الفصل السابع: الدولة

كانت البنية العامة لبداية تشكل المجتمعات الإنسانية الأولى، الذي هو بداية الدولة والسلطة، تتألف مما يلي:

  • الأرض/ المل الحيوي الذي تطور فيما بعد إلى مفهوم الوطن، بنباتاتها القابلة للأكل، وحيواناتها القابلة للصيد، ومياهها القابلة للشرب، ومناطق الحماية الطبيعية فيها كالكهوف. فالمجال الحيوي هو القاعدة المادية لنشوء الدول، والوجه الأساسي لسلوكياتها السياسية.
  • الأدوات البدائية (الحجارة ثم النار).
  • المفاهيم الأخلاقية الأولية (صدق، كذب، بر الوالدين، الندم، الضمير الاجتماعي في مراحله الأولى عند بني آدم).
  • التمايز الطبقي (الشرائح) المبني على القوة للسلطة المباشرة الأولى، والمعرفة للسلطة غير المباشرة الثانية، سلطة رجال الدين، والأراذل عامة الناس.

تعريف الدولة

هي أداة للتعبير عن واقع يعيشه شعب ما (يحتوي على قوميات وأمم، أو قومية واحدة وأمة واحدة، أو قومية واحدة وأمم متعددة، أو قوميات متعددة وأمة واحدة) من خلال مؤسسات. وتعتبر الدولة قمة الوعي المعرفي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي السائد في المجتمع، لذا فهي بنية فوقية لبنية تحتية، تمثل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية السائدة والمستوى المعرفي، فإذا كانت هذه العلاقات متخلفة، فالدولة متخلفة، وإن كانت متقدمة فالدولة متقدمة، وهكذا.

ويرتبط تشكيل ا لدولة بنوع هذه العلاقة السائدة وبمستواها، فكلما تقدمت هذه الواقعيات تقدمت الدولة. كما أن هذه العلاقة تعمل أحياناً بشكل معاكس مؤقت. فترفع الدولة درجة الواقعيات السائدة إلى حين (وهذا ما يسمى بالوضع الثوري). لذا فهناك علاقة تأثير وتأثر متبادل بين المؤسسات والمجتمع، فكلما كان تأثير البنية التحتية للمجتمع على البنية الفوقية (المؤسسات) كبيراً، كانت الدولة أكثر ديموقراطية، وكلما كانت أثير البنية الفوقية (المؤسسات) على البنية التحتية (المجتمع) كبيراً، اتجهت الدولة باتجاه القمع والديكتاتورية. فالدولة الديمقراطية هي حالة الوسط في التأثير والتأثر المتبادل بين البنى المختلفة، والدولة مؤسسات ضبط لا مؤسسات قمع.

بما أن الدولة هي قمة العلاقات الواعية الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية، وبما أن السياسة هي قمة هذه العلاقات، وتتضمن كل العلاقات الأخرى، فلنفصل هذه العلاقات التحتية، وكيف تنعكس على مؤسسات الدولة، من أن الشعب علاقة جدلية بن الأنا والكل، بين المنفصل الفردي والمتصل الجماعي، والعلاقات التي بينّاها سابقاً تكمن في المستوى المعرفي العام والقيم الأخلاقية لأفراد هذه الجماعة، والمستوى المعرفي الخاص لكل فرد على حده، ولهذا فهي علاقات واعية وليست علاقات بهيمية.

لهذا كله، فإن الدولة تتضمن الذاتي والموضوعي معاً، في علاقة تأثير وتأثر متبادل، وهذه العلاقات هي:

1 – العلاقة الاجتماعية: وتتمثل في تطور القيم والمعايير الأخلاقية للجماعة ولكل فرد على حده. وهذا ما عبرنا عنه بالتقوى الفردية (العبادات) التي تختلف من أمة لأخرى، وهو ممارسة فردية لا علاقة للجماعة بها. وما عبرنا عنه بالتقوى الاجتماعية، التي تعتبر الوصايا أساس الأسس فيها وظاهرة عامة مشتركة لكل الأمم ولكل الشعوب، فهي ظاهرة كونية تمثل الجانب الذاتي في الحياة الاجتماعية. وقد بينت أن المعايير الأخلاقية تطورت من بر الوالدين حتى قمة التجريد والتحضر الاجتماعي (حنث اليمين، الوفاء بعهد الله)، وبدون هذه القيم الأخلاقية (الروحية) تسقط كل المجتمعات الإنسانية، بغض النظر عن مدى تطورها التكنولوجي وإمكانياتها العلمية والمادية.

وبما أنها تمثل الجانب الذاتي هي والتشريعات (القوانين)، فهي ضعيفة في ذاتها، وبحاجة إلى دعم موضوعي. أي أن أخلاق الدنيا كلها لا تستطيع مواجهة غواصة أو طائرة، لذا فهي بحاجة إلى دعم موضوعي (حق) يسير معها ويدعمها. ومن هنا ظهر مفهوم السلطة التنفيذية لحماية القوانين والأخلاق، ومفهوم السلطة التربوية لجعل التقيد بالقوانين والأخلاق تقيداً ذاتياً عن قناعة لا عن خوف وقهر. وينعكس تمثل الناس لهذه القيم على الدولة في ثلاثة مستويات:

أ – المستوى الأول – مستوى العلاقة الأسرية والعشائرية والقبلية:

إذا سادت هذه العلاقة، القديمة تاريخياً، ولم يتم التغلب عليها والارتقاء إلى مستوى الشعب، انعكس هذا على بنية الدولة، لتصبح الدولة قائمة معها على العلاقات الأسرية والعشائرية في مضمونها، حتى ولو أخذت الأشكال الحديثة في بنيتها، إذ تبقى هذه البنية معطلة تتغلب عليها العلاقة الأقوى، علاقة الأسرة. في هذا الحال، يصبح القانون مجرد تعابير واصطلاحات لا معنى لها، وغطاءً لبنية حقيقية متخلفة هي الأسرة والعشرية، وهذا واضح في البنى المختلفة في الوطن العربي، والمضامين الأسرية والعشائرية والقبلية المتضمنة في هذه البنى بدرجات متفاوتة، ابتداء من الوضوح الكامل العلني، حتى العلاقات الأسرية والعشائرية والقبلية المتخفية خلف صيغ دستورية وقانونية كرتونية هشة وهزيلة. ولكن هذا الاتجاه لا يمكن أن يظهر في الدولة إلا إذا كانت العلاقة الاجتماعية التحتية الأسرية والعشائرية هي المسيطرة بين أفراد المجتمع، كما هي الحالة في الوطن العربي السائدة بدرجات متفاوتة.

ب – المستوى الثاني – مستوى العلاقة الاقتصادية:

تحدد هذا المستوى الأساسي قوى الإنتاج والنمط الاقتصادي السائد في المجتمع، هل هو نمط إنتاجي أم نمط ريعي؟ فالنمط الإنتاجي يؤدي إلى تراكم الثروات في المجتمع نتيجة لعمل منتج وإدارة علمية، ونتيجة توزع قوى الإنتاج توزيعاً متكافئاً بين مختلف أنماطه الزراعية والصناعية والتجارية والخدمات، ونتيجة كون الدولة هي أداة ضبط وتوازن بين هذه القوى، لا تسمح بالخلل الاقتصادي بين الأنماط المختلفة. وبما أن لثروة الإنسان (رزقه) مصدرين، هما الخيرات الطبيعية والعمل الواعي في استثمار هذه الخيرات، فإن ضبط هذه الثروات، والعمل الواعي وتوزيعه، وتأهيل الإنسان، هي من المهمات الأساسية للدولة.

أما الدولة الريعية، فهي دولة دخلها لها، تنفق كل ما تجنيه من الناس على نفسها وعلى مؤسساتها وعلى موظفيها. وأول وجوه هذا الانفاق هو حماية نفسها من شعبها أولاً. وهذه الدولة لا يمكن أن تقوم إلا إذا كان نمط الإنتاج متخلفاً، فالغنى فيها ليس غنى الإنتاج، وإنما غنى يتبع المنصب والمركز والموقع الأسري والعشائري. ونرى في هذه الدولة مفهوم الحظ، الذي يختلف تماماً عن مفهوم الحظ في المجتمع الإنتاجي، ونسمع فيها أقوالاً مأثورة من مثل “هذه رزقة فلان” و”الله رزقه وأنعم عليه” .. وغيرها، بينما لا يقال هذا الكلام في شركة إنتاج سيارات تنتج الملايين سنوياً، لأن لأرباحها الطائلة ما يقابلها من إنتاج، أما الغنى والأرباح الطائلة في المجتمع الريعي، فليس لها إنتاج يقابلها، ولكن لها ما يقابلها من موقع في السلطة، التي هي أساساً أسرية أو عشارية، وبالتالي من موقع في الأسرة أو العشيرة التي يمثل أفرادها الطبقة الحاكمة، وغناها يأتي من أنها حاكمة فقط!!

ج – المستوى الثالث – مستوى الوعي المعرفي:

وهو الذي ينعكس على كل المستويات الأخرى. فالذي لا يعرف شيئاً لا يطلب شيئاً ولا يفعل شيئاً. ومن هنا كان هذا المستوى هو الكامن وراء تقدم المجتمعات التكنولوجي والعلمي والاجتماعي، الذي يقوم على علم الإحصاء بشكل رئيسي. فكلما كان المستوى المعرفية متقدماً، كان المجتمع متقدماً. علماً بأن هذا المستوى هو الجانب الموضوعي للدولة، جانب التصور القائم على التصديق. وهذا الجانب له علاقة مباشرة ببنية الدولة وبطريقة ممارستها وتعاملها مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، أي أن الدولة تقوم على جانبين أساسيين هما المعرفة والتشريع.

p2-183

وبما أن التشريعات ضعيفة في ذاتها، وتستمد وجودها من إدراكنا لها، فهي بحاجة إلى سلطة تدعمها. وهكذا ظهرت السلطة التنفيذية، فأصبحت الدولة تتألف من ثلاثة جوانب أساسية:

  1. البحث العلمي والجامعات.
  2. السلطة التشريعية.
  3. السلطة التنفيذية.

وتأتي السلطة القضائية كصلة وصل بين التشريع والتنفيذ.

لقد احتوى التنزيل الذي أوحى إلى محمد (ص) هذين الجانبين، الجانب المعرفي (المادي والتاريخي) في النبوة، والجانب التشريعي في الرسالة، وذلك لأن الأوامر والنواهي لا تحتوي على بيناتها بذاتها، فهي تحتمل الطاعة والمعصية، ولا تحتمل الصدق والكذب. فإذا أمر زيد عمرواً بقوله “اجلس” لا يستطيع عمرو أن يجيبه “صدقت” أو “كذبت”، ولكنه يستطيع أن يطيع أو يرفض. فقولنا “اجلس” لا يحتوي على بينته فيه، أي حيثيته في ذاته.

فإذا سنت الدولة تشريعاً يمنع التدخين، فهو يحتاج إلى تصديق حتى يطاع، أي يحتاج إلى بينات، وهذا التصديق يتمثل بنشرة طبية كاملة قام بها معهد أبحاث علمية مختص بأمراض الرئة، ومضار التدخين على الجهاز التنفسي، تقدم كبينة تدعو لتصديق التشريع وطاعته بالامتناع عن التدخين، إلا أنها تظل تحتمل الصدق والكذب. هنا نتبين السر الكبير في التفريق بين القرآن والكتاب، وبين النبوة والرسالة.

فالرسالة (أم الكتاب) مجموعة أوامر ونواهٍ (الحدود) تحتمل الطاعة والمعصية، لكنها لا تحمل بينتها في ذاتها، لذا فهي قابلة للتحوير والتزوير، فجاء القرآن بالوعد والوعيد، والجنة والنار، والبعث والحساب، والخلق والنشوء والتطور، والقوانين العامة الناظمة للكون والتاريخ. لقد جاءت الحقيقة الموضوعية كاملة إلى محمد (ص) في نبوته، لتصديق أم الكتاب، ووضعت آيات أم الكتاب بين آيات القرآن لحفظها من التزوير والزيادة والنقصان، فالقرآن الذي فرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب، جاء وكله صدق، ليصدق أم الكتاب أولاً، ويحفظها من التزوير والتحريف ثانياً.

والدولة الحضارية، تقوم بنيتها على التنزيل الحكيم، بشقيه النبوة والرسالة، الرسالة بالأوامر والنواهي التي تحتمل الطاعة والمعصية، والنبوة بالبينات التي يجب أن تقوم لتصديق القوانين. من هنا نقول أن الدولة العربية الإسلامية المنشودة دولة تقوم في بنيتها على البينات التي يجب أن تقدم قبل اقتراح أي تشريع. وهي بينات مادية علمية. ولا يقيد هذه الدولة في تشريعاتها إلا حدود الله، أي أن تحنف ضمن الحدود طبقاً للمستوى المعرفي السائد (الزمان) وطبقاً لموقع الحالة (المكان).

ولكن المجتمعات العربية ما زالت بعيدة عن هذا، لأن العلاقات الاجتماعية (أسرية – عشائرية – قبلية – ريعية) هي السائدة، وهي التي تدفع المستوى المعرفي دائماً إلى الوراء، وتقمعه قمعاً مرعباً. ومن هنا أرى أن معاهد الأبحاث العلمية في البلاد العربية الإسلامية، معاهد أبحاث شكلية صورية، لا يستفيد منها المجتمع الفائدة المرجوة، لأن هناك مستويات أقوى منها تقمعها دائماً. فنحن لا نحتاج، لكي نصدر أي تشريع في أي بلد عربي، إلى بينة علمية بتاتاً، حتى أنا لا نشعر بوجوب تقديمها، وهذا من قمة مظاهر التخلف في المجتمعات، الذي يرافقه بالضرورة تخلف أخلاقي، حين تصبح العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمع، وبالتالي في الدولة، عبارة عن علاقات تقمع القيم الأخلاقية الإنسانية لحساب العلاقة القائمة.

هنا نصل إلى أن نبين تأثير جدل الإنسان، في المعرفة، ثم في التشريع، على بنية الدولة. عبارة عن مؤسسات ذات بنيتين مختلفين تماماً، هي مؤسسات البينات، ومؤسسات التشريعات. أما السلطات المعروفة للدولة (القضائية – التشريعية – التنفيذية) فما هي إلا مؤسسات لخدمة وتنفيذ هاتين البنيتين.

إن شقّي البينات والتشريع اللذين قامت عليهما الدولة خلال السياق التاريخي لنشأة المجتمعات والدول، هما التبرير الرئيسي للسؤال الهام: لماذا كانت نشأة الدول كلها دينية بدون استثناء، حتى يومنا هذا؟ ولماذا كان الدين هو العنصر الكامن وراء رقي الإنسان على سلم الحضارة، وبدون الأديان لا يوجد، ولم نكن لنصل إلى الدول بالمفهوم المعاصر، وبالشكل الذي نراها عليه الآن.

نعود إلى القصص القرآني بشقيه النبوات والرسالات، فالنبوة، كما قلت، علوم، والرسالة أحكام. وعدد الأنبياء كان أكثر بكثير من عدد الرسل. إذ استدعى تراكم المعلومات لدى الإنسان بالنبوات، أو بالتعليم المشخص (الملائكة – دفن الموتى – اكتشاف الحديد – صناعة الفلك) أو بالملاحظة (اكتشاف النار)، قفزة تشريعية، وتغييراً في التشريع.

فعلّم الله الناس عن طريق الأنبياء معلومات كانت غيباً عندهم، إلى أن أصبحنا بعد خاتم الأنبياء (ص) مؤهلين لنكمل الطريق بأنفسنا، فنحن نعرف الآن تماماً كيف توصل الإنسان إلى كثير من حقائق الكون دون نبوة، لكن هذا حصل بعد محمد (ص) لا قبله. وكيف شرع الله عن طريق الرسل ما يتناسب مع تطور المجتمعات آنذاك، فنرى أن رسالة إسماعيل، مثلاً، كانت آية واحدة فقط {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضياً} مريم 55.

وأن رسالة شعيب كانت مجموعة من التعليمات، لكن وحدانية الله سبحانه كانت غير واضحة لدى الأقدمين، لذا كانت على رأس دعوة كل رسول ونبي، والقاسم المشترك بينها. وكان عدم فهم الناس للصفات المتضادة للخير والشر، والنور والظلام، والخصوبة والجفاف، على أنها كلها ذات مصدر واحد، والسبب في ظهور مفهوم تعدد الآلهة حسب الاختصاصات. وانعكس مفهوم الاله نفسه، كقوي جبار متحكم، على الحكم في الأرض، فجاء على أنه رأس السلطة في الأرض، مقابل سلطة الله في السماء، ونشأ من ذلك الحكم الإمبراطوري والملكي المستبد. حتى في القبائل البدائية، كان رأس القبيلة هو رأس السلطة، يشاركه عراف طبيب كسلطة معرفية، كما لو أن حق الحكم حق الهي لشخص أو فئة.

وهذا ما نلاحظه حتى في الدول الحديثة التي تقوم أساساً على فلسفة (الله – الكون – الإنسان) ولكن بمقاييس ومعايير مختلفة، وأن كل الفلسفات الحديثة الكامنة وراء نشوء الدول هي فلسفات إسلامية من جوانب صحتها، وكذلك التشاريع وأنماط الحكم فهي عبارة عن تشاريع إسلامية وأنماط إسلامية من خلال سياقها التاريخي، وذلك لطبيعة الإسلام الحنيفية التي لا توجد في غيره باعتباره الخاتم.

لقد أعطت النشأة الدينية للدول والحضارات مفاهيم للإنسانية لا غنى عنها اليوم:

  1. الشرعية هي شرعية الحكم والسلطة والطاعة.
  2. شرعية استعمال العنف أو عدم استعماله.
  3. القانون الأخلاقي.
  4. اعتماد الأعراف كأساس من أسس بنى الدولة.
  5. اعتماد الطرح الأممي والقومي.
  6. حرية الإنسان (حق الإنسان في الحياة والحرية).

إن البينة والتشريع اللذان يكمنان وراء كل البنى في الدول والمؤسسات هما الموجه الأساسي في بنية الدولة العربية الإسلامية المرجوة. أي أن بنيتها كبنية التنزيل الموحى إلى محمد (ص)، البينات – الأحكام (التشريع) التفصيل: تفصيل الأحكام وشرحها وفلسفتها، الذي يظهر في مجال الاجتهاد القانوني والدستوري كالمحكمة العليا. وهذه الأمور الثلاثة متداخلة بعضها ببعض كتداخل آيات التنزيل نفسه.

فإذا وجدت دولة من الدول تصرف أكثر من نصف ميزانيتها على التربية والتعليم والبحث العلمي (البينات)، كانت هذه الدولة تقترب من البنية الإسلامية المطلوبة، لأنها تؤمن بأن التقدم العلمي هام لتقدم الصناعة والزراعة والتجارة والطب وكل الخدمات. وبناء على ذلك، فهي تسن التشاريع المناسبة لهذه البينات المكتشفة، ثم تسن في ضوء مستجدات المعارف في العلوم الطبيعية والإنسانية، تشريعات جديدة (الحنيفية) تتناسب مع هذه المستجدات.

هنا نلاحظ جدل التأثير والتأثر المتبادل بين البينة والتشريع، والذي بدونه لا تقوم قائمة لأية دولة، وبدونه تبقى الدولة تجمعاً فوقياً لبنية مجتمع تحتية في غاية التخلف. على هذا الأساس انظر إلى بنية الدولة الإسلامية المعاصرة حين أناقشها، من منطلق أن القومية خامة الأممية، وأن المسلمين أمة، والعرب، كقومية، خامة الدولة العربية الإسلامية المعاصرة.

قد يقول قائل، إن العرب شعب وقومية واحدة، فعن أية بنية نتكلم؟ أنا أقول، لا يهمنا هنا أكانت البنية في بقعة صغيرة من الوطن العربي أم في الوطن العربي كله، فأنا أتكلم عن بنية الدولة العربية الإسلامية المعاصرة، وفي رقعة من الوطن، أو في الوطن، التي تحقق شقي البينات والتشريع، وكيف ينعكس ذلك على البنى الأساسية للدولة، التنفيذية والتشريعية والقضائية ومفهوم الحريات العامة، وكيف ينعكس يذلك على مفهومين أساسيين هما الدستور والقانون.

نظرية القول والفعل في الدولة

لقد عرفنا الحرية بأنها الإرادة الواعية بين نفي وإثبات في موجود. وأنها الظاهرة الأساسية في جدل الإنسان، وأنها تقوم على الاختيار ونفي الإكراه، ووجود الضدين بشكل متكافئ. وأن أول الحريات الإنسانية حرية العقيدة، كهبة من الله لعباده. وأن ثانيهما حرية التعبير عن هذه العقيدة.

وبينا أن الشورى طريقة ممارسة هذه الحريات من قبل مجموعة من الناس، ضمن مرجعية معينة معرفية وأخلاقية وعرفية وجمالية، تتبع البنى الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، وتقوم على حرية الرأي والرأي الآخر والتعبير عنه ومفهوم الإجماع، بترجيح رأي أغلبية الناس في أمر من الأمور، وهو ما نسميه اليوم بالديموقراطية.

كما بينا أن الشورى (الديموقراطية) تدخل في بنية العقيدة الإسلامية، وضمن الاستجابة لله تعالى كالصلاة والزكاة تماماً. وأن ممارستها تدخل ضمن بنية المجتمع التاريخية، أي ضمن الدولة التي تقوم عليها، كجزء من العقيدة الإسلامية. ورأينا كيف مارس النبي (ص) الشورى ضمن البنية القائمة في حينه، ولم يحدد بنية الدولة، ولا مدة حكم الأمير وصلاحياته وكيفية انتخابه، وكيف أن التنزيل الحكيم ذكر أولي الأمر ولم يحدد من هم، ولا كيف ينتخبون ولا صلاحياتهم، وإنما حدد الأسس الأخلاقية للمجتمع.

فالشورى، بالمفهوم الإسلامي المعاصر، هي الديموقراطية التي تقوم على حرية الرأي والرأي الآخر، وعلى حرية التعبير عن هذا الرأي، مستعملة آخر ما توصل إليه العلم من أدوات نشر المعلومات. والشورى تدخل في بنية الدولة الدستورية لا في اللوائح القانونية. لأن الحرية والديمقراطية، كما بينا سابقاً، نمط التجارب المخبرية في منهج العلوم الكونية. فالحرية والعلم توأمان لا ينفصلان، وكلما زاد تعلم الناس ووعيهم، زادت حاجتهم إلى الحرية. وكلما كانوا أحراراً، زادت فرص نمو العلم عندهم.

وبما أن للثورة العلمية منعكس هو تقدم التكنولوجيا، من حيث أن التكنولوجيا هي أيديولوجيا العلم، فالعدالة الاجتماعية النسبية وتقدم المعارف، وازدياد رفاهية الإنسان وتحضره هما أيديولوجيا الحرية والديمقراطية، والحرية والديمقراطية هما المنهج العلمي الحضاري في العلاقات الإنسانية. ولتحقيق ذلك، وجب علينا تحديد الشروط البنيوية للدولة التي تمارس فيها الحرية والديمقراطية، وتحديد متى تكون هذه الشروط مقبولة، ومتى تكون غير مقبولة. فلكي تصبح بنية الدولة العربية الإسلامية معاصرة، يجب أن تحتوي على الشروط التي تدخل في بنيتها. فكيف يمكن التعبير عن البنية في الدولة العربية المعاصرة؟

هذا التعبير يأخذ شكله من الدستور، فالدستور هو الإطار الذي يعبر عن بنية الدولة. وبما أن البنى في الدولة تتطور بشكل بطيء، فإن تعديل الدساتير يجري بفترات زمنية متباعدة، أكثر من تعديل القوانين. هنا نضع أيدينا على لب الأزمة في العقل العربي السياسي، وهو غياب الدستور وأهميته في هذا العقل. فالعقل العربي السياسي، عند الكتلة الأساسية من الناس، لا يشعر بأي حرج من استمرارية حكم الحاكم مدى الحياة، بغض النظر جمهورياً كان أم ملكياً، ولا يشعر بسلطة الحاكم التي تكاد تكون مطلقة، ولا يعني كثيراً بالطريقة التي وصل بها الحاكم إلى الحكم، ولكنه معني أكثر بأمور الحياة اليومية التي يغطيها القانون.

فالإنسان العربي يشعر، مثلاً، عندما تتم مخالفة إشارة المرور ويشعر بإجحاف في قانون الجمارك، ويشعر بتعسف ضريبة الدخل، فيعبر عن سخطه، وهو محق في ذلك. لكنه لا يشعر مطلقاً بمخالفة دستورية حين تقع، هذا إن وجد دستور أصلاً‍ !! لماذا؟؟ لأن القانون هو الذي ينظم حياة الناس اليومية، وهو ما يعادل الفقه الإسلامي الذي نظم الحياة اليومية للناس في عصور التدوين وما تلاها. فكان بمثابة اللائحة التنفيذية القانونية التي يعمل بموجبها القضاة في فض النزاعات والخصومات، وتنظيم علاقات الأفراد بعضهم مع بعض. لهذا، فالعقل القانوني عند العرب، أي العقل الفقهي، لا يعاني من قصور، إنما العقل الدستوري هو الذي يعاني من القصور.

والعقل العربي السياسي ما زال يحمل فكرة الإمام العادل أو المستبد العادل على أنها فكرة مقبولة، وهذه الفكرة هي كفكرة الليل المضيء لأن الاستبداد والعدل لا يجتمعان. فمنذ استولى معاوية على الحكم بالقوة، وجعله وراثياً بالقهر، تم تهميش دور المسلمين، حتى يومنا هذا، في الأمور التي تتعلق بالسلطة السياسية. وما زالت الشعور العربية والإسلامية، حتى يومنا هذا، تعيش على الهامش في الأمور التي تتعلق بانتفاء الحاكم وصلاحياته ومدة حكمه، وما زال الاستبداد السياسي هو المسيطر على العقل العربي الحاكم والمعارض على حد سواء. فالقانون يصدر عن مجلس الشعب أو مجلس الشورى بموجب السلطات الدستورية بتصويت أعضاء المجلس، أما الدستور فيصدر بالبداية التالية (نحن الشعب قررنا ما يلي ..)

لقد دفعت الشعوب المتحضرة الدماء والدموع ثمناً لدساتيرها لا ثمناً لقوانينها. ونحن في دستور الدولة العربية المعاصر الذي ينظم بنية الدولة العربية الإسلامية المعاصرة، في حلٍ من كل البنى التاريخية السابقة، لأنها غير ملزمة، والإسلام يتفاعل مع كل البنى حسب تاريخيتها، لأن العمود الفقري للعقيدة الإسلامية على صعيد الوجود الكوني والتاريخي هو قانون التطور.

لماذا كانت الشورى (الديموقراطية) تدخل في البنية الأساسية للعقيدة الإسلامية، وفي الممارسة البنوية لهذه الشورى، فإن الشكل الأمثل لها هو التعددية الحزبية، التي تعبر عن الرأي والرأي الآخر بشكل منهجي علمي منظم، وأن حرية الأحزاب السياسية من أساسيات الحياة الإسلامية المعاصرة. أي علينا أن نعي تماماً أن الإسلام فيه يمين وفيه يسار، واليمين فيه أجنحة، وكذلك اليسار، وأن الموقف اليميني اليوم يمكن أن يكون يسارياً غداً، أي علينا أن ندخل في دائرة وعينا السياسي الحقائق التالية كما وردت في التنزيل الحكيم:

أ – إن الله سبحانه نفسه قبل المعارضة، ولم ينتقم منها، وأرجأها إلى يوم القيامة. فإذا كان الله، وهو الواحد القهار خالق السموات والأرض، قد قبل المعارضة، فلماذا لا نقبلها نحن؟

ب – إن الإنسان بدأ ممارسة الحرية بالمعصية لا بالطاعة، أي أن الإنسان عبر عن حريته وأنه فعلاً حر بمعصية الله لا بطاعته. أي بدأ بممارسة الحرية بطرفها المقابل، ولو أن كل أهل الأرض أطاعوا أوامر الله كلها، لما عرفنا أصلاً أن الإنسان مخ‍ير وليس مسيراً.

جـ – إن الوقوع في الخطأ، نتيجة لممارسة الشورى ورأي الأكثرية، لا يعطي المبرر لإلغاء الشورى، وأكبر دليل على ذلك هو النبي (ص) عندما استشار الصحابة في أسرى بدر، وكان رأي الأكثرية عدم قتلهم، ثم جاء الخبر من السماء بخطأ هذا الرأي، ومع ذلك لم يلغ هذا التصحيح من الله آية {وأمرهم شورى بينهم} ولم يلغ آية {وشاورهم في الأمر}. وبعد ذلك استشار الناس في غزوة أحد، وأشاروا عليه بالخروج من المدينة والقتال، وأخذ برأيهم، وتمت الهزيمة في أحد، ومع ذلك لم يوجه اللوم لأحد ولم يلم نفسه على هذه الاستشارة، أي أن السنة النبوية تعلمنا (إن الخطأ في الشورى لا يبرر إلغاءها). هذا يرد على ما يقوله البعض من أن رأي الأكثرية قد يكون خاطئاً، لذلك لا مبرر للشورى والتصويت وحرية الرأي وإجماع أكثرية الناس، لأنها قد تكون جاهلة.

وقولهم هذا خطأ لأن الإسلام أقر مبدأ الشورى ورأي الأكثرية، حتى وإن تبين أنه خاطئ فيما بعد. وهذا يقودنا إلى مفهوم الحزب المنظور السياسي.

فالحزب، بالمفهوم المعاصر، تعبير عن وعي جماعي من خلال مؤسسة جماعية منظمة وعلنية لها موقف من قضايا المجتمع المعاصرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولها برنامج عمل لتطوير الدولة والمجتمع وحل القضايا الأساسية التي تفرزها التناقضات اليومية للمجتمع داخلياً، وعلاقات التأثير والتأثر المتبادل مع المجتمعات الأخرى، أي العلاقات الدولية. فالحزب له نظرة في حل المشاكل الداخلية والخارجية، وفي قيادة الدولة والمجتمع من خلال الرأي، وحرية الكلمة وموافقة الناس على برامجه المقدمة.

وهذا التعريف بالحزب له معنى إيجابي وضروري، أي أنه إطار مادي للتعبير عن الأفكار المشتركة لمجموعة من الناس. فإذا أخذنا بهذا المفهوم وطبقناه، نرى أنه قديم، حيث كانت خلافات الرأي قديماً تُحل بالعنف، فالأقوى هو الذي يغلب الأضعف، ولا أرى للناس في ذلك. أي كان هناك أحزاب، ولكن القوي فيها يستبد بالضعيف، ويقضي على معارضته جسدياً. أما الآن، فللحزب مفهوم أوضح، هو التعبير عن رأي مجموعة، والحزب الآخر أداة للتعبير عن مجموعة لها نظرة مغايرة، والناس هم الحكم وليس السلاح.

علينا أن نُدخل ضمن قناعاتنا وجود التعددية الحزبية المتكافئة في تعبيرها عن آرائها، حتى نستطيع إقامة حكم شوري بالمفهوم المعاصر. ولكن كيف يمكن وجود حزب إسلامي، إلى جانب أحزاب غير إسلامية، وكيف يمكن لها أن تتعايش؟ وما هو مفهوم الجزية، كجزء من الممارسة الإسلامية، في إطار موقف الإسلام من الرأي الآخر ضمن الدولة الواحدة، أي في حدود مفهوم الشعب وليس الأمة أو القومية؟

هنا يجب علينا صياغة مفهوم معاصر لموقف الإسلام من الآخر ورأي الآخر، آخذين بعين الاعتبار سياق الآيات، والتطبيق التاريخي لآية الجزية {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون} التوبة 29 (انظر فصل الجهاد).

وسورة التوبة سورة محكمة كلها، أي كل آياتها أحكام وتشريعات، ولهذا فهي لا تبدأ بالبسملة، وهي التي أشار إليها تعالى في قوله بسورة محمد {ويقول الذين آمنوا لولا نُزِّلت سورة فإذا أنزلت سورةٌ محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم} محمد20. أما سورة محمد نفسها ففيها آيات محكمات، وفيها متشابهات أي قرآن، كقوله تعالى: {مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهارٌ من ماءٍ غير آسنٍ وأنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمه وأنهارٌ من خمرٍ لذةً للشاربين وأنهارٌ من عسلٍ مصفّى، ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرةٌ من ربهم، كمن هو خالدٌ في النار وسقوا ماءً جميعاً فقطّع أمعاءهم} محمد 15.

إننا نرى في إشارته تعالى إلى سورة التوبة، بآية من آيات سورة محمد، دلالة على علاقة ما تربط بين السورتين، كما نرى علاقة أخرى تربط بين السورتين وبين الآيتين 8 و9 من سورة الممتحنة، تحكم العقل العربي السياسي والإسلامي خاصة، في تحديد مبدأ العنف، وفي موقفه من الآخر والرأي الآخر. ونرى أن علينا الوقوف طويلاً أمام السورتين وآيتي الممتحنة، لتحديد ما إذا كان هذا المبدأ الذي تقرره مطلقاً يعمل في كل زمان ومكان، أم هو مرحلي ينحصر في إطار مرحلة البعثة النبوية.

  • {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين} الممتحنة 8.
  • {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة 9.

سورتا التوبة ومحمد مدنيتان أيضاً، والمدينة المنورة كانت مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية في شبه جزيرة العرب. فيها المواقف السياسية العلنية، وفيها الحرب الأهلية، والحروب الخارجية، وتم تغطية كل ذلك في سورتي محمد والتوبة. فإذا أخذنا الممتحنة، نجد فيهما بيان من نقاتل، ومن لا نقاتل، بغض النظر عن كونه من أهل الكتاب أم من غيرهم. وبما أن باب البر والقسط مفتوح إلى يوم القيامة، ومقبول بمختلف أنواعه المادية والمعنوية، فالله سبحانه لم يحدد شروط وظروف البر والقسط التي يجب توفرها حتى يكون مقبولاً، لكنه حدد مبررات وشروط القتال التي يجب توفرها حتى يكون مشروعاً.

أي انه سبحانه حدد لنا في السورتين شروط وظروف تنفيذ الآية 9 من سورة الممتحنة، في قتال من قاتلنا في الدين، وأخرجنا من ديارنا، وظاهر على إخراجنا. ومن هنا نرى أن محتوى سورتي محمد والتوبة، فيما يخص منهما موضوعنا هذا، ليست مطلقة، بل تحددها وتقيدها الآية 9 من سورة الممتحنة. ونرى دراستها على هذا الأساس، كيلا نقع في وهم التناقض بين السورتين والآية، أي كيف نأخذ الجزية من الذين لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ولم يظاهروا على إخراجنا، عن يدٍ وهم صاغرون؟ وأين البر والقسط في ذلك؟ يقول الله في سورة التوبة {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ..} فكيف، إذا لم يقاتلونا ولم يخرجونا من ديارنا ولم يظاهروا على إخراجنا؟

يجب أن نميز بين موقفين سياسيين متغايرين تماماً، الأول موقف الآية 8/الممتحنة، والثاني موقف الآية لتتوضح الأمور، ولنجد أن القتال جاء على مستويين:

المستوى الأول داخلي: {قاتلوكم في الدين} أي قمع حرية الاختيار العقائدي، والاستبداد والاضطهاد الفكري.

المستوى الثاني خارجي:

أ – عدوان من خارج بلاد المسلمين (التتر والمغول والصليبيين).

ب – الإخراج من الديار بالاضطهاد العقائدي (محاكم التفتيش في الأندلس) أو لأسباب استعمارية استيطانية (إسرائيل في فلسطين والأرض المحتلة).

ولقد شرحت سورة التوبة هذين المستويين، فالمؤمن مطالب بالآية 112 منها، مثلاً، بالحفاظ على حدود الله مطلقاً، سابقاً وحالياً ومستقبلاً {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله، وبشر المؤمنين}. كما غطت سورتا محمد والتوبة أحداث الدعوة النبوية ومراحلها، فبدأت سورة التوبة بالآية بقوله تعالى: {براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين}، ونراها غطت في آياتها مرحلة القتال الداخلي مع مشركي العرب، ومرحلة القتال الخارجي كغزوة العسرة (تبوك)، فنحن لا نجد في التنزيل الحكيم آيات بمستوى قسوة آياتها التي ذكرت المتخلفين والمتقاعسين عن هذه الحملة.

فالقتال مبرر في حالتين:

  • القمع الداخلي.
  • العدوان الخارجي.

وعند الانتصار على القمع الداخلي، تؤخذ الجزية من الذين أوتوا الكتاب عن يد وهم صاغرون، إذا كانوا طرفاً في هذا القمع، أو ظاهروا عليه. ويعتبر القتال مبرراً في حالة القمع الداخلي، أي مع فقدان حرية العقيدة والتعبير عنها، ضد أهل الكتاب وغيرهم من الضالعين في هذا القمع، حتى يحصل كل الناس على حرية التعبير عن رأيهم بالتساوي. وهذا يعني أن أي دستور للدولة العربية الإسلامية يجب أن يحتوي، حسب الإسلام، على جملة بنود ومفاهيم:

  1. صيانة حرية تشكيل الأحزاب السياسية في الدولة، ولا لزوم لموافقة أي سلطة لتشكيل حزب سياسي، وإذا كان للسلطة اعتراض، فلتلجأ هي إلى القضاء.
  2. صيانة حرية التعبير عن الرأي، في الاجتماعات والتظاهرات السلمية، والندوات، والصحافة والتلفزيون، وجميع الوسائل التي توصلت إليها تكنولوجيا المعلومات.
  3. العبادات بجميع أنواعها لا تدخل البتة ضمن برامج الأحزاب السياسية، فالعبادات ليست موقفاً اقتصادياً أو سياسياً، ولا علاقة لها بتناقضات المجتمع اليومية، أو بعلاقاته بغيره من المجتمعات.
  4. تكفل الدولة للناس حرية ممارسة العبادات، في الحد منها. فتخفض مثلاً ساعات العمل للصائم في رمضان، لكنها لا تخفضها للصائم خارج رمضان.
  5. بما أن الدولة تمثل الشعب، والشعب يمكن أن يضم في داخله أمماً أو قوميات، فكل المواطنين في الدولة أفراد بالتساوي لهذا الشعب، بغض النظر عن الأمة أو القومية التي ينتمون إليها.
  6. يحق لكل القوميات الصغيرة تنمية ثقافتها، ونشر لغتها وآدابها بكل حرية.
  7. الأداة العسكرية تتبع الإرادة السياسية وتخضع لها تماماً.

الدولة العلمانية

كثر الحديث عند العديد من الحركات السياسية في الوطن العربي عن الدولة العلمانية، وفصل الدين عن الدولة، مما حصل معه انفصام كبير بين الحركات الإسلامية والحركات القومية التي بثت أطروحة الدولة العلمانية. فهل الدولة الإسلامية دولة علمانية؟

الدولة العلمانية، كما أراها، هي الدولة التي لا تأخذ شرعيتها من رجال الدين (الهامانات)، وإنما تأخذ شرعيتها من الناس، فهي لهذا دولة مدنية غير مذهبية وغير طائفية. وبما أن الإسلام لا يعترف أصلاً برجال الدين، وليس بحاجة إليهم ليعطوه الشرعية، والهامانات هم من يدّعي الاختصاص بالدين والحفاظ عليه، والرقابة على تنفيذه من الناس، فإن أهل الحل والعقد في الإسلام هم نواب الشعب المنتخبين بالاقتراع الحر (الشورى في شكلها المعاصر) والدولة العلمانية هي الدولة التي تتعدد فيها الآراء، وتصان فيها حرية الرأي والرأي الآخر.

والإسلام كدين، لا يمكن فصله عن الدولة، لأنه لا يحتوي على مركبات الحق والتشريع والأخلاق والمال، وعلى جدلية الاستقامة والحنيفية، فإسلامية الدولة تتحقق في عدم تجاوز تشريعاتها حدود الله، وفي تبني الحقيقة والبحث، بالعلم والعقل، في بنيتها، وباعتماد الوصايا في منهاجها التربوي. أما العبادات فتتبع التقوى الفردية، وهي أصلاً مفصولة عن الدولة، ولا يوجد فيها جانب الحنيفية (التطور).

وبما أن الدولة تخضع للتطور دائماً فمن الطبيعي أن تُفصل عن العبادات، وقد فصلها النبي (ص) بنفسه. وبهذا نرى أن الدولة الإسلامية دولة علمانية بحتة. فالإسلام يحوي جدل الاستقامة والحنيفية، مما يعطي المجال للتعددية الحزبية وحرية التعبير عن الرأي، والإسلام يحتمل الموقف اليساري والموقف اليميني في حل نفس المشكلة. وكلاما إسلامي، والمطلوب هو فقط تقديم البينات، وموافقة أكثرية الناس، لا موافقة علمانية الدين، لأنه لا علاقة لهم بهذه الموافقة، وليس من حقهم إعطاء الشرعية للدولة أو للقوانين أصلاً. وتقوم الدولة العلمانية على الأسس التالية:

  1. لا إكراه في الدين.
  2. الكفر بالطاغوت (رفض الطغيان).
  3. وأمرهم شورى بينهم.
  4. فصل العبادات عن الدولة.
  5. القانون الأخلاقي العام المتمثل بالوصايا.
  6. حدود الله التي تتناسب مع فطرة الإنسان.
  7. منهج البحث العلمي وتقديم البينات المادية أساس للتشريع وللاختلاف.

وبما أن الرأسمالية والاشتراكية لا تكونان إلا في النظام الاقتصادي، والديموقراطية والاستبداد في النظام السياسي، والليبرالية والمحافظة في النظام الاجتماعي، فقد نجد دولة من النوع التالي:

(مجتمع محافظ + نظام سياسي ديموقراطي + نظام اقتصادي رأسمالي) كاليابان مثلاً، أو من النوع التالي:

(مجتمع ليبرالي + نظام سياسي ديموقراطي + نظام اقتصادي رأسمالي) كالولايات المتحدة مثلاً، أو من النوع التالي:

(مجتمع محافظ + نظام سياسي استبدادي + نظام اقتصادي اشتراكي) مثل كوريا الشمالية مثلاً.

ونجد من تبديل حدود المعادلة أعلاه، احتمالات عديدة لها ما يقابلها في الواقع، إذا أضفنا إليها حداً جديداً هو نظام الحكم (جمهوري، ملكي، مطلق أو مقيد). إلا أن شكل الحكم ليس مهماً، فليس كل حكم ملكي سيئاً، وليس كل حكم جمهوري جيداً على الإطلاق، إذ قد يأخذ الشكلان في بعض الأحيان محتوى واحداً!! لهذا، فعندما نطرح شكل الدولة الإسلامية، علينا اختيار النموذج من الاحتمالات الممكنة عقلياً، والموجودة موضوعياً، فيما يتعلق بالمجتمع والسياسة والاقتصاد وشكل الحكم، مع الأخذ بعين الاعتبار الخصائص التاريخية والمحلية.

والإسلام دين ليبرالي ومحافظ في آن معاً. إذ تظهر ليبرالية الإسلام في أنه:

  1. يقر بأعراف وتقاليد وعادات كل شعوب الأرض، ما لم تتجاوز حدود الله.
  2. يؤمن بأن الحرية والكرامة الإنسانية هبة الله إلى الناس، للذكور والإناث على حد سواء. لذا فإن الإسلام لا يمنع اختلاط الرجل بالمرأة في العمل والشارع، لكنه يمنع الخلوة مع غير المحارم في مكان مغلق.
  3. التشريع الإسلامي، فيما يتعلق بالزواج والطلاق والإرث وقانون الأحوال الشخصية، تشريع مدني إنساني ضمن حدود الله، يتبع درجة التطور التاريخي للمجتمع، وتقديم البينات، وموافقة الأكثرية (مجالس التشريع المنتخبة) ويمكن تحقيق العدالة النسبية تاريخياً من خلال هذا التشريع.
  4. لباس المرأة والرجل يتبع الأعراف في المجتمع ضمن حدود الله، فهناك مجتمعات محافظة من ناحية التطور التاريخي، مجتمعات ذكورية في الغالب، تتقيد بالحد الأعلى لله في اللباس، وهناك مجتمعات تتقيد بما دون ذلك، وهي كلها إسلامية.

أما الإسلام من زاوية الاستبداد والديمقراطية (الشورى) في السياسة، فهذه هي آفة الآفات وعلة العلل، والداء المزمن في المجتمعات العربية الإسلامية، منذ نهاية الخلافة الراشدية، حتى يومنا هذا، الذي يحتاج إلى جهد كبير للتخلص منه، ولتأسيس الدولة العربية الإسلامية على أساس الديموقراطية السياسية ذات المؤسسات الديموقراطية التي تتجلى في التعددية السياسية واستقلال القضاء وحرية التعبير عن الرأي وسيادة القانون، وحرمة الدستور.

إن أزمة الديموقراطية أزمة مستعصية في العقل العربي السياسي قبل أن تكون مستعصية في المؤسسات، فخلال هذه القرون الطويلة أصبح الاستبدال فلسفة تدخل ضمن شخصية الإنسان العربي وقناعاته وممارساته، ورسّخ الفقه والصوفية هذه القناعات بأن أعطوها الشرعية، وتم تأطيرها فقهياً وفلسفياً.

ففقهياً من خلال طاعة أولي الأمر، بغض النظر عن كيف أصبحوا أولي أمر، وفلسفياً من خلال العقيدة الجبرية لعامة المسلمين، بأن الرزق مقسوم، والعمر محتوم.

لقد تغيرت المفاهيم في المجتمعات العربية الإسلامية من خلال التطور التاريخي، فأصبحت الحرية فوضى، والشجاعة تهور، والجبن حكمة وتعقل. يصف المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي فلسفة قبول الاستبداد لدى الناس في العالم العربي الإسلامي فيقول: “لقد ألفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفنا الانقياد ولو إلى المهالك، وألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحةً واللكنة رزانةً، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضى بالظلم طاعة، ودعوة الاستحقاق غروراً، والبحث في العموميات (المصالح العامة) فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقةً، والشهامة شراسةً، وحرية القول وقاحةً، وحرية الفكر كفراً، و حب الوطن جنوناً ..” (طبائع الاستبداد، ص132).

لقد استند الاستبداد السياسي على ركائز الاستبداد العقائدي والفكري والمعرفي والاجتماعي لدى الناس، ولا أمل في التخلص من الاستبداد السياسي، قبل أن ينشأ تيار مؤمن بالديموقراطية قولاً وفعلاً، ومؤمن بأن الرأي والرأي الآخر موجود، وله حق مقدس ومصان، يصحح المناهج الاجتماعية في ضوء ذلك كله.

وبما أن الديموقراطية (الشورى) من صلب العقيدة الإسلامية، فلا يوجد في النظام السياسي الإسلامي إلا احتمال واحد، هو الديموقراطية في السياسة، وهو أمر يستحق النضال والموت في سبيله، لأنه النمط العلمي المتحضر للحياة الإنسانية.

الدستور / القانون / الأخلاق / الأعراف

الدستور مجموعة من المبادئ والقواعد الناظمة لبنية الدولة، تعطي الشرعية لكل مؤسسات الدولة قاطبة، وأساس الحريات العامة لمجموعة الأفراد (الشعب). هذه المؤسسات هي البنية الفوقية لبنية تحتية، هي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأعراف وحقوق الإنسان. وبما أن الدستور هو الناظم لكل المؤسسات، فهو لكل أفراد المجتمع، بغض النظر عن قوميتهم وعقيدتهم، ضمن مجال حيوي له حدود يسمى الوطن. والمؤسسات التي تأخذ شرعيتها من الدستور تسمى الدولة. لذا فلا يمكن أن يقال عن الدستور، أنه دستور قومي، أو دستور أممي، من حيث أن القومية والثقافة (الأمة) تنعكس بشكل مباشر في بنية الدستور.

أما القانون فهو مجموعة من اللوائح (التشريعات) تنظم الممارسة اليومية لمؤسسات الدولة، وللناس، ولعلاقة الأفراد بعضهم ببعض. وبما أن القانون يأخذ شرعيته من الدستور، فلا يمكن له أن يخالفه، بل يعمل ضمنه، ولكن يمكن تطويره والاجتهاد فيه. فلا يمكن مثلاً لقانون الجمارك أو قانون تنظيم الجماعات أن تكون بنوداً في الدستور، بل هي قوانين، لأنها تنظم النشاط اليومي لحركة البضائع المستوردة والمصدرة، والنشاط اليومي في الجامعات، فهي قابلة للتعديل بشكل دائم حسب ما تقتضيه مصالح التطور وحاجات المجتمع.

وبما أن التشريعات (القوانين) لا تحمل بيناتها في ذاتها، فهي بالإضافة إلى البينات العلمية التي تدعمها حين سنّها من قبل مجلس التشريع، بحاجة أيضاً إلى قوة مادية تدعمها من خارجها، وهنا يأتي دور السلطة التنفيذية والحاجة إليها، لأن مهمة السلطة التنفيذية العمل على تنفيذ القوانين من قبل الناس، كما يأتي دور السلطة القضائية في محاكمة مخالفي القوانين وفرض العقوبات عليهم.

وكمثال على ذلك، لله المثل الأعلى، فالدستور للدولة هو كاللوح المحفوظ، الذي يجمع القوانين العامة الناظمة للكون كله، فهي ثابتة لا تتغير، أما القانون فهو كالإمام المبين، الذي يمثل قوانين الطبيعة الجزئية وأحداث التاريخ، التي تعمل ضمن قوانين اللوح المحفوظ العامة، ولا تخرج عنها.

فكما أنه لا يمكن لظاهرة جزئية في الطبيعة مهما بلغت من الصغر أو الكبر في تناقض اللوح المحفوظ، كذلك لا يمكن بالفرض، أن توجد فقرة أو نص أو قانون يناقض الدستور، فمهما بلغ الطب من التقدم، فقد يطيل الأعمار، لكنه لا يلغي الموت، فالموت من قوانين اللوح المحفوظ، أما الأعمار وقصرها فمن قوانين الإمام المبين. وهذا المثل يقودنا إلى أن نأخذ بنية الدولة العربية الإسلامية من التنزيل الحكيم، من حيث هو اقتران اللوح المحفوظ بالإمام المبين في انسجام رائع مدهش، وأن ننهج نهجه في تحديد بنية الدولة.

والأخلاق هي مجموعة القيم والمعايير غير المادية وغير القياسية، التي تحدد علاقة الناس بعضهم ببعض، وعلاقة الدولة بالناس، إضافة إلى الدستور والقانون. فهي تحدد الحسن والقبح الكوني، وهي غير قاسية، بمعنى أنها تحدد حسن الصدق وقبح الكذب، لكن لا يوجد فيها صدق كبير وصدق صغير، أو كذب عريض وكذب ضيق، وقل مثل ذلك في الغش والرشوة وشهادة الزور والحنث باليمين وقتل النفس. وقد تتداخل القيم الأخلاقية والقوانين، فقتل النفس مثلاً، محرم أخلاقياً وقانونياً، والفرق بينهما أن الأخلاق تأتي من خلال التربية، فالإنسان لا يقتل، انطلاقاً من قناعة أخلاقية ذاتية، لأن القتل تعافه النفس، فهو يمتنع عن القتل بحكم وجداني، ثم هو لا يقتل خوفاً من العقوبة القانونية.

فقد جاء تحريم الفواحش في الوصايا، ما ظهر منها وما بطن، وتحريم قتل النفس، ونصت بالوقت نفسه على معاقبة القاتل ومرتكب الفاحشة العلنية. ونلاحظ أن الله سبحانه هنا، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، لكنه لم يشرع سوى العقوبة على ما ظهر منها فقط، لأن القوانين لا تتعامل إلا مع ما ظهر، فإذا نوى الإنسان فاحشة ولم يأت بها، أي لم تظهر عليه، فلا سلطان لقانون عليه، والأخلاق يتلقاها الإنسان من خلال منهج تربوي (الأسرة – المدرسة – المجتمع) وليس من خلال منهج سلطوي.

والأعراف هي مجموعة من التقاليد المحلية، التي قد تختلف من بلد لآخر ضمن الوطن الواحد. وهي بنية فوقية لبنية تحتية هي البيئة والعلاقات الاقتصادية والإنتاجية. وهي أيضاً من مصادر التشريع ما لم تكن مخالفة لحدود الله {.. الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله..} التوبة 112، والأعراف قابلة دائماً للتطور حسب الزمان والمكان، ولا تحمل الصيغة الشمولية والثبات كالأخلاق.

وعليه، يصح أن تقول هناك أعراف عربية، ولا يصح أن تقول هناك أخلاق عربية، لأن هذا يعني أن هناك أخلاق غير عربية. ولا يصح أن تقول هناك أخلاق عربية، لأن هذا يعني أن هناك أخلاق غير عربية. فالأخلاق تحمل صفة الشمول (كونية الأخلاق)، وهي القاسم المشترك بين أهل الأرض، أي بغض النظر عن أعرافهم وعن دياناتهم.

من خلال هذه المقدمة، أرى أنه لا بد للدولة العربية الإسلامية، فيما يتعلق بالوجود، من أن تؤمن بأن هذا الكون الذي نعيش فيه، وجود مادي حقيقي مبني على ثنائية التناقضات وعلى الأزواج والأضداد، وعلى تغير الصيرورة (التطور) في الأشياء والمجتمعات، وعلى أن التناقضات الداخلية في المجتمعات تؤدي بالضرورة إلى تغير الشكل، وإلى ظهور شكل جديد في المجتمع والعلاقات الاجتماعية وبنية الدولة. لذا فإن هذه الدولة دولة متطورة، مبنية على البينات المادية التي يقدمها العلم الموضوعي والعقل.

وهي لا يمكن أن تزول، بل تتطور من شكل إلى آخر، ما دام هذا الكون قائماً حتى قيام الساعة وهلاك هذا الكون، وقيام كون جديد على أنقاضه خال من المتناقضات، والإنسان يتدخل في تغير الصيرورة إسراعاً أو إبطاءً، لكنه لا يستطيع أن يلغيها. لذا، فإن البحث العلمي، وربط العلم بالحياة، ودفع عجلة التطور إلى الأمام، هي أحد المبررات الرئيسية لوجود هذه الدولة، إذ في هذه النقطة تكمن عقيدة توحيد الربوبية {.. كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه} القصص 88. أو ما أطلقنا عليه قانون التسبيح. فأي طرح للعدالة خارج هذا القانون هو طرح طوباوي وهمي، ولا يمكن أن تكون العدالة إلا نسبية مرحلية.

لا بد للتشريع في الدولة العربية الإسلامية، من أن يبنى على حدود الله كما وردت في أم الكتاب، وليس على شيء اسمه الشريعة الإسلامية، فالتشريع الإسلامي تشريع إنساني ضمن حدود الله، ولا يجوز أن يصدر في هذه الدولة تشريع يعتمد على تشاريع إنسانية سابقة، ويترك حدود الله، وإذا حصل فهو باطل، فصاحب الحق الوحيد في إصدار تشريعات ثابتة لا تتغير هو الله، أما النصوص الحدية التشريعية التي يضعها الإنسان، أياً كان هذا الإنسان، فمتغيرة تخضع للإلغاء، وللأعراف، وللتطور التاريخي، والتناقضات الداخلية للمجتمع، وعلاقته مع غيره من المجتمعات، لهذا كله، يجب أن يتضمن كل تشريع يصدر عن الدولة بنداً يحدد مدة صلاحيته، يصار بعدها إلى إعادة النظر فيه إبقاءً أو تعديلاً أو إلغاءً.

ولا بد أن تقوم العلاقات الأخلاقية في المجتمع العربي الإسلامي على الفرقان العام (الوصايا)، والدولة ملتزمة بوضع منهاج تربوي للأجيال مبني عليه. كما لا بد أن تحترم الدولة العربية الإسلامية الجد والعمل، والكسب والتوفير، وطموح الأفراد والجماعات فيها بكل مجالات الحياة، ولا تقوم علاقاتها بمواطنيها على الحقد والحسد، وكذلك علاقات المواطنين بعضهم ببعض. إذ في هاتين النقطتين تكمن عقيدة توحيد الألوهية.

تكفل الدولة العربية الإسلامية للناس، مسلمين وغير مسلمين، ممارسة الحد الأدنى من العبادات، فلا تصدر أي تشريع يمنع الناس من هذه الممارسة، أو أي تشريع يجبر الناس على العبادات، كما لا تشجع على تركها، لأن العبادات ليست موقفاً سياسياً أو تشريعياً، لهذا فإن هذه الدولة تنظر إلى مصلحات الخليفة، ورجل الدين، والفقيه، والمفتي، والإمام، على أنها ألقاب تاريخية افرزها تفاعل الإسلام مع مراحل تاريخية مختلفة للمجتمعات العربية الإسلامية.

بما أن التشريع الإسلامي تشريع حنيف، يحتاج إلى بينات مادية، وإجماع أكثرية الناس عليه، فإن الدولة العربية الإسلامية دولة ديموقراطية، تقوم بنيتها الأساسية على التعددية الحزبية وحرية التعبير عن الرأي، حيث يمكن أن تطرح في هذه الدولة عدة اجتهادات لمشكلة معينة وكلها اسلامية ضمن حدود الله، وهذه الأسس هي ضمان الديموقراطية، تكمن فيها الأسس المتينة للوحدة الوطنية من حيث أنها تنسجم مع قوانين الطبيعة وفطرة الناس.

لقد أوردت هذه البنود لأوضح القطيعة المعرفية مع التراث، والاستمرارية التاريخية، إلا لا استمرارية تاريخية لنا نحن العرب بدون هذه القطيعة حصراً مع أدوات المعرفة السابقة، التي استعملت في القرنين الثاني والثالث الهجري لتأطير الإسلام، والتي لها صلة هائلة علينا، وأن المعرفة أسيرة أدواتها، وأدوات المعرفة لها سلطة كبيرة على الناس كما في العلاقة التالية:

p2-205

ولشرح هذه العلاقة بوضوح، أسوق المثال التالي: إذ نظر إنسان إلى قطرة دم بالعين المجردة، يراها بشكل سائل أحمر، فيجزم بما يراه، وإذا نظر إنسان آخر إلى قطرة الدم هذه بالمجهر، يرى منظراً آخر تماماً، فيجزم بما يرى، ويصف أشياء لم يرها الأول مختلفة تماماً، وهنا تحصل الأزمة بين الاثنين، بسبب الأداة المعرفية المستخدمة.

ففي الحالة الأولى كانت الأداة العين المجردة، أما في الحالة الثانية، فهي (العين المجردة + المجهر). ونلاحظ أن اختلاف المواقف والجزم بالآراء ظهر من اختلاف أدوات المعرفة، كما نلاحظ سلطة هذه الأدوات على المشاهدين. لقد استعمل السلف في القرنين الثاني والثالث الهجريين أدوات معرفية في النظر إلى الإسلام، وكان لهذه الأدوات سلطة كبيرة، بحيث التبس الأمر علينا، فنحن نقاتل الآن بكل ضراوة للدفاع عن هذه الأدوات، ظانين أننا ندافع عن الإسلام.

فإذا ما استعملنا أدوات معرفية معاصرة في فهم الإسلام، ووصلنا إلى رؤية مغايرة لما رآه السلف، فهذا أمر طبيعي جداً، ومن حقنا اليوم أن نستعمل أدوات معرفية معاصرة لفهم الإسلام، وهذا يعني أننا ننقد فقط أدوات المعرفة الشائعة في القرنين الثاني والثالث الهجريين، لا أكثر ولا أقل. علينا أن نعلم أن أدوات المعرفة متطورة، وأن التنزيل الذي أوحي إلى محمد (ص) ثابت، ومن إعجازه الأكبر أن الله صاغه بحيث يتناسب مع تطور كل الأدوات المعرفية مهما تقدمت، إلى أن تقوم الساعة.

فإذا طبقنا كل النظم المعرفية الآن، وطبق الخلف النظم المتطورة في المستقبل مع أدواتها، فإننا نرى ويرون التنزيل صالحاً لها، كما لو أنه أوحي في وقت سريان مفعول هذه النظم، وهذا هو الإعجاز الخالد لما أوحي إلى محمد (ص) وفيه تكمن صلاحية التنزيل لكل زمان ومكان، وعلينا ألا نخاف من تطبيق كل النظم المعرفية وأدواتها على التنزيل، لأننا سنرى كما لو أنه صيغ من أجلها. من هذا المنطلق نرى أن التنزيل جاء من اجل الإنسانية جمعاء، وبدون استثناء، ولكل مراحل تطور نظمها المعرفية مع أدوات المعرفة، ولا نرى إعجازاً أكبر من هذا الإعجاز.

لهذا، فعلينا أن ندخل مرحلة جديدة في التاريخ العربي الإسلامي، بنظرة جديدة، وأدوات معرفية جديدة في التعامل مع الكتاب والقرآن والسنة، لحل المعضلة الأساسية التاريخية المستعصية عند العرب والمسلمين، التي نعاني منها يومياً. هذه المعضلة الكامنة وراء هزائمنا المتلاحقة ووضعنا المتخلف، وهي إصرارنا على التمسك بالنظم المعرفية والأدوات المعرفية في القرون الهجرية الأولى، وفهم الإسلام من خلالها.

p2-207

اترك تعليقاً