الفصل السادس: الحرية والديمقراطية والشورى

الحرية إرادة واعية بين نفي وإثبات في موجود. والديمقراطية ممارسة هذه الحرية من قبل مجموعة من الناس، وفق مرجعية معرفية، أو أخلاقية، أو جمالية، أو عرفية.

ولما كان قانون الاستقراء العلمي لا ينطبق على المجتمعات الإنسانية في استنتاج كثير من الأحكام، وبما أن التناقضات وعلاقة التأثير والتأثر المتبادل تفرز يومياً أموراً مستجدة، فإن وجود الرأي والرأي الآخر في المجتمع، هو الحل العلمي الوحيد والمكافئ للمنهج العلمي في العلوم الكونية، وهذا ما نسميه حرية التعبير عن الرأي، لأنه النمط الحياتي الوحيد القادر على كشف التناقضات الداخلية، وعلاقات التأثير والتأثر المتبادل الداخلية والخارجية. لذا فهو نمط في الحياة، لا هو وسيلة، ولا هو غاية في ذاته.

الحرية والديمقراطية لا تصنع خبزاً، ولا تجعل الغني فقيراً، ولا تجعل الفقير غنياً، وإنما هي النمط العلمي للحياة الإنسانية للفقير والغني معاً، لهذا فإن من السذاجة والخداع وضع الخبز بديلاً للحرية والديمقراطية، أو طرح الديمقراطية على أنها لا تصنع غنى، كما لو أن البديل للفقر والجوع هو الديكتاتورية والاستبداد.

إن الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير عنهما، وتجسيمهما في المؤسسات الإعلامية والحزبية والسياسية والتشريعية، هو المنهج العلمي الوحيد لحياة المجتمعات المعاصرة. وبما أن الحرية هي إرادة إنسان واعٍ بين نفي وإثبات في موجود، والموجود هنا هو المجتمع، والظاهرة هي الحرية، والضدان هما (نعم / لا)، فيجب أن تسمح بنية المجتمع بممارسة هذه الظاهرة على كل المستويات، وأعلاها المستوى التشريعي والسياسي والاجتماعي. ويجب أن تصان حرية الإنسان بين الـ “نعم” والـ “لا” فلا تمس إلا ضمن ضوابط صارمة جداً متفق عليها هي الدستور (المرجعية).

ويجب أن تتم ممارسة الحرية ضمن إطار دستوري، فالدستور يضع الإطار (نعم / لا) والقانون ينظم الممارسة ضمن هذا الإطار. وبما أن أساس الحياة في الإسلام هو الحرية والإباحة، فالإنسان يعبر عن رأيه، دونما حاجة إلى إذن أحد. أي أن بنية المجتمع والدولة العربية الإسلامية بنية تقوم على الحرية والديمقراطية، – ولا يحد هذه الممارسة – كما قلت – إلا تقديم البينات. ويقوم هذا المجتمع عن الإحصاء في أموره، لأنها هي التي تقدم البينات، ولا يقوم على الاستقراء العلمي الصارم.

إذ لو كان يقوم على الاستقراء العلمي الصارم، لما لزم أن يكون هناك أجهزة استعلامات لدى الدول بعضها على بعض الآخر، لأن الاستقراء العلمي الصارم يقوم على الدقة والتنبؤ، أما الاستقراء في السلوك الإنساني فيقوم على الاحتمال. وكلما كانت المعلومات متوفرة، كلما زادت دقة الاحتمال، لكنها لا يمكن أن تصل إلى اليقين. فالسلوك الإنساني يبقى كيفياً في أساسه، بينما الإحصاء كمي، ولا يمكن تغطية السلوك الإنساني، كالإيثار والغيرة والوطنية والحسد، بقيم كمية، يمكن معها استنباط علاقات صارمة بين هذه المتحولات.

لهذا، فالعلم والحرية توأمان لا يفترقان، يجب أن تقوم بنية الدولة العربية الإسلامية عليهما، والقاسم المشترك بينهما، هو تقديم البينات، والرأي والرأي الآخر. فما هي الدولة التي يجب أن تقوم بنيتها على العلم والحرية، بقاسمها المشترك البينات؟

لقد ورد في التنزيل الحكيم مصطلح خاص بالديمقراطية هو “الشورى”. والشورى هي ممارسة مجموعة إنسانية للحرية ضمن مرجعية ما، وعلينا كعرب ومسلمين أن ننظر إليها بهذا المنظار المعاصر، إنطلاقاً من جدل الإنسان الذي لا مناص منه كقانون يعمل، أردنا أم لم نرد. وعلينا أن ندرك حين نقمع الحرية / الشورى، والحرية / الرأي، والحرية/ اختيار أحد الضدين، والحرية / البينات – العلم، والحرية / قانون حتمي موجود، أن هذا القمع يولّد القمع والعنف والإرهاب، من حيث هو قمع لتناقضات داخلية، قمعية / اقتصادية / سياسية، تتراكم ثم تنفجر. ما علينا أن ندرك أن الجانب الآخر، أن القبول به يولد الحوار، ويحل التناقضات اليومية بشكل لا يؤدي إلى تراكمها وانفجارها.

