وقع به كثير من المفسرين عندما ظنوا أن ما بين يدي القرآن في قوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه} (يونس 37). هو التوراة والإنجيل على غرار تصديق إنجيل عيسى لتوراة موسى. هذا الكلام صحيح لو لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء والرسل حيث أن رسالته ونبوته تحمل طابعا خاصا تماما لا تحمله الرسالات والنبوات السابقة.

لذا فإن القرآن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن تصديقا لا للتوراة ولا للإنجيل، بل كان تصديقا لأم الكتاب “الرسالة” حيث أن القرآن لا يحمل الطابع الزماني المكاني، بل هو صالح لكل زمان ومكان، وكذلك أيضا حدود أم الكتاب لا تحمل الطابع الزماني المكاني ولكنها قابلة للتحوير، فجاء القرآن مصدقا وحافظا لها، لذا سمى التشريع عند موسى وعيسى الكتاب، وعند محمد صلى الله عليه وسلم أم الكتاب. لذا فإن أم الكتاب لها خاصتان أساسيتان:

  1. أنها من عند الله وليست من اللوح المحفوظ “وعنده أم الكتاب”.
  2. أن حدود أم الكتاب يمكن أن تستنتج منها ملايين الكتب في التشريع وليس كتابا واحدا، لذا سماها أم الكتاب.

أما الوهم الثاني الذي وقع فيه كثير من المفسرين والفقهاء (ولم يقع فيه عمر بن الخطاب) والذي نتج عن الوهم الأول فهو التالي: بما أن كتاب موسى وعيسى يحتوي على تشريعات عينية توجب الوقوف على النص فقد ظنوا أن تشريعات أم الكتاب عند محمد صلى الله عليه وسلم هي على غرار ذلك أي توجب الوقوف على النص لا عند حدود النص ولم ينتبهوا إلى الناحية الحدودية التي جاءت فقط لمحمد صلى الله عليه وسلم.

إن هذا هو سبب تخلف التشريع الإسلامي في الوقت الحاضر وهو سبب التسمية الخاطئة “شريعة محمد” على غرار تسمية “شريعة موسى” وهو تقليد اليهود والنصارى، وكما كان عند اليهود والنصارى أحبار ورهبان، صار عندنا ما يسمى السادة العلماء “المشايخ”. هذا فيما يتعلق بفهم التشريع في أم الكتاب “الرسالة” وقد حذا بعض المفسرين نفس المنهج عندما اعتمدوا على التوراة في تفسير القرآن ونسوا أن التوراة مرحلية والقرآن غير مرحلي.

ثانياً – العبادات:

هي التي تحدد صلة الإنسان بالله وهي توقيفية، وقد خضعت للتطور والتبدل من دين إلى آخر: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} (المائدة 48). وتتربع الصلاة على رأسها وهي صلة مباشرة بين العبد وربه. وأهم خاصية للعبادات هي سقوط العقل فيها أي أنها لا تخضع للعقل إطلاقا، ولا لقواعد البحث العلمي الموضوعي بعكس الحدود التشريعية والوصايا وذلك لورود المقدمات والعمليات والنتائج معا. ففي أي مسألة من المسائل جاءت فيها المقدمات والنتائج معا يسقط فيها العقل “العلمي” بالضرورة. فمثلا إذا طلبنا من إنسان ما أن يسير مسافة كيلو متر واحد ويأخذ مقابل هذا السير عشرة آلاف دولار:

أي: المقدمة ====> سير 1كم.

النتيجة ====> ربح عشرة آلاف دولار.

ففي هذه الحالة لا داعي أبدا أن يسأل هذا الإنسان لماذا يجب أن يسير، أي لا داعي لأن يفكر في هذه المسألة أو يعقلها. حيث وردت فيها المقدمات والنتائج معا. وكذلك إذا أعطينا إنسانا ما نص مسألة وطريقة الحل والنتيجة، ففي هذه الحالة أسقطنا العقل عنده. ففي العبادات هناك حالة الصلاة وطريقة الصلاة ونتيجة الصلاة.

وعلينا أن نعلم أنه كلما زادت المسائل التي تحوي على المقدمات والنتائج معا ازداد سقوط العقل. هذه الناحية مهمة جدا في العملية التعليمية والتربوية وفي وضع سياسة التربية والتعليم، حيث أن العملية التعليمية والتربوية يجب أن تقوم على أحد أطراف المسألة لكي يفكر الإنسان المتعلم كيف يصل إلى الطرف الآخر، وبما أن المنطق هو استنتاج المجهول من معلوم، فيفترض أن المعلوم هو المقدمة، والمجهول هو النتيجة. والعبادات بالنسبة للإسلام تمثل التقوى الفردية وليس الاجتماعية أو التشريعية.

لذا فإنه من الخطأ الفاحش أن نقول إن الصلاة رياضة والصوم للصحة. أو أن نضع فلسفة عقلية للعبادات. هنا يجب أن لا نخلط بين وضع فلسفة عقلية للعبادات وبين فهم النصوص التعبدية على نحو يقتضيه العقل.

فلنر الآن كيف جاءت المقدمات والنتائج معا في الكتاب بالنسبة للعبادات:

1 – الصلاة والزكاة:

{قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون} (المؤمنون 1-4)، {والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (المؤمنون 9-11).

هنا نلاحظ كيف أن المقدمة هي الصلاة والزكاة، والنتيجة {يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (المؤمنون 11). أما آلية الصلاة والزكاة فقد شرحهما النبي صلى الله عليه وسلم فاكتملت الشروط الثلاثة المسألة وطريقة الحل ونتيجة الحل وعندما يذكر الصلاة والزكاة في الكتاب يذكر معها صفة المفلحين كقوله: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} (البقرة 3-5) وقوله: {الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} (لقمان 4-5). وقوله: {فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون} (الروم 38).

2 – الصوم:

{وأن تصوموا خير لكم} (البقرة 184) “مقدمة ونتيجة”. {والصائمين والصائمات —> أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما} (الأحزاب 35).

مقدمة “والصائمين والصائمات” = نتيجة “أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما”.

وهنا يجب علينا التعليق لماذا لم ترد الصلوات الخمس التي يؤديها المسلمون صراحة في الكتاب، بينما جاء الحج مفصلا أكثر من الصلاة.

الصلاة في اللسان العربي جاءت من الصلة والدعاء، ففي معنى الدعاء فقط جاءت في قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (الأحزاب 56). وقوله تعالى: {وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} (التوبة 103). وقوله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} (البقرة 157). وقوله تعالى: {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة} (البقرة 157). وقوله تعالى: {ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول} (التوبة 99). وقوله: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} (الأحزاب 43).

وفي معنى الصلة بين العبد وربه والذي يعتبر الدعاء جزءا أساسيا منها جاءت في قوله تعالى: {وأوصاني بالصلة والزكوة ما دمت حيا} (مريم 31). فهنا الصلاة التي أوصى الله بها المسيح لا تعني صلاة الصبح ركعتين والظهر أربع ركعات وبقية الصلوات الخمس. وإنما هي صلاة “صلة” خاصة بالديانة المسيحية. وكذلك قوله تعالى على لسان لقمان: {يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر} (لقمان 17).

ترى هل كان لقمان يأمر ابنه بالصلوات الخمس؟ أم كان يأمره بالدعاء الذي هو الصلة بين العبد وربه والذي هو جوهر العبادة!! وكذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: {رب اجعلني مقيم الصلاة} (إبراهيم 40). وقوله تعالى: {والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة} (الحج 35). وقوله تعالى عن إسماعيل: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} (مريم 55). وقوله تعالى: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} (آل عمران 39). هنا أيضا صلاة زكريا لا تعني أنه كان يصلي الأوقات الخمسة كصلاة المسلمين.

أما الصلاة بمعنى صلاة الظهر وبقية الصلوات أي صلاتنا نحن المسلمين فجاءت بشكل صريح في قوله: {يا ايها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} (الجمعة 9).

هنا الصلاة تعني صلاة الجمعة التي نعرفها. وبمعنى الصلوات الخمس الفرائض أو النفل التي نعرفها جاءت آية الوضوء: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم… الآية} (المائدة 6).

وهكذا نلاحظ لماذا لم يأت تفصيل الصلاة التي نعرفها نحن المسلمين في الكتاب. ففي هذه الحالة تحصل مغالطة كبيرة فنظن أنه كلما وردت الصلاة تعني الصلوات الخمس الإسلامية فيصبح الخبر من الناحية التاريخية غير صحيح.

هنا نفهم لماذا كان من مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم شرح الصلاة الإسلامية بأوقاتها الخمسة وبعدد الركعات في كل صلاة. علما بأن الركوع والسجود والقيام وهي من أركان الصلاة كلها وردت بشكل مفصل في الكتاب. ونفهم لماذا لا تسقط الصلاة عن أحد لأنها صلة العبد بربه، فيمكن للإنسان في حالة الاضطرار أن يصلي حتى بواسطة رموش عينيه.

هنا أريد أن أنبه إلى الوضوء والطهارة والغسل والتفصيلات الفقهية في هذا الصدد وذلك بإيراد الحقيقة التاريخية التالية:

لقد ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي، ونحن نعلم علم اليقين الحقائق التالية:

لقد ظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي، ونحن نعلم علم اليقين الحقائق التالية:

1 – أن شبه جزيرة العرب منطقة شحيحة جدا بالمياه، ويعتبر الماء مادة عزيزة جدا بالنسبة للعرب، وأن مدينتي مكة ويثرب لا تقعان على البحر.

2 – لا يوجد في شبه جزيرة العرب في ذاك الوقت تمديدات صحية، مياه حلوة ومياه مالحة وحمامات في المنازل.

3 – عدم وجود دورات مياه “تواليت” في المنازل حيث كانت نساء المدينة تخرج ليلا خارج المدينة للتغوط.

هذه الأمور الثلاثة تبين أن مستوى النظافة العامة وإمكانياتها عند الناس كان أدنى منه عندنا الآن. فنحن الآن نعيش في القرن العشرين الميلادي “الخامس عشر الهجري” بشروط أفضل بكثير مما كان عليه الناس في القرن السابع الميلادي من حيث توفر المياه ووسائل النظافة الخاصة والعامة.

وأعتقد أنه لا يشك أحد من الناس بصحة شروط الطهارة والوضوء عند الصحابة وعند نساء المسلمين في يثرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الشروط التي تعتبر أدنى بكثير من شروطنا المعاصرة. لذا فإن الصفحات الطوال التي كتبت عن الوضوء والطهارة والغسل في كتب الفقه الموروثة هي كلام لا يتفق أبدا مع الشروط التي عاشها الناس في صدر الإسلام في يثرب ومكة حيث أن الاستفاضة والشرح المفصل لهذه الأمور هو نوع من الترف الفقهي غير مفيد وغير عملي.

وإذا أراد إنسان ما أن يتقيد بحرفية هذه الكتب فإنه سيصاب بداء الوسواس بصحة وضوئه وطهارته وصلاته، وقد تم ترسيخ مثل هذا النوع من الفقه خلال قرون عصور الانحطاط. ومن المؤسف أن يدرس اليوم على أنه جزء أساسي من الفقه الإسلامي حيث أن العبادات وخاصة الصلاة والصوم لا تحتاج إلى أكثر من ساعة واحدة لشرحها لأكثر الناس سذاجة، وقد فرضت الصلاة على إنسان يبلغ من العمر عشر سنوات، فهذا يعني أن الإنسان بعمر عشر سنوات قادر على أن يستوعبها.

أما الصوم من الناحية اللغوية فهو الامتناع عن الكلام كقولنا صام الديك أي امتنع عن الصياح. وهذا المعنى جاء في قوله تعالى: {فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا} (مريم 26). ثم جاء معنى الصوم الإسلامي محمولا عليه وهو الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح من الفجر حتى الليل في شهر رمضان.

3 – الزكاة:

الزكاة كما جاءت ي الكتاب هي للمسلمين ولغير المسلمين كقوله تعالى عن المسيح: {وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا} (مريم 31). وقوله عن إسماعيل: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة} (مريم 55). فالزكاة من الناحية اللغوية تعني النماء والزيادة والطهارة “التزكية”.

وبمعنى التزكية جاءت في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} (التوبة 103). وهذا ما نستعمله في المصطلح الحديث بأن فلانا زكى فلانا أي شهد بصلاحه من ناحية الكفاءة والأمانة لمنصب ما.

فالزكاة في معناها العام هي الزيادة والنماء. وهكذا نفهم مفهوم زكاة المال، وكيف جاءت الزكاة في الإسلام وقبل الإسلام في نفس المصطلح. هنا نلاحظ دقة الكتاب في الزكاة بأنه تركها مفتوحة من ناحية الكم وكيفية الجباية ولكنه وضع لها حدا أدنى وما زاد عنه فهو صدقات لذا فمصطلح الصدقات أعم من لزكاة، وحددها بشكل دقيق من ناحية الإنفاق. وأعتقد أن هذا الإطلاق والتحديد للسبب التالي:

أ- الإطلاق من حيث الكم والكيففي الجباية: بما أن الزكاة مال يدفع على شكل نقدي أو عيني، وبالتالي فإن الوضع الاقتصادي التاريخي وبنية الدولة التاريخية يؤدي دورا هاما في الكم والكيف، فقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة بأنها 1/40 أي 2.5% وأعتقد أن هذا التحديد هو كحد أدنى للزكاة “للصدقات” لا كحد أعلى، أما من يدفع الزكاة ومن لا يدفع فهذا متروك للظروف الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية ويحدد من قبل المجتهدين حسب هذه الظروف. أما من يجبي الزكاة فقد تمت جبايتها لأول مرة من قبل الدولة حيث أن العرب قبل الإسلام كانوا قبائل. فوقع تأسيس الدولة العربية على عاتق الإسلام.

وكانت الزكاة هي أول دخل رسمي للدولة إذ ربط الدولة بأمر تعبدي من الناحيةا لمالية، ولكن هذا الربط كان ربطا مرحليا، إذ بعد نمو الدولة وإيجاد دخول أخرى لها كان يمكن للدولة أن تشكل ميزانيتها بدون أموال الزكاة. وتحديد أوجه الإنفاق للزكاة أكد أن الدولة لها مهمة أكبر من مهمة الأوجه التي تنفق الزكاة من أجلها ففي عصرنا الحاضر هناك المنشآت المدية “الطرق والجسور وسكك الحديد والموانئ والهاتف والكهرباء وتمديدات مياه الشرب والمياه المالحة ومنشآت البحث العلمي والجامعات والمدارس والمشافي والبلديات..الخ”. كل هذه البنود لا تدخل تحت بند الزكاة ولكنها تدخل كلها أو جزء منها ضمن مسؤولية الدولة حسب بنية الدولة الاقتصادية.

لذا فإنه من السذاجة بمكان، الظن بأن الزكاة هي ضريبة، أو أن الزكاة هي مصدر الدخل في الدولة الإسلامية. إذ قد تكون هناك دولة مبنية على أسس إسلامية دون أن تجبي زكاة من أحد، وهذا يقودنا مباشرة إلى تحديد أوجه الإنفاق للزكاة.

ب- التحديد في الإنفاق: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} (التوبة 60).

لقد جاء هذا التحديد للإنفاق لكي يؤكد أن الزكاة ليست ضريبة للدولة وليست البديل للضرائب ولنفقات الدولة، ويمكن أن تكون دخلا للدولة في ظروف تاريخية معينة كما حدث عند قيام الدولة العربية الإسلامية.

ومن ناحية أخرى جاء هذا التحديد لكي يؤكد ويرد على بعض المزاودين بأن الإسلام يعترف بوجود الفوارق الطبقية أي أن هناك يدا عليا ويدا سفلى. هذا صحيح، فالإسلام يعترف بوجود فروق الدخل بين الناس لأن هذا واقع موضوعي، حيث أن الإسلام لا يدور في الأوهام ولا الطوباويات وعليه فإن مسألة الغنى والفقر دائما مسألة نسبية وليست مطلقة تتبع الظرف التاريخي والبنية الاقتصادية لمجتمع ما. وإذا نظرنا إلى كل دول العالم دون استثناء مع أنها ذات بنى اقتصادية مختلفة رأينا أن مسألة الغنى والفقر لها وجود نسبي في كل هذه الدول وأنها تأخذ مظاهر مختلفة حسب بنية الدولة والمجتمع.

لأن الإسلام يؤمن بالمساواة المطلقة بين الناس في إنسانيتهم وحقهم في الحياة والحرية بغض النظر عن عقائدهم وعن مركزهم الاجتماعي والاقتصادي، وحيث أن الحياة والحرية هما هبة من الله لعباده، ولكنه يقر بفوارق الدخل والدرجات بين الناس انطلاقا من قوانين الجدل المادي حيث أن قانون التأثير والتأثر المتبادل لا يمكن أن يعمل بشكل 50% و50% أي يمكن أن يؤثر × على Y على X وتبقى العلاقة بينهما علاقة تقابلية زوجية غير تناقضية. فإذا كانت × تؤثر على Y كليا دون تأثير متبادل من Y على X فهنا يحصل الخلل، أي كلما ضعفت العلاقة المتبادلة بينهما زاد الخلل.

وقد يقول قائل: إذا كان الدخل القومي كله بيد الدولة، فهل تلغى الزكاة؟ الجواب: لا، لا يمكن للسببين التاليين:

  • لا تلغي على مستوى فردي لأنه لا يمكن أن تكون هناك دخول متساوية بين الأفراد لأن التفكير بهذا الاتجاه هو ضرب من ضروب العبث.
  • إذا نظرنا إلى أوجه صرف الزكاة، فمن المستحيل قطعيا إلغاؤها من أي مجتمع مهما كان نوعه ودرجة رقيه. فحسب التطور الاجتماعي والاقتصادي يمكن إلغاء جزء من هذه البنود كما حدث أن ألغى عمر بن الخطاب “رض” بند “والمؤلفة قلوبهم” حيث امتنع عن الدفع لهم من أموال الزكاة لزوال سبب الدفع.

وننتقل الآن لنناقش ما هي الأوجه التي لا يمكن أن تلغى في أي مجتمع مهما كان نوعه:

1 – الفقراء والمساكين: لقد ميز الكتاب بين الفقير والمسكين، حيث أنهما حالتان مختلفتان تماما. فالفقير جاءت من فعل “فقر” وهو في اللسان العربي أصل صحيح يدل على انفراج في شيء من عضو أو غير ذلك، ومنه جاء الفقار للظهر الواحدة “فقرة-فقراة” ومنه جاء العمود الفقري، ومنه اشتقت كلمة الفقير وهو المكسور فقار الظهر من ذلته. فالفقير هو الإنسان المذلول من قلة الدخل كأنه قصم ظهره، ولكن هذا الإنسان ليس من الضروري أن يكون مسكينا.

فمصطلح الفقير هو مصطلح متطور حسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمكان والزمان الذي نعيش فيه. لذا وجب علينا عدم التقيد بمصطلح الفقير الذي وضعه الفقهاء في عصور سابقة لأنه قد لا ينسجم مع معطياتنا المعاصرة وعلينا أن نحدد مصطلح الفقير وفقا للشروط الموضوعية التي نعيشها نحن، لا وفقا للشروط التي عاشها الفقهاء السابقون. فمثلا يمكن دمج الأيتام الذين لا معيل لهم ضمن الفقراء والصرف على مؤسسات رعاية الأيتام من الزكاة.

أما المسكين فقد جاءت من فعل “سكن” ومنه جاء السكون والمسكن وهو المكان الذي يسكن فيه الإنسان ويهدأ، فالمسكين هو الإنسان القليل الحيلة أي الذي فيه سكون نسبي عن غيره كالأعمى والأصم الأبكم والمقعدين والقاصرين عقليا أو فاقدي أحد أعضاء الحركة كاليد أو الرجل أو الكف. كل هؤلاء الناس يدخلون تحت بند المساكين. هنا نلاحظ كيف أنه يمكن للإنسان أن يكون فقيرا ولا يكون مسكينا والعكس صحيح. قد يسأل سائل: إذا كان الإنسان مسكينا غير فقير فلماذا نساعده؟ الجواب: هل يمكن لإنسان واحد أعمى أن يفتح مدرسة لتعليم نفسه ويؤهل نفسه للعيش في المجتمع…؟ وقس على هذا. حيث أن كل مؤسسات تأهيل المساكين ورعايتهم تأخذ أموالها من الزكاة.

2 – الغارمين: هم الناس الذين وقع عليهم غرم ولا يستطيعون سداده كتأدية الدية للقتل الخطأ. لذا وجب علينا تحديد الغارمين وفق شروطنا المعاصرة.

وهنا يجب علينا أن ننبه إلى نقطة مهمة جدا وهي أن الغارمين في الإسلام تسدد غراماتهم من الزكاة وليس على حساب المتضررين من الناس أي أن حقوق الناس أمانة في عنق الدولة ولا يجوز للدولة أن تعفو مجانا عن الذين تسببوا في الضرر للآخرين نيابة عن المتضررين. وإذا أرادت أن تعفو عنهم فعليها أن تسدد عنهم التزاماتهم. لذا جاء بند الغارمين كأحد بنود الزكاة.

3 – ابن السبيل: هم الناس الذين انقطعوا في أثناء السفر كأن سرقت نقودهم وانقطعوا.

إنني ذكرت هنا أربع بنود فقط من بنود صرف الزكاة لأنه لا يمكن أن يخلو مجتمع مهما كان نوعه من هؤلاء الناس “الفقراء حسب تعريف معاصر والمعوقين بكل أنواعهم، الغارمين، والمقطوعين في السفر”. وأعتقد أن أدق تعريف للفقير “هو الإنسان غير القادر على سداد أي قرض مهما كانت قيمته نسبة للظروف الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الذي يعيش فيه”.

لقد جاءت بنود صرف الزكاة صريحة لكي يؤكد الله سبحانه وتعالى حقوق هؤلاء الناس على مجتمعهم حيث أن هذه الحقوق لا مزاح فيها.

فإذا كان الدخل القومي كله بيد الدولة فهذا يعني أن 2.% من ميزانية الدولة كحد أدنى يجب أن ينفق على هذه البنود. فلنتصور الآن مدى رقي العلاقات الإنسانية في دولة من هذا النوع. فإذ كانت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لها ميزانية لا تقل عن 2.5% من ميزانية الدولة ككل ومهمتها رعاية هؤلاء فقط فهذا مؤشر كبير للمستوى الحضاري للدولة.

هنا أريد أن أنبه أنه على المجتهدين المعاصرين إعادة النظر بنصاب الزكاة ومن يدفع وعلى ماذا تدفع الزكاة وتعريف الفقير والغارم وتحديد طرق الجباية وعدم الاعتماد فقط على الفقهاء القدامى حيث أن شروطنا الاقتصادية ومتطلبات الحياة والعلاقات الإنتاجية أصبحت متغيرة تماما عن العصر الذي عاش فيه الفقهاء القدامى.

أنواع العبادات:

العبادات في الإسلام أربع وهي الصلاة والزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.

فلنناقش هذه العبادات من حيث النوع والمظهر، فأقدم العبادات هي الحج:

الحج:

لقد بدأ الصلة بين العبد وربه منذ أقدم العصور بشكل مشخص على شكل قرابين وأضحيات. فنرى في كل الديانات القديمة مفهوم الأضحية للإله أو الآلهة. هذا الشكل من التعبد له أساس إلهي ولكنه تحول إلى صور وثنية مختلفة بتعدد الآلهة، فالأضحية هي صلة مادية للاقتراب من الإله، ولها مكان معين تؤدي فيه، أي أنها عبادة مشخصة بالحواس “عبادة فؤادية”. فإذا نظرنا إلى الحج رأينا أنه العبادة الإسلامية المشخصة. فالكعبة بناء حجري يتم الطواف حوله. والصفا والمروة صخرتان يتم السعي بينهما، ثم الوقوف بعرفة والرجم والأضحية. كل هذه العمليات تتم وفق أشياء مشخصة بما فيها الرجم، لذا فإنه لا يستغرب أن الحج كان قبل الإسلام.

ثم جاء الإسلام وهذبه وثبته، وإنه من السذاجة القول بأن الحج هو من بقايا الوثنية ولكن من الصحيح أن نقول: إن الحج هو استمرارية العبادة الفؤادية البدائية المشخصة بحاستي السمع والبصر. وهكذا نفهم قوله تعالى على لسان إبراهيم: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} (إبراهيم 37). هنا نلاحظ أن الحج استمرارية تاريخية للعبادات القديمة والتي تم فيها التباس في الفهم على أنها استمرارية للوثنية مع أنها استمرارية للشكل الفؤادي المشخص للعبادات الربانية.

وعلينا أن نلاحظ ما يلي:

لقد وجه الكتاب الخطاب حول الصلاة والزكاة والصوم للمؤمنين مباشرة كقوله: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون} (المؤمنون 1-2) ولكن حول الحج تم توجيه الخطاب إلى الناس في قوله: {والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} (آل عمران 97). وقوله: {وأذن في الناس بالحج} (الحج 27) هذه الناحية يجب دراستها حيث ن الحج وأماكن الحج لها مدلول أساسي بالنسبة للناس أجمعين، وقد ذكرت هذا في مقام آخر في الكتاب.

الصوم:

عبادة لها علاقة بالغريزة الإنسانية وهي الطعام والشراب والجماع الجنسي. فالصوم أساسه سيطرة العقل والإرادة الإنسانية الواعية عل الغرائز البشرية غير الواعية وهو عبادة شخصية فردية بتة.

الزكاة:

عبادة لها علاقة بشهوة التملك والمعاملات المالية بين الناس ومدى التزام الإنسان بالعلاقة الغيرية غير الفردية المتحضرة مع الآخرين.

الصلاة:

وهي عبادة مجردة بحتة حيث أنها صلة مباشرة للعبد بربه وهي أرقى العبادات ليس لها علاقة بالغيرية أو بالأمور الشخصية الأنانية. ولنلاحظ هذه الناحية المهمة جدا فنرى أن قمة لمجرد في العبادات وهي الصلاة ارتبطت بقمة المشخص في العبادات وهي الحج حيث أن الكعبة هي قبلة المصلي وهي من المشخصات.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل هناك حدود في العبادات؟ إن العبادات أيضا تخضع لنظرية الحدود، إذ نرى أن العبادات وهي الصلاة والصوم والحج والزكاة تخضع للحدود:

1 – الصوم: الحد الأدنى هو صوم رمضان ولا يوجد حد أعلى وله رخصة لاجتيازه.

2 – الزكاة: لقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحد الأدنى للزكاة وهو 2.5% وبما أن هذه النسبة هي من وضع النبي صلى الله عليه وسلم وهي من الحدود فيجب التقيد بها كحد أدنى، فهي متغيرة صعودا، لذا جاء مصطلح الصدقات أعم من الزكاة.

3 – الحج: الحد الأدنى مرة واحدة في العمر على المستطيع.

4 – الصلاة: لم يرد الحد الأدنى للصلاة صراحة في الكتاب على أنه الأوقات الخمس “الصبح، الظهر، العصر، المغرب، العشاء” ولكن ورد صراحة صلاة الجمعة وتم التأكيد على صلاة العصر {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة 238). وتم الحث بشكل مؤكد على إقامة الصلاة. أي أننا حسب منطوق الكتاب يمكن أن نحدد أربعة مستويات للصلاة:

  • المستوى الأول – صلاة الجمعة “جاء أكبر تأكيد عليها حيث وردت صراحة في الكتاب” {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (الجمعة 9).
  • المستوى الثاني – الصلاة الوسطى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة 238).
  • المستوى الثالث – الصلوات الخمس {والذين هم على صلواتهم يحافظون} (المؤمنون 9)، {والذين هم على صلاتهم يحافظون} (المعارج 34).
  • المستوى الرابع – النفل والتطوع {والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما} (الفقران 64).

وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على مستوى صلاة الجمعة والصلوات الخمس في حديثه إن صح “الصلاة مكفرة لما بينها الصلاة للصلاة والجمعة للجمعة”.

من منطوق الآيات والحديث إن صح نستنتج أن تارك صلاة الجمعة وهي أكبر مستوى من التأكيد يمكن أن يخرج من دين الإسلام التعبدي. ويجب أن ننبه هنا ن العبادات في الإسلام هي من التقوى الفردية لا الاجتماعية، أي أنها تخص كل إنسان على حدة ولا علاقة لها بالدولة وبالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.

5 – الوضوء: الحد الأعلى والحد الأدنى جاءا في الآي رقم 6 من سورة المائدة. الحد الأعلى للوضوء كما ورد في أول الآية، والحد الأدنى التيمم، والاجتهاد هو الحركة بينهما. ويمكن أن يكون الحد الأعلى للوضوء هو الاغتسال والحد الأدنى هو التيمم.

 

(1) تعليقات
  1. لقد سعدت جدا بهذا المقال فانا منذ 6 سنوات وفى ذهنى هذه النظرة التى تحتوى على تجديد فى الفقه وهذا بحكم تخصصى مثل حضرتك فانا خريج علوم القاهرة قسم حاسبات علميه ولدى مدونه من 2009 باسم “حد الهدى” ابحث عنها بعلامات تنصيص وارجو ان نتعاون فى هذه المقاربه كى ننفع انفسنا والمسلمين ولى مدونه اخرى باسم القيم الاحصائيه تصنع فقها جديدا واللينك وضعته مكان الموقع

اترك تعليقاً