الفصل الأول: قوانين جدل الكون

أولاً: الثنائية التلازمية “الجدل الداخلي في الشيء الواحد” “جدل هلاك الشيء”

إن صراع العنصرين المتناقضين داخلياً، الموجودين في كل شيء يؤدي إلى تغير شكل كل شيء باستمرار، ويتجلى في هلاك شكل ذلك الشيء وظهور شكل آخر. وفي هذا الصراع يكمن السر في التطور والتغير المستمرين في هذا الكون ما دام قائماً. هذا هو ما يسمى بالحركة الجدلية الداخلية التي أطلق عليها في بعض الترجمات مصطلح النفي ونفي النفي. وقد أطلق عليها القرآن مصطلح التسبيح: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} (الإسراء 44).

وقوله: {سبح لله ما في السموات وما في الأرض} (الحشر 1- الصف 1) وقوله: {يسبح لله ما في السموات وما في الأرض). (الجمعة 1-التغابن 1).

والتسبيح جاءت من “سبح” وهو الحركة المستمرة “كالعوم في الماء” كقوله عن حركة كل شيء: {كل في فلك يسبحون} (الأنبياء 33). هذا الصراع يؤدي إلى التغير في الأشياء، وينتج عنه مقولة أن “الموت حق” والله حي باق. وهكذا نفهم معنى الآية: {ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون} (القصص 88) وسيبقى هذا القانون سائداً حتى يهلك هذا الكون المادي “عند النفخة الأولى في الصور = الساعة” لينشأ على أنقاضه كون آخر جديد مؤلف من مادة ذات خصائص جديدة “عند النفخة الثانية في الصور التي تؤدي إلى البعث”. وفي ضوء ذلك تتضح مقولة “البعث حق”.

وقولنا (سبحان الله) في صلاتنا هو إقرار العاقل بهذا القانون، حيث ورد التسبيح في القرآن في حالتين: حالة تسبيح الوجود، وحالة تسبيح العاقل” أي حالة الإقرار العاقل بقانون التطور” وقد وردت الحالتان في القصص عن يونس {وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} (الصافات 139-144) هنا وضح بأن قانون تسبيح الوجود عام ينطبق على يونس والحوت كانطباقه على بقية الأشياء. ولو لم ينطبق عليه هذا القانون لانتفت ظاهرة الموت بالنسبة له وبقي إلى يوم يبعثون. وفي تسبيح العاقل عن يونس قال: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} (الأنبياء 87).

وفي كل آيات الكتاب وردت “سبحانك” بهذا المفهوم أي عندما يقارن الله مع غيره من الأشياء كقوله: {قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه} (يونس 68) {ويجعلون لله البنات سبحانه} (النحل 57). (سبحانه وتعالى عما يصفون}. (الأنعام 100). {ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه} (مريم 35) {سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً} (الإسراء 43). {لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار} (الزمر 4).

أما القول بأن “سبحان الله” هو تنزيه الله من النقائص والعيوب فهو قول قد مضى زمانه، إّ أن النقائص والعيوب تحمل معنى معرفيا ًومعنى اجتماعياً إنسانياً فهي تحمل مفهوم النسبية حيث تتغير هذه المفاهيم من مكان لآخر ومن زمن لآخر. إن التسبيح الحقيقي للأِشياء كلها في وجودها منذ خلق الله هذا الكون المادي وهو منزه عن هذه الحركة في ذاته لأنه واحد “أحد صمد” “ليس كمثله شيء” حيث أن هذه الحركة تؤدي إلى هلاك الأشياء “الموت”.

لقد عبر القرآن بشكل مباشر عن قانون صراع المتناقضات الداخلي في قوله: {إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون} (الأنعام 95).

وفعل “فلق” في اللسان العربي أصل صحيح يدل على فردة وبينونة في الشيء، وعلى تعظيم شيء، والفلق هو الخلق كله كأنه شيء فلق عنه شيء آخر حتى أبرز وأظهر. وفي الآية جاءت “فالق” بمعنى شيء أبرز وأظهر منه شيء آخر.

“ومعنى الفلق قريب من معنى الخلق لأنهما يشتركان في حرفين ويتميزان بحرف واحد”. و”الحب” جاءت في اللسان العربي من “حبب” وله ثلاثة أصول صحيحة أدها للزوم والثبات، والثاني الحبة في الشيء ذي الحب، والثالث وسف. وهنا المعنى هو الثاني كحبة الشعير والقمح. أما فعل “خرج” فلها في اللسان العربي أصلان: الأول النفاذ عن الشيء والثاني اختلاف لونين، الإخراج كأن ينفذ شيء عن شيء آخر وهنا استعمل الشيء والشيء الآخر وهما الحي والميت.

إن هذه العملية تتكرر كل يوم آلاف المرات. فإذا أخذنا حبة القمح ووضعناها في التربة المناسبة لها فإنها تجتاز تحولاً فتنتش وتكف الحبة في ذاتها عن الوجود فينتفي وجودها أي تهلك، وتظهر في مكانها النبتة التي نشأت عنها، ثم تستمر العملية الحياتية من نمو ونضوج كي تنتج من جديد حبوب القمح. وبمجرد نضوج الحبوب الجديدة تموت النبتة أي تهلك بدورها .. وهكذا نحصل من جديد على حبة القمح الأصلية ولكن نحل عليها أضعافاً مضاعفة. فإذا سأل سائل: إننا نأخذ حب القمح ونصنع منه خبزاً وبذلك لا يعمل قانون صراع المتناقضات الداخلي .. أقول: هذا صحيح، إننا نناقش هذا القانون من دون تدخل الإنسان.

وقد استثنت الآية الكريمة قضاء الإنسان أي تدخله حين وضع إخراج الحي من الميت في صيغة فعل مضارع {يخرج الحي من الميت} ووضع إخراج الميت من الحي في صيغة اسم فاعل حيث قال: {ومخرج الميت من الحي} وهنا استثنى قضاء الإنسان حيث أن إخراج الحي من الميت هو قانون موضوعي “من الله”، أما إخراج الميت من الحي فالله أخرج الميت إخراجاً، وهنا أعطى مجالاً لتدخل الإنسان، فالإنسان يتدخل بأن يهلك حبة القمح بالطحن أو لا يهلكها، ولولا أن الله أخرج الموت إخراجاً لما كان هناك قضاء “تدخل” إنساني في القتل. ولو أنه قال “ويخرج الميت من الحي” وقتل إنسان إنساناً آخر لقلنا: إن الله قتله ولسقطت نظرية العقوبات كاملة. فنقول الله يحيي ويميت، ولا نقول يحيي ويقتل.

والإنسان يقضي “يتدخل” بالقتل أو لا يقضي، ولولا الموت لما كان هناك قتل. ولم يذكر الكتاب القتل من قبل الله تعالى إلا مرة واحدة حين مد يد المساعدة المادية المباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر فيقوله {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى … الآية} (الأنفال 17). أما في البعث فقال {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} (الروم 19). وذلك لتبيان أن قضاء الإنسان “أي تدخله” سقط نهائياً في البعث واليوم الآخر. أما استعماله: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي}. في سورة يونس وآل عمران فهو خاص بجدل الأضداد في الظواهر وهي ظواهر متكافئة، أي لا تعمل باتجاه واحد. وسنفصل القول في ذلك فيما بعد.

أما قانون صراع المتناقضات الداخلي فيعمل في اتجاه واجد وهو من قوانين القدر “أي القوانين الموضوعية” لذا ختم الآية بقوله {ذلكم الله فأنى يؤفكون}. والإفك هو الارتداد أي أنه لا يستطيع أي إنسان رد هذا القانون، إن الإنسان يتدخل في إسراع أو إبطاء عمل هذا القانون ولكنه لا يلغيه، فالطب والعناية الصحية يطيلان الأعمار ولا يلغيان الموت، والقتل يقصر الأعمار لذا قال عن النبي صلى الله عليه وسلم {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ..الآية} (آل عمران 144). فالموت حق ولكن الأعمار تطول وتقصر وسنتوسع في شرح ذلك أدناه.

لقد عبر القرآن عن قانون صراع المتناقضات الداخلي في الشيء نفسه بصيغة: (مخلق وغير مخلق) و {صنوان وغير صنوان} و {متشابه وغير متشابه} و {معروشات وغير معروشات} في الآيات التالية:

{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علمٍ شيئاً وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} (الحج 5).

جاءت هذه الآية لتثبت للناس البعث وتنزع الشكوك بشأن بلوغه الحتمي فبدأت بقوله: {يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث} فإذا قال قائل: “أنا في ريب من البعث” فما علينا إلا أن نورد له بقية الآية.

ولكن ما علاقة بقية الآية بالبعث؟ إذا نظرنا إليها وجدنا أنها تحتوي على قانون أساسي هو قانون التطور “تغير شكل المادة باستمرار” باتجاه واحد، أي بدأ خلق الإنسان من تراب ثم نطفة “خلية” وبعد اللقاح تجتمع الخلية المنوية مع البويضة “علق شيء بشيء آخر” فتنتج العلقة وبعد ذلك يبدأ النمو والتكاثر الخلوي وتشكل الأعضاء المختلفة وتشعبها في المضغة، وأصل المماضغة في اللسان العربي هو من: “ماضغت فلاناً مماضغة: جاددته القتال والخصومة” “الزمخشري-أساس البلاغة” أي بعد العلقة تبدأ المماضغة وهي تجدد مستمر للقتال “الصراع” والخصومة بين العنصرين المكونين للمضغة نفسها وهما العنصر المُخلَّق والعنصر غير المُخلَّق. وهنا وصف المُخلَّقة وغير المُخلَّقة يعود على المضغة نفسها أي لو كان مضغة مخلقة ومضغة ثانية غير مخلقة لقال “مضغة مخلقة وأخرى غير مخلقة” كقوله: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وآخر متشابهات} (آل عمران 7) ولكن المخلق وغير المخلق يدخل ضمن تركيب المضغة نفسها وهذا يؤدي إلى صراع المتناقضات الداخلي في الشيء نفسه، أي أن هذا الصراع يؤدي إلى نمو المضغة وتطورها وتحولها إلى جنين كامل.

وهذا القانون هو القانون الأساسي للحركة الجدلية للحياة العضوية للإنسان والكائنات الحية. ففي النمو الخلوي صراع بين المخلق وغير المخلق، والمخلق تعني المصمم، حيث أن الخلق يعني التقدير لا الإيجاد كقولنا: خلق الخياط القميص من القماش أي قدره قبل القطع قدره قبل القطع والتفصيل، وعندما تخلق بيتاً تضع له مخططاً تميز فيه الممرات من غرف النوم ومن المطبخ، أي أن الصراع هو بين المصمم المتميز وغير المتميز أي من غرف النوم ومن المطبخ، أي أن الصراع هو بين المصمم المتميز وغير المتميز أي بين التكاثر المقدر “المنتظم” وغير المقدر “الفوضوي”. فكلما كانت الخلايا التي يتألف منها التصميم متميزة ضمن نظام مقدر فهي مخلقة، وهذا ما يسمى (Cell Differentiated)، وكلما بعدت عن التميز كانت غير مخلقة (Cell Undifferentiated).

وهنا يكمن سر النمو العضوي للكائنات الحية في الصراع بين المخلق وغير المخلق في الخلية الواحدة. فعندما ينتصر المخلق تكون الحياة العضوية والنمو سليمين. وكلما بعدنا عن المخلق بعد النمو عن أن يكون سليماً. أي أن الحركة الجدلية بين العنصرين المتناقضين داخلياً في الشيء نفسه هي التي أدت إلى التطور الذي تجلى في تغير الشكل باستمرار “هلاك شكل وظهور شكل آخر في الجمادات وفي الكائنات الحية”، ومن هنا نفهم أن الكائنات الحية قد ظهر بعضها من بعض، وخضعت لقانون التطور والارتقاء.

وعليه نفهم أن البعث هو الطفرة النهائية والارتقاء النهائي لهذا الكون، حيث يتوقف حينئذ في الكون الآخر عمل قانون صراع المتناقضات في الشيء نفسه، وينتفي بالتالي الهلاك المستمر بشكل المادة، لذا لا موت ولا ولادة في الكون الآخر بل الخلود.

وإن من الخطأ الفادح أن نظن أن الله خلق الأفاعي وحدها ونفخ فيها الروح، وخلق القطط وحدها ونفخ فيها الروح، وخلق الأسماك وحدها ونفخ فيها الروح. ونؤكد هنا أننا نفهم الروح على أنها ليست سر الحياة، وإنما هي سر الأنسنة التي نقصد بها تحول البشر “الذي هو من الفصيلة الحيوانية” إلى إنسان، “وسنفصل القول في ذلك في الفصل الثاني من هذا الباب”. لذا فالحياة العضوية والكائنات الحية في وجودها خضعت لقانون النشوء والارتقاء الذي هو قانون التطور، نتيجة الصراع الداخلي للمتناقضات في الشيء نفسه فبدأت الحياة من نطفة واحدة “خلية” وتطورت بعملية جدلية أدت باستمرار إلى تغير الشكل حتى ظهر البشر غير العاقل، ثم الإنسان العاقل.

وهذا ما وضحه في قوله تعالى: {وما بث فيهما من دابةً}. (الشورى 29). وقوله: {وفي خلقكم وما يبث من دابةٍ آيات لقومٍ يوقنون} (الجاثية 4). “وبث” في اللسان العربي تعني تفريق الشيء وإظهاره، كقولنا: بثت الدولة العيون أي فرقتها، وقولنا البث الإذاعي والتلفزيوني، أي أن أساس الحياة العضوية النباتية والحيوانية واحد، وتم الانتشار والتغير في الأنواع عن طريق البث الذي جاء نتيجة لقانون التطور والارتقاء.

وقد جاء فعل “بث” في صيغة الماضي والحاضر للدلالة على استمرارية هذا القانون وعدم توقفه في هذا الكون، ولا يتوقف هذا القانون عن العمل إلا بانفجار الكون أي هلاكه. وقد أشار القرآن إلى ذلك بعبارة” النفخة الأولى في الصور” ليحل محله كون آخر “النفخة الأولى في الصور” ليحل محله كون آخر “النفخة الثانية في الصور” يتغير فيه جوهر المادة حيث يتوقف فيها قانون صراع المتناقضات الداخلي ليحل محله قانون جديد للمادة يتجلى فيه أن المادة تتألف من عنصرين مترابطين أحدهما بالآخر في علاقة حركية غير متناقضة، لا ولادة ولا موت ولا تطور، بل حركة مستمرة من نمط آخر.

وهكذا يظهر جلياً أن البعث وقانون التطور مرتبطان ارتباطاً لا انفصام له، لذا فإن فهم القوانين الناظمة للمادة وتطورها في هذا الكون بسبب تناقضاتها الداخلية منذ بداية نشأته هو الدليل العقلي “العلمي” القاطع على حتمية البعث. هكذا يمكن برأينا تأويل هذه الآية الكريمة حيث بدأت {يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث} ومن أجل تقديم الدليل العلمي كان الجواب إيراد قانون التطور بسبب الهلاك المستمر لشكل المادة.

{وفي الأرض قطع تجاوزات وجناتٌ من أعنابٍ وزرع ونخيل صنوانٌ غير صنوان يسقى بماء واحدٍ ونفضل بعضها على بعضٍ في الأكل إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون} (الرعد 4).

في هذه الآية يبين إحدى مراحل التطور “البث”، واستعمل أيضاً صيغة المتناقضات الداخلية في الزرع “النخيل” حيث قال: {صنوان وغير صنوانٍ} ولم يقل: “صنوان وآخر غير صنوان” أي أن وصف صنوان وغير صنوان يعود على ذات الشيء الواحد.

وصنوان في اللسان العربي جاءت من “صنو” هي تدل على تقارب شيئين قرابة أو مسافة وعليه نفهم أن النخيل حيث ذكره صراحة هو أساس لطفرة نتجت عنه كقوله عن المضغة {مخلقة وغير مخلقة} أي هي أساس التكاثر الخلوي المخلق وغير المخلق. فهناك صراع عنصرين متناقضين داخلياً في النخيل في أن تبقى متقاربة “صنوان” أو أن تتحرك باتجاه التطور كي تتحول إي غير متقاربة “غير داخلياً.

{وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفاً أكله والزيتون والرمان متشابهاً وغير متشابهٍ كلوا من ثمرهً إذا أثمر وأتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} (الأنعام 141).

جاءت هذه الآية لتبين أن الحركة الجدلية التي يكمن فيها سر التطور هي القانون النظم لاختلاف الأنواع في النباتات، ويؤدي ذلك إلا الاختلاف في المأكل، لذا قال: {والنخل والزرع مختلفاً أكله} وحين ذكر الزيتون والرمان بصيغة متناقضة بقوله: {متشابهاً وغير متشابهٍ} بين أن الزيتون والرمان تولدا نتيجة لطفرة نباتية، أي أنه كان هناك نبات حصل فيه صراع عنصرين متناقضين داخلياً أدى إلى طفرة نتج عنها الزيتون والرمان، وكل واحد منهما {متشابه وغير متشابه}.

أما قوله تعالى: {جناتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتً} فهنا ذكر إحدى مراحل التطور النباتي بشكل عام. بدأت الحياة النباتية بالنباتات الزاحفة “معروشات”، وتطورت إلى نباتات قائمة “غير معروشات”، فكان تطور النبات من نباتات زاحفة إلى نباتات غير زاحفة “قائمة بذاتها” نتيجة لصراع عنصرين متناقضين داخلياً حيث أن صيغة “هو وغير هو” هي صيغة التناقض.

وهكذا نرى أن المتناقضات الداخلية المذكورة في الآيات السابقة هي السر الكامن وراء التطور في الكائنات الحية النباتية “والحيوانية” منذ بداية الحياة على الأرض. وهكذا أيضاً نفهم قوله تعالى: {ما لكم لا ترجون الله وقاراً * وقد خلقكم أطواراً*} (نوح 13-14).

والآن يمكن أن نلخص القانون الأول للمادة وحركتها في هذا الكون كما يلي:

إن قانون المتناقضات الداخلي “الثنائية في الشيء الواحد” يقوم على علاقة تجاذب وتنابذ “تناقض بين عنصرين مكونين لأي شيء مادي موجودين معاً في ذات الشيء” يؤديان إلى حركة ضمن الشيء نفسه ينجم عنها تغير شكل الشيء باستمرار.

وهذا القانون يعمل في داخل جميع الأشياء المادية بلا استثناء. ويعبر التجاذب والتنابذ عن تناقض مستمر يؤدي إلى حركة ضمن الشيء ينجم عنها تغير مستمر لشكل الشيء “أي هلاك شكل وولادة شكل جديد .. وهكذا دواليك. والصياغة المثلى لهذا القانون وردت في القرآن الكريم: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88).

ثانياً: الجدل الخارجي بين شيئين “جدل تلاؤم الزوجين”

“التكيف”

ورد مصطلح “الزوج” في آيات عديدة منها {وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى} (النجم 45). فالزوج هو زوج المرأة، والمرأة زوج بعلها، والزوج في اللسان العربي أصل يدل على مقارنة شيء لشيء آخر وارتباطه بعلاقة ما .. فالمرأة هي زوج عندما تكون على عصمة رجل “أي في علاقة مع رجل”، وكانت قبل الزواج عزبة، وإذا مات عنها زوجها فهي أرملة، وإذا طلقت فهي مطلقة، ولا يقال عنها زوج إلا إذا كان معها رجل “زوج آخر”. “هذا بالمفهوم الاجتماعي”. وعندا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر قال تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار} (التوبة 40) هنا قال “اثنين” ولم يقل زوجين، لأنهما من الذكور.

وعندما قال في سورة الأنعام: {ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبوئني بعلمٍ إن كنتم صادقين} (الأنعام 143). {ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين .. الآية} الأنعام 144. هنا عندما قال “ثمانية أزواج”، والزوج في اللسان العربي لفظة ليس لها مؤنث، فالذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر. أما عملية القرآن الشرعي بين الذكر والأنثى فقد أطلق عليها الكتاب مصطلح “النكاح” فنقول عقد نكاح ولا نقول عقد زواج، فالأساس في معنى الزوجي الطبيعي هو أن الذكر زوج الأنثى في الوجود لا في العقود، وأي أنثى هي زوج لأي ذكر بالخلق. وفي هذا قال: {لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور} (الشورى 49)، {أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير} (الشورى 50).

اشتملت الآيتان على أربع حالات يهب الله فيها أولاداً أو لا يهب وهي:

  1. حالة الإناث فقط.
  2. حالة الذكور فقط.
  3. حالة الذكور والإناث.
  4. حالة العقم.

والحالة التي تعنينا هنا هي الحالة الثالثة. فقد استعمل هنا مصطلح “الزوج” بصيغة “يزوجهم” للدلالة على اشتراك الجنسين معاً في الهبة “الذكر” و”الأنثى”، وهما في هذه الحالة أخ وأخت ولكنهما في الطبيعة من حيث الذكورة والأنوثة زوجان.

ثم جاء المعنى الثاني للزوج بالمفهوم الاجتماعي أي حتى تصبح الأنثى زوج الذكر اجتماعياً وجب أن يكون هناك عقد نكاح، لذا ظهر مفهوم الحلال والحرام في نكاح المحرمات الواردة في الآيات “22-23” في صورة النساء، وفي الزنا حيث أن المفاهيم هذه اجتماعية إنسانية “أخلاق” وليست مفاهيم طبيعية وجودية.

ويتضح من ذلك لماذا لم يسأل أحد من العرب النبي صلى الله عليه وسلم عن وضع المرأة في الجنة وذلك حين سمعوا الآيات التالية: {كذلك وزوجناهم بحورٍ عين} (الدخان 54). {متكئين على سرر مصفوفةٍ وزوجناهم بحور عين} (الطور 20). {ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون} (البقرة 25). {وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد} (آل عمران 15). {لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً} (النساء 57). {هم وأزواجهم في ظلالٍ على الأرائك متكئون} (يس 56).

{ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون} (الزخرف 70).

هذه الآيات الواردة والتي ذكر فيها الجنة والأزواج كلها قرآن. وتتحدث الآيات عن الجنة للذكور والإناث حيث استعملت ميم الجماعة، وهي في اللسان العربي تستعمل للشمول “صيغة جمع” وكذلك عندما يكون المراد أن تشمل اللفظة الذكور والإناث معاً تأتي صيغة عامة كقوله: {اهبطوا منها جميعاً}. وقوله {قد أفلح المؤمنون}. وقوله: {يا أيها الذين آمنوا}. هنا الهبوط للذكور والإناث والمؤمنون للذكور والإناث والذين آمنوا للذكور والإناث.

وعندما يريد أن يفرق بين الذكور والإناث تأتي دائماً صيغة خطاب صريحة {إن المؤمنين والمؤمنات}، فعندما قال: {كذلك وزوجناهم بحورٍ عين}. أي أن أهل الجنة من الذكور والإناث معاً لهم أزواج من حور عين أي أن الحور العين هم من الذكور والإناث، فالذكر له من الحور العين أنثى، والأنثى لها من الحور العين ذكر. وقوله: {ادخلوا الجنة}، هي أيضاً للذكور والإناث معاً، و {أزواجكم} للذكور والإناث. ومن هنا يتبين أن حال المرأة في الجنة كحال الرجل تماماً، وعندما يذكر الجنة يستعمل دائماً لفظة “أزواج” ولا يستعمل نساء أو امرأة أو لفظة رجل أو رجال.

إن التفريق بين الزوج على أنه الذكر فقط أو الأنثى فقط يحدده سياق كل آية، فمثلاً عندما يذكر ويذكر معه الزوج فهنا تعني الأنثى كقوله: {يا أيها النبي قل لأزواجك}. وقوله: {يا أيها النبي إنا أحلننا لك أزواجك} (الأحزاب 50). وقوله: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك} (التحريم 1). هنا المخاطب هو النبي صلى الله عليه وسلم فتأتي الأزواج إناثاً.

وفي قوله: {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} (النساء 12). يقصد بالأزواج الإناث لقوله: {إن لم يكن لهن ولد} (النساء 12). فاستعمل نون النسوة في “لهن” ولو كان يقصد الذكور والإناث لقال “إن لم يكن لهم ولد”. وكذلك قوله {إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم} (التغابن 14). هنا أزواجكم يقصد بها الذكور والإناث.

ولكي يبين أن قانون الزوجية “وهو اقتران شيء بشيء آخر وبالتالي ارتباطه معه بعلاقة ما” معمم على الوجود المادي كله قال: {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} (الذاريات 49) وقال: {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} (يس 36). وهنا استعمل لفظة سبحان لتنزيه الله أن ينطبق عليه قانون الزوجية.

فقانون الزوجية هو القانون الثاني الأساسي الذي تخضع له جميع الأشياء في الكون المادي. وقد عبر القرآن الكريم عن العلاقة الثنائية بين شيئين متميزين بعضهما عن بعض ومتقابلين في أمرنا بمصطلح “الأزواج”. وهذه العلاقة تشمل كل الموجودات في الكون فهي علاقة خارجية بالنسبة للشيء “الزوج” وللشيء المقابل له “الزوج الآخر”.

ويؤكد هذا القانون أن الأشياء في الكون المادي لا يمكن لا يمكن أن تكون منعزلة بعضها عن بعض، لذا فهي بالضرورة تكون علاقة تقابلية مع الأشياء الأخرى في مستويات لا حصر لها. وليست الزوجية علاقة بين عنصرين ضمن الشيء نفسه، بل هي علاقة خارجية بين شيئين متقابلين “زوجين” معلومين أو لا يزالان مجهولين. ويمكن أن نصفها بأنها علاقة تأثير وتأثر متبادل بين شيئين “علاقة جدلية بينهما”. لذا فإنه لا يصح أن نقول بوجود علاقة خارجية جدلية بين شيئين إلا بعد أن تحدد العلاقة التقابلية “الزوجية” بينهما والمستوى التقابلي لهذه العلاقة.

وتكون العلاقة التقابلية الزوجية على مستويات مختلفة بحيث يكون الشيء في علاقة جدلية تقابلية مع شيء آخر في مستوى ما، ويكون الشيء نفسه في علاقة تقابلية جدلية أخرى مع شيء ثالث في مستوى آخر .. وهكذا دواليك.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الزوجين يوجدان معاً في علاقة ثنائية تقابلية وبذا يتميزان عن الضدين. فالضدان لا يوجدان “لا يلتقيان” معاً بل تقوم بينهما علاقة تعاقبية، ولا يكون ذلك في الأشياء المادية بل في الظواهر فقط.

وهكذا يظهر جلياً أن العلاقة التقابلية بين زوجين هي علاقة خارجية بين شيئين تقوم على التأثير والتأثر المتبادل بينهما. وينبني على هذا القانون قانون التكيف في الطبيعة.

وبذا نكون قد أزلنا اللبس العالق في الأذهان بنتيجة الترجمات الفاسدة التي توهم بأن التناقض يمكن أن يكون بين الزوجين “الشيئين المتقابلين” أو بأن الزوجين هما ضدان.

ونلخص القانون الثاني قانون الأزواج أو قانون الثنائية التقابلية في الأشياء بما يلي:

يقوم على علاقة تأثير وتأثر متبادل “بين شيئين متميزين بعضها عن بعض “زوجين” تؤدي إلى التكيف والتلاؤم المستمرين هذين الشيئين.

والقانون الثاني يعمل في جميع الأشياء من خلال علاقة خارجية ثنائية تقابلية غير تناقضية بين شيئين متميزين بعضهما عن بعض عن طريق التأثير والتأثر المتبادل بينهما. وتكون هذه العلاقة في مستويات عديدة. والصياغة المثلى لهذا القانون وردت في القرآن الكريم. {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} (الذاريات 49).

ثالثاً: أقوال في الصور والحساب والجنة والنار

إننا نتبنى النظرية العلمية القائلة بأن ظهور الكون المادي كان نتيجة انفجار هائل أدى إلى تغير طبيعة المادة. ونرى أن انفجاراً هائلاً آخر مماثلاً للانفجار الأول في حجمه سيؤدي حتماً إلى تغير طبيعة المادة وهلاك هذا الكون المادي ليحل محله كون “عالم” مادي آخر. ويعني ذلك أن هذا الكون لم ينشأ “يخلق” من عدم بل من مادة ذات طبيعة أخرى. كما أن هذا الكون سيزول ليحل محله كون آخر من مادة ذات طبيعة مغايرة.

أ – الصور

قلنا أن قانون صراع المتناقضات الداخلي في الشيء نفسه، يؤدي إلى تغير الصيرورة بشكل مستمر وهلاك شيء وظهور شيء آخر. وهذا القانون حتمي لا رد له، ويسير باتجاه واحد فهو لذلك قدر الموجودات كلها الذي يعبر عنه بالتسبيح. فالخلق الأول بدأ بانفجار كوني هائل حيث قال: {والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر}. (الفجر 1-2-3) حيث أن الفجر هو الانفجار الكوني الأول، {وليال عشر} معناه أن المادة مرت بشعر مراحل للتطور حتى أصبحت شفافة للضوء، لذا أتبعها قوله: {والشفع والوتر} حيث أن أول عنصر تكون في هذا الوجود وهو الهيدروجين وفيه الشفع في النواة والوتر في المدار، وقد أكد هذا في قوله: {وهو الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} (الأنعام 1).

ويجب أن نميز في خلق الوجود ثلاثة أفعال مختلفة:

  • {خلق السموات والأرض} (الأنعام 1).
  • {بديع السموات والأرض} (البقرة 117).
  • {فاطر السموات والأرض} (فاطر 1).
  • {قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} (الرعد 16).

فالخلق هو التصميم ولكن يمكن أن يكون التصميم لشيء له سابقة، أي يمكن لمهندس أن يصمم بيتاً قد سبقه إليه أحد وله سابقة. ولكي يبين أن خلق السموات والأرض ليس له سابق، وأنه لأول مرة قال: {بديع السموات والأرض} ولكي يبين سبحانه وتعالى أن تصميم السموات والأرض وإبداعهما غير قديمين وأنهما كانتا معاً ثم انفصلتا عن بعضهما قال: {فاطر السموات والأرض} وقد أكد أن هذا الفصل حصل بانفجار.

لقد سبق أن ذكرنا أن العرش هو الأمر، ويعني ذلك أن أمر الله كان على أول عنصر تكون في هذا الوجود وهو الهيدروجين “مولد الماء” لذا قال: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} (هود 7) أي كان على العنصر المكون للوجود وهو الهيدروجين.

هذا الوجود منذ الانفجار الكوني بدأ ينطبق عليه قانون التسبيح “صراع المتناقضات الداخلي في الشيء نفسه” أي أن الذي لا يسبح من الأشياء لا وجود له. وصارت الأشياء تتغير من كينونة إلى صيرورة “كان فصار”، وستبقى كذلك إلى أن يحدث تغير مفاجئ في صيرورة المادة الكونية. وهكذا نفهم الآية {كما بدأن أول خلقٍ نعيده} (الأنبياء 104).

فبداية تكون هذا الكون كان بطفرة “الانفجار الأول” حيث تعتبر التغير الأول في الصيرورة المادية “أي من مادة ذات طبيعة غير معروفة”، هذه التغيرات سارية المفعول حتى تحدث طفرة مفاجئة “تغير مفاجئ في الصيرورة الكونية”، طفرة ثانية. وقد أورد القرآن القانون الأول للجدل المادي للبرهان على البعث.

لقد عبر القرآن عن الطفرة المفاجئة بعبارة {ونفخ في الصور} (الزمر 68). و”نفخ” في اللسان العربي أصل صحيح يدل على انتفاخ وعلو، ويقال انتفخ النهار أي علا، ومنه “نفخ في النار” وذلك لكي يسرع في إشعالها وتعلو. ولفظ “الصور” جاءت من “صير” وهو أصل صحيح وتعني المآل والمرجع ومن ذلك صار يصير صيرا وصيرورة، ويقال أنا على صير من أمر أي إشراف على قضائه، وذلك الذي يصار إليه.

فالنفخ في الصور تعني التسارع في تغير الصيرورة “المآل” وهذا ما يسمى بالطفرة. ويوجد نوعان من التسارع في تغير الصيرورة، عبر عنهما بالنفخة الأولى للصور والنفخة الثانية. والنفخة الأولى لها مصطلح خاص هو الساعة. وسميت الساعة لأن هلاك هذا الكون قائم فيها وهي حتمية تقتضيها بنية هذا الكون المادي الثنائي. وقد جاءت الساعة من “سوع” وهو استمرار الشيء “1” ومضيه “1”، “1 و2″ هما العنصران المتناقضات داخلياً في الوجود المادي للكون أي أن يستمر على ما هو عليه أو ينتهي، وانتهاؤه يكون عن النفخة الأولى في الصور”.

فقولنا جاءنا بعد سوعٍ من الليل وسواعٍ أي بعد هدء منه، وذلك أنه شيء يمضي ويستمر. فالساعة تدل على مضي واستمرار معاً، فالمستمر هو الوجود المادي، والمضي هو انتهاء عمل قوانين المادة السائدة في هذا الكون ليحل محلها عمل قوانين جديدة في كون مادي آخر. وبمعنى الهدوء والمضي جاء قوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعةٍ} (الروم 55) ومنه نستنتج أن عذاب القبر بالمفهوم السائد لا وجود له. ففي المعنى الأول للساعة يقول {يوم تقوم الساعة}. وهو الانفجار، المضي بعد الهدوء. والمعنى الثاني الهدوء والاستمرار لفترة زمنية في قوله {يقسم المجرمون لما لبثوا غير ساعةٍ}.

وهكذا نفهم الآيات:

  • {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر 68).
  • {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم} (الحج 1).
  • {إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} (غافر 59).
  • {ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد} (الشورى 18).
  • {ويوم تقوم الساعة يومئذٍ يخسر المبطلون} (الجاثية 27).
  • {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا يأتيكم إلا بغتةً يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون} (الأعراف 187).

ففي آية الأعراف 187 جاءت الساعة بمعنى المضي يقول: {أيان مرساها} وجاءت بمعنى أن الساعة موجودة في طبيعة المادة الكونية “العنصران المتناقضان والمتصارعان هما المضي والاستمرار”. {ثقلت في السموات والأرض}. ولبيان أنها تسارع مفاجئ في تغير الصيرورة جاء قوله {لا تأتيكم إلا بغتةً} ولبيان أن توقيتها لا يعلمه إلا الله جاء قوله {قل إنما علمها عند الله} (الأحزاب 63) وقوله {إن الله عنده علم الساعة} (لقمان 34) وقوله: {لا يجليها لوقتها إلا هو}.

وقوله: {إليه يرد علم الساعة}. (فصلت 47) وقوله: {إن الساعة آتية أكاد أخفيها}. (طه 15) هنا أخفيها جاءت بمعنى أظهرها لأن فعل “خفي” في اللسان العربي هو من أفعال الأَضداد.

ويجب أن نلاحظ أمراً هاماً جداً، وهو أن قيام الساعة لا يعني انتهاء حياة الشمس بشكل طبيعي أن انطفاءها حيث أن انطفاءها عبارة عن ظاهرة فلكية طبيعية “ولا تحصل بغتة”. فإذا كان الحال كذلك فهذا يعني أن الحياة ستنتهي على الأرض قبل انطفاء الشمس بمدة طويلة، ولكن وصف القرآن للساعة يدل على أنه ستكون هناك حياة على الأرض كقوله {لا تأتيكم إلا بغتةً}.

وقوله: {يوم ترونها تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت} (الحج 2) والإنسان عند قيام الساعة يكون قد وصل إلى وضع من التطور والتقدم العلمي بحيث يظن نفسه أنه أصبح ربا متصرفاً في ظواهر الوجود وذلك في قوله تعالى: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقومٍ يتفكرون} (يونس 24).

هنا نلاحظ مرة أخرى كيف ربط قانون التطور وتغير الصيرورة بقيام الساعة وأن علامة الساعة المباشرة هي وصول الإنسان إلى درجة م التطور يظن نفسه أنه أصبح ربا. وقد وصف القرآن الساعة وخراب الكون الحالي في أماكن كثيرة كقوله {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها * يومئذٍ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحى لها} (الزلزلة 1-5) وقوله: {يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة} (النازعات 6-7) وقوله {فإذا النجوم طمست * وإذا السماء فرجت * وإذا الجبال نسفت * وإذا الرسل أقتت * لأي يوم أجلت * ليوم الفصل} (المرسلات 8-13). والفصل هو فصل قانون صراع المتناقضات عن الوجود المادي.

ب – البعث والحساب

ظهر الإنسان على الأرض بعد مليارات السنين من الانفجار الكوني الأول وحصلت تغييرات كثيرة في الصيرورة حتى ظهر البشر ثم الإنسان، وسيستمر هذا الكون متغير الصيرورة حتى يهلك الشكل الحالي للكون، هذا الهلاك هو بداية لتشكيل كون مادي آخر بقوانين جديدة للمادة، فتحصل تغييرات جديدة في الصيرورة حتى يستقر ويصبح كوناً جديداً بمادة خالية من صراع المتناقضات الداخلية في الشيء الواحد. لذا لا يوجد في الكون الجديد لا ولادة ولا موت، وتختفي ظاهرة التطور وتظهر حركة للمادة من نوع آخر وعلاقات أخرى، ويبقى عمل القانون الثاني للجدل التأثير والتأثر المتبادل بين الأشياء “الأزواج”.

ففي الجنة يوجد أزواج وفي النار يوجد أزواج. أما الجنة والنار فليسا زوجين حيث لا يوجد علاقات متبادلة بينهما بل يوجد أزواج في كل منهما، أي أن هناك قانون تأثير وتأثر متبادل من نوع جديد مع اختفاء قانون صراع المتناقضات، لذا ففي الجنة والنار حركة من نمط آخر ولكن لا يوجد تسبيح وجود.

لقد عبر القرآن عن الطفرتين بآية واحدة بقوله {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (الزمر 68) لاحظ في النفخة الأولى وقوله: {فصعق من في السموات ومن في الأرض} و “من” للعاقل لذا أتبعها بقوله {إلا من شاء الله} ومن العاقل المستثنى من هذه الصعقة هو إبليس لقوله تعالى: {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} (الحجر 36-37-38). وعبر عن النفخة الثانية {ثم نفخ فيه أخرى}.

لاحظ كيف وضع بين الأولى والثانية الأداة “ثم” حيث فيها التعاقب مع التراخي.

الآن لنأخذ الآيات التالية ونرى عن أية طفرة “تغيير في الصيرورة” تتكلم:

  • {قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور} (الأنعام 73) هنا الصيرورة الأولى والثانية جاءت الصور اسم جنس.
  • {ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً} (الكهف 99) الصيرورة الثانية.
  • {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون} (المؤمنون 101) الصيرورة الثانية.
  • {ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد} (ق 20) الصيرورة الثانية.
  • {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} (الحاقة 13) الصيرورة الأولى لأنه أتبعها بقوله {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكةً واحدةً} (الحاقة 14).
  • {فيومئذٍ وقعت الواقعة} (الحاقة 154). {وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} (الحاقة 16).
  • {يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً} (النبأ 18) النفخة الثانية حيث أتبعها بقوله {فتأتون أفواجاً} إذ وضع وصفاً جديداً للسماء {وفتحت السماء فكانت أبواباً} (النبأ 19). ووصف الوضع السابق للجبال {وسيرت الجبال فكانت سراباً} (النبأ 20).

لقد وصف الله البعث بالخروج من الموت إلى الحياة بقوله {والذي نزل من السماء ماء بقدرٍ فأنشرنا به بلدةً ميتاً كذلك تخرجون} (الزخرف 11). وقوله: {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} (الروم 19). {رزقاً للعباد وأحيينا به بلدةً ميتاً كذلك الخروج} (ق 11). هنا في الآية 19 في سورة الروم وضع الإخراج متكافئاً بين الحي والميت حيث قال {يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي}. لأنه يصف يوم الخروج حيث لا قضاء للإنسان في ذلك اليوم لذا قال {له الملك يوم ينفخ في الصور} للدلالة على انتهاء تدخل الإنسان وقضائه. أي أن البعث هو خروج الناس من الموت إلى الحياة بكينونة مادية جديدة لا تغير في صيرورتها.

قد يسأل سائل: وهل بعد أن يفنى الإنسان ويصبح تراباً سيعاد تكوينه؟ الجواب: نعم. هنا يجب أن نميز بين نوعين من النفس: النفس التي تموت وهي النفس البشرية وهي التي تتحول إلى تراب والتي قال عنها {وما كان لنفسٍ أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} (آل عمران 145) والنفس التي تتوفى والتي قال عنها {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} (الزمر 42).

فالنفس التي تموت والتي نقول عنها “الجسد” عبارة عن تحول مادي عضوي بحت، فعند الموت يبدأ التحلل للمواد العضوية المكونة لهذه النفس، حيث أن هذه النفس مجموعة من المواد المركبة بعضها إلى بعض ضمن نسب محددة والتركيب المادي للنفس لا يعتبر عين الذرات المركبة لها، ولكن هو مجموعة من النسب المادية مربوط بعضها ببعض. وهذا واضح بأننا نطرح الفضلات الغازية والسائلة والصلبة ونحرق في الجسم ما نحرق ثم نعوض بالتغذية المواد المفقودة بحيث نأخذ ونعطي دائماً. فالمهم هو التركيب النسبي للمواد وليس عين المواد.

ج – الجنة والنار لم توجدا بعد واستقرار النقيضين فيهما

الجنة والنار ستظهران على أنقاض هذا الكون:

هناك قول شائع جداً، وبنفس الوقت خاطئ جداً بأن الجنة والنار، أي جنة المتقين ونار الكافرين موجودتان الآن وأنهما تنتظران يوم البعث. وهذا غير صحيح طبقاً للنص القرآني حيث أن الجنة والنار ستشكلان على أنقاض هذا الكون بعد النفخة الأولى. وحتى يحين وقت النفخة الثانية الذي سيحصل فيها البعث، تكون الجنة والنار جاهزتين.

ولكن يجب علينا أن نعلم أن الوجود في الكون الجديد هو وجودي مادي سيتشكل على أنقاض هذا الوجود بقوانين جديدة للمادة يختفي فيها القانون الأول، صراع المتناقضات الداخلي في الشيء الواحد “التسبيح”، وينتهي التطور لذا سمى الآخرة دار القرار {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار} (غافر 39) وذلك بانتهاء قانون “كل شيء هالك” ليحل محله قانون “كل شيء خالد” الذي عبر عنه بمصطلح الخلود. ويبقى قانون الأزواج، التأثير والتأثر المتبادل بين الأشياء، ولكنه يكون من نمط آخر. ففي الجنة أزواج {هم وأزواجهم} وفي النار أزواج {واخر من شكله أزواج} (ص 58). وفي الجنة طعام وجماع وأنهار .. وهكذا دواليك ولكنها ذات كيفية أخرى.

أولاً: لنبحث كيف ذكر القرآن أن الجنة والنار لم تظهرا بعد.

قبل أن ندخل في هذا البحث علينا أن نعرف الجنة والنار وكيف جاء ذكهما في القرآن بشكل متشابه.

فلفظة الجنة في اللسان العربي من “جنن” وهذا الفعل يعني التغطية والستر كقوله {فلما جن عليه الليل} (الأنعام 76) أي غطى الظلام الأرض ومنها جاءت كلمة المجنون وهو الإنسان الذي صار على عقله غطاء، ومنها جاء معنى الجن أي مخلوقات مغطاة عن أبصارنا لا نراها. وجاءت هذه اللفظة في القرآن للدلالة على الجنة في الدنيا أو في الآخرة حسب سياق الآية. فالجنة هي أرض مغطاة بأشجار وأغصان وما شابه ذلك ولها معنى إيجابي دائماً. فالبستان المشجر المزروع يقال له جنة، وقد وردت بهذا المعنى في قوله {واضر له مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب} (الكهف 32). وقوله {وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خميط} (سبأ 16) وقوله {أو تكون لك جنة من نخيل وعنب} (الإسراء 91) وقوله {أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها} (الفرقان 8) وقوله {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} (الكهف 35).

وقوله {فأنشأنا لكم به جناتٍ من نخيل وأعناب}. (المؤمنون 19) وقوله {فأخرجناهم من جناتٍ وعيونٍ} (الشعراء 57) وقوله {وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشاتٍ وغير معروشاتٍ} (الأنعام 141). هنا نلاحظ كيف أطل لفظ الجنة على حالات دنيوية طبيعية وهكذا يجب أن نفهم جنة آدم حيث أنها تختلف عن جنة المتقين. إن وصف جنة المتقين في القرآن والتي لم تتكون بعد يختلف عن وصف جنة آدم التي ذكرها في قوله: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى} (طه 118). {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} (طه 119). لقد أخبرنا القرآن بأن البشر ظهر على الأرض وأنه كان يعيش في منطقة غابات وفي المناطق الحارة حيث أن الآيتين 118 و119 في سورة طه لا تصفان أكثر من غابة “وسنفصل القول في هذا حين الحديث عن آدم ونشأة الكلام الإنساني”.

أما جنة المتقين فيصفها وصفاً آخر تماماً حيث فيها الخلود بقوله “خالدين فيها” وتختفي ظاهرة الموت حيث تظهر هذه الجنة في كون آخر هي والنار، حيث لا جدل بينهما ولا توجد بينهما علاقات متبادلة لقوله {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} (الأعراف 50).

ولفظة “النار” جاءت في القرآن للدلالة على النار في الدنيا أو في الآخرة حسب سياق الآية، وأحياناً تأتي معرفة كاسم جنس، وهي دنيوية كقوله {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليةٍ أو متاع} (الرعد 17). جاءت النار هنا معرفة وهي تعني نار الأفران العالية المستعملة لصهر المعادن، وأحياناً تأتي نكرة مقصودة: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم} (الأنبياء 69) هنا نار إبراهيم. وأحياناً تأتي غير معرفة كقوله {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً} (نوح 25) هنا {فأدخلوا ناراً} تعني ناراً في الدنيا وليس في الآخرة. أما نار الآخرة ففيها الخلود للكافرين.

لنورد الآن الأدلة على أن الجنة والنار لم توجدا بعد، وإنما ستوجدان على أنقاض هذا الكون بين الطفرة الأولى “تغير الصيرورة عند النفخة الأولى للصور” وبين الطفرة الثانية “النفخة الثانية للصور”.

  • {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار} (إبراهيم 48).
  • {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون). (الزمر 68).
  • {وأشرقت الأرض بنور بها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} (الزمر 69).
  • {ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزةً وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً} (الكهف 47).
  • {وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً} (الكهف 99).
  • {وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضاً} (الكهف 100).
  • {وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} (آل عمران 133).
  • {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم} (الحديد 21).
  • {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذٍ} (هود 108).
  • {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق} (هود 106).
  • {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} (هود 107).
  • {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العالمين} (الزمر 74).

لقد دلت الآيات الواردة أعلاه على أنه سيحصل تبديل في السموات والأرض أي سيكون هناك سموات وأرض جديدة بقوانين مادية جديدة بقوله {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} (إبراهيم 48) وقوله {وعرضنا جهنم يومئذٍ للكافرين عرضاً} (الكهف 100). وهنا يجب أن نفهم قوله {عرضها السموات والأرض} (آل عمران 133). فلفظة (عرضها) جاءت من (عرض) ومنها جاء العرض والمعرض والأعراض فنقول هنا عرض عسكري، فعرض الشيء هو إظهاره بشكل جلي، وهكذا نفهم {جنةٍ عرضها السموات والأرض} (آل عمران 133).

أي أن السموات والأرض الجديدة هي المكان الذي ستعرض فيه الجنة أو هي عين عرض الجنة، وكذلك النار بقوله {وعرضنا جهنم} (الكهف 100). وهنا يجب أن لا نفهم بأن {عرضها السموات والأرض} (آل عمران 133). على أساس أن العرض هو البعد الأصغر والطول هو البعد الأكبر، فتصبح الآية لا معنى لها وغير مترابطة حيث أن أبعاد الوجود ليست الطول والعرض فلا نقول طول الكون وعرض الكون.

أما قوله {سابقوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض} (الحديد 21). هنا استعمل كاف التشبيه، والسماء بشكل مفرد للدلالة على الجنس لا العدد أي أننا حين ننظر فنرى السماء والأرض كجنس فهنا يشرح طريقة العرض (جنس العرض) أي أن العرض هو عرض مادي كعرض السماء والأرض الحاليين وكذلك قوله {يقولون أإنا لمردودون في الحافرة} (النازعات 10) والحافرة هي عود على بدء وقوله {فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة}

(النازعات 13-154) الساهرة هي مصطلح في اللسان العربي يطلق على كل أرض (ابن فارس).

أما الآية 108 في سورة هود فقد ذكر أهل الجنة والخلود فيها آية واحدة للدلالة على أن الدخول إلى الجنة والخلود فيها مرتبطان بعضهما ببعض فلا إقامة مؤقتة في الجنة، أما فيما يتعلق بالنار فقد فصل أصحاب النار عن الخلود فيها (لاحظ أهمية مواقع النجوم) وذلك لكي يبين أن الدخول إلى النار شيء والخلود فيها شيء آخر، فليس كل من يدخل النار سيخلد فيها لذا فصل أصحاب النار عن الخلود فيها، كل في آية على حدة، أصحاب النار في الآية 106 والخلود فيها في الآية 107، وهذا يبين لنا فهم أهمية مواقع النجوم بين الآيات.

هنا يكمن الدليل القرآني على أنه ليس كل من يدخل النار سيخلد فيها. وفي نهاية آية الجنة قال {عطاءً غير مجذوب} للدلالة على وضوح وثبات الثواب، وأما بالنسبة للنار قال {إن ربك فعال لما يريد} للدلالة على احتمال المغفرة أو ثبات العذاب.

2- استقرار النقيضين في الجنة والنار:

لقد وصف الله سبحانه وتعالى الدنيا بأنها {متاع الغرور} (آل عمران 185- الحديد 20) أي أن متاع الدنيا متاع زائل لأنه هالك أي متغير في الصيرورة باستمرار ينتقل من شكل لآخر والغرور من (غرر) وتعني في اللسان العربي عدم النضج (النقصان) كأن نقول دورة أغرار، وفلان ما زال غرا، أي ناقص الخبرة ومنها جاء الغرور.

أما الجنة (فأكلها دائم) ومتاعها باق {وفاكهةٍ كثيرةٍ * لا مقطوعةٍ ولا ممنوعةٍ} (الواقعة 32-33).

المجتمع الدنيوي اليوم الآخر

1 – وجود ظاهرة العمل والراحة.

1 – اختفاء ظاهرة العمل {قطوفها دانية} (الحاقة 23)، {وذللت قطوفها تذليلاً} (الإنسان 14)، {وفاكهة كثيرة * لا مقطوعة ولا ممنوعة} (الواقعة 32-33)، {متكئين عليها متقابلين} (الواقعة 16)، {لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} (الحجر 48) {لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب} (فاطر 35).

2 – وجود ظاهرة الصحة والمرض.

2 – اختفاء ظاهرة المرض {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان} (العنكبوت 64) والحيوان هنا ضم (موتان)، وهي من الحيوية.

3 – وجود ظاهرة الخير والشر في العمل الإنساني.

3 – اختفاء ظاهرة الشر {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين} (الحجر 47).

4 – وجود ظاهرة الحرب والسلام.

4 – الجنة دار السلام والنار دار الخصام {إن ذلك لحق تخاصم أهل النار} (ص 64).

قد يقول البعض أن مواصفات الجنة يمكن تحقيقها في الحياة الدنيا. أقول هذا مستحيل للسبب التالي:

إن قوانين المادة الحالية في كوننا (التي تخضع لقانون صراع المتناقضات الداخلي الذي يؤدي إلى تغير في الصيرورة باستمرار) لا تسمح أبداً بقيام مجتمع كهذا لأن أي مجتمع دنيوي له تناقضاته الخاصة به والتي تؤدي إلى تطوره أي هلاكه وعدم ثبات الصيغة فيه بقوله تعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذاباً شديداً كان ذلك في الكتاب مسطوراً} (الإسراء 58).

ولأن ذلك المجتمع يحتاج إلى قاعدة مادية تقوم على قوانين مادية تختلف عن قوانين المادة الحالية في كوننا. فظاهرة العمل والراحة والصحة والمرض والخير والشر لا يمكن أن تختفي ضمن القوانين الحالية في كوننا، ففي القوانين الحالية تعطي شجرة التفاح موسماً واحداً في السنة أو اثنين أو ثلاثة، أما تفاح الجنة فإنه كلما قطفته فإنه يخلف مباشرة. فشجرة تفاح واحدة من تفاح الجنة تكفي أهل الأرض جميعاً.

ولا يمكن أن يحصل هذا إلا بتغير قوانين المادة، هذا التغيير في القوانين المادية يوضحه قوله تعالى: {لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد} (ق 35). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن محتوى التفاح في الجنة يتغير عن محتواه في الدنيا، وأهل الدنيا يرون التفاح ويعلمون أن هذا تفاح ولكن عند المذاق يختلف عن تفاح الدنيا لذا قال سبحانه وتعالى {كلما رزقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابهاً} (البقرة 25) والتشابه كما قلت ثبات الشكل وتغير المحتوى، أي كلما أكل واحد من أهل الجنة تفاحة يرى طعمها مختلفاً عن أي تفاحة أخرى .. وهكذا دواليك أي أن هناك تفاحاً واحداً ومليارات الاحتمالات من الطعم والنكهة للتفاح.

كما نستنتج أنه في الكون الجديد والقوانين الجديدة للمادة بعد النفخة الثانية في الصور لا يوجد تسبيح للأشياء حيث لا ولادة ولا موت ولا تغير في الصيرورة. والآيات الوحيدة في التسبيح في اليوم الآخر هي عن الملائكة فقط في قوله تعالى: {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين} (الزمر 75) أن نهاية العرض والحساب ودخول الناس إلى الجنة والنار وثبات الأشياء ختم بقوله {الحمد لله رب العالمين} وبدئ الكتاب بقوله :

{الحمد لله رب العالمين} (الفاتحة 1- يونس 10- الصافات 182- الزمر 75) وبدئ الخلق بقوله {الحمد لله الذي خلق السموات والأرض} (الأنعام 1) وهكذا نرى أن هناك حمداً في الدنيا وحمداً في الآخرة لقوله تعالى: {له الحمد في الأولى والآخرة} (القصص 70). وورد تسبيح العاقل في الجنة في قوله {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وأخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} (يونس 10) فالتسبيح في اليوم الآخر للناس فقط لا للأشياء (أي تسبيح شكر لا تسبيح وجود) وهكذا فإن طبيعة المادة وتركيبها في الكون الجديد تسمح برؤية الله سبحانه وتعالى حيث تسبيح العاقل في اليوم الآخر تنزيه عاقل لله.

 

(5) تعليقات
  1. حضرتك طيب بتقول ان الحور عين للنساء والرجال .. طب ازاى وفى القرأن بيقول مقصورااات فى خيام .. مقصورات دى صفة مؤنثة .. ربنا لو قصده الجمع بين الذكر والانثى من الحور عين كان قال مقصورين فى خيام . صح ولا ايه ..؟؟
    ارجوك ترد عليا عشان المفروض دا بجد مدايقنى جدا ..


    الأخت أمة الله
    الله تعالى قرب لنا وصف الجنة والنار بما نعلمه، ومن المؤكد أن مكافآته متساوية للذكور والإناث، فهو يقول{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب 35) سواء كان هذا الأجر حور عين أم غلمان أم أمور أخرى.

  2. صباح الخير دكتور انت تقول انها جنة واحد وقد ذكر عدة جنان متتاليات فوق بعض جنة النعيم الغرف الفردوس عدن الخلد والمأوى وهي ادنا الجنان وانها عند سدرة المنتهى كما ذكر الله في القرآن الكريم وان الله فضلهم ع بعض جميع النواحي من الخدم والحور والطعام وماهو المقام المحمود الذي وعد الله رسوله محمد صل الله عليه وسلم هل هل هو اسم لجنة وهو أعلاها أم هو موقعه بارض المحشر بين الرسل والأنبياء وهل يوجد حور عين غير الزوجة عدد مانشاء


    الأخ Maikel
    الله تعالى قرب لنا صورة العالم الآخر بما نعرفه، وأوضح لنا أن الجنة والنار ستقومان على أنقاض عالمنا هذا، وأن شروط العالم الآخر مختلفة تماماً عما نعيشه الآن، حيث في الجنة لا عمل ولا مرض ولا موت، ولا غل ولا كره، وفيها ما لذ وطاب، وفيها درجات تختلف باختلاف أعمال الناس.

  3. د. محمد
    هل نفهم ان لو لم يكن يونس من المسبحين لمكث في بطن الحوت الى يوم البعث ؟
    كيف والعصارات الهاضمة و الحوت ميت لامحالة.؟!


    الأخ نعيم
    التسبيح هو الحركة الدائمة المتغيرة، وهذه الحركة أخرجت يونس من بطن الحوت، ولو كان يونس ثابتاً لما خرج.

  4. ولكن مع احترامي وتقديري لفكركم العبقري
    ولكن كانت ( سبحانك اللهم لا اله إلا أنت إني كنت من الظالمين) كانت أيضا سببا في خروج يونس من بطن الحوت
    ( وكذلك ننجي المؤمنين)
    فأعتقد ان تقبل يونس للواقع كانت أول خطوه على طريق الخروج من الظلمات

اترك تعليقاً