لهذا لا بد لنا من أن نعيد تعريف الحرية والشورى:

الحرية في التراث العربي الإسلامي ضد العبودية. فالحر بالمفهوم التراثي هو الذي لا يباع ولا يشترى، أي ليس بعبد، والحرة تعني المرأة التي ليست بأمة. وقد انعكس هذا المفهوم على تراثنا الفقهي، لنجد فيه، مثلاً نصاً يشرح لباس الحرة في الصلاة، يقابله لباس الأمة في الصلاة. وبما أن هذا المفهوم انتهى تاريخياً فلم يعد ثمة أسواق للنخاسة لبيع العبد والإماء، وأن المجتمع الإنساني أنهى مفهوم الرق حتى مع أسرى الحرب، فعلينا أن نفهم الحرية بشكل معاصر انطلاقاً من رسالة محمد (ص) ونبوته.

تقوم الحرية على جدل الإنسان كفرد، وعلى جدل الإنسان كجماعة. فالحرية في جدل الإنسان كفرد له شخصيته وكرامته، وليس مجرد رقم في مجموعة، هي إرادة واعية بين نفي وإثبات في موجود، في الأمور التي تخص الإنسان كفرد. ومن هذه الأمور حرية اختيار العقيدة. فالإنسان كفرد، له ملؤ الحق بأن يكون مؤمناً أو يكون كافراً. وقد أمر الله المؤمنين بذلك، فالكفر، الذي هو ضد الإيمان، لا يمكن أن يزول ما دامت الإنسانية موجودة، لأنه من جدل الإنسان، وذلك في قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها، وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراء وساءت مرتفقا} الكهف 29.

هنا نلاحظ كيف منح الله سبحانه حرية الكفر والإيمان لكل الناس على حد سواء، ونلاحظ كيف حصر عقوبة الكافرين به وحده سبحانه، ولم يجعلها من مهام الإنسان. ونقف مع قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سُيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كُلّم به الموتى، بل لله الأمر جميعاً، أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله، إن الله لا يخلف الميعاد} الرعد 31. وهنا وضع الله سبحانه الهداية على ثلاثة أنواع:

1 – الهداية بالخلق، كالملائكة. كما في قوله تعالى: {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين * اتبعوا من لا يسئلكم أجراً وهم مهتدون} يس 20 و21 – ولقد هدى الله البقر بالخلق فخلقها لا تأكل اللحوم، وهدى القطط بالخلق فجعلها لا تأكل الحشائش.

2 – الهداية بالإكراه. وهي أن يكون للإنسان خيار بين (نعم ولا) لكن ثمة قوة قاهرة خارجية تكرهه على أحدهما كما هو واضح في قوله تعالى: {لعلك باخعٌ نفسك ألا يكونوا مؤمنين * إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} الشعراء 3 و4. لاحظ هنا كيف استعمل الهداية بالتنزيل لا بالانزال أي بتنزيل آية مادية من خارج الوعي تخضع لها أعناقهم، فيؤمنون جميعاً خوفاً وقهراً، دون أن يكون لهم خيار في ذلك.

3 – الهداية بالحجة والدليل دون إكراه ودون اهتداء أساسي بالخلق. وهذا ما أراده الله سبحانه للإنسان في قوله تعالى: {قل فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين} الأنعام 149. وفي قوله تعالى: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً} النساء 165. فكانت الحجة والدليل آيات الله وكلماته الدالة عليه وعلى أسمائه الحسنى، وتطبيق أسلوب الاستقراء العلمي من الجزء المادي المشاهد إلى الكلي الغيبي. وتطبيق أسلوب الاستنتاج من الكل إلى الجزء، باستعمال المنطق والحقيقة معاً.

لقد ثبت مما سلف أن قوانين جدل الإنسان حقيقة نافذة لا مناص منها، وأن اختلاف الثقافات بين الناس أمر لا بد منه، ابتداءً من العقيدة، وانتهاء بأصغر الجزئيات، وأن القاسم المشترك بين الناس هو المنطق والمعرفة، ولهذا فقد استعمل التنزيل الحكيم هذا القاسم المشترك في قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} هو 118. نرى واقعية القرآن حتى في الإيمان، فمع أن الله سبحانه طلب من الناس الإيمان، لكنه أمر المؤمنين ألا يطمعوا بإيمان أهل الأرض جميعاً، فالطموح إلى أن يعمّ الإيمان أهل الأرض أمر ميئوس منه، لأنه ضد قوانين الجدل التي هي من سنن الله في الخلق.

إن أول بمند من بنود الحرية الذي يجب أن يعتقده المسلم، هو وجود الطرف الآخر أي الكفر. ويتعامل معه حسب موقفه منه، إما بالجدل المتصالح، أو بالجدل المتخاصم. وفي الحالتين يبقى الإيمان ضد الكفر، في علاقة جدلية، إما سلمية {بالتي هي أحسن} و {بالموعظة الحسنة}، أو غير سلمية، والذي يحدد أحد هذين الشكلين هو الكفر وليس الإيمان. فعندما يكافح المؤمن من أجل حرية العقيدة واختيارها لغيره، ولو كان كافراً، فهو يكافح عملياً من أجل نفسه، ومن أجل ضمان الحفاظ على حرية عقيدته، ومن أجل إبداء رأيه بحرية ضد الكفر، وقد جاء هذا في آياته تعالى:

  • {قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول ابراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء، ربنا عليك توكلنا وإليكم أنبنا وإليك المصير} الممتحنة 4.
  • {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم} الممتحنة 5.
  • {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة، والله قدير، والله غفور رحيم} الممتحنة.
  • {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين} الممتحنة 8.
  • {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون} الممتحنة 9. ونلاحظ في الآيات السابقة المواقف التالية:

1 – الأسوة الحسنة في إبراهيم والذين معه، هي في الموقف العقائدي الصلب وبالبراءة من الشرك، وبالعداوة والبغضاء للمشركين والكفر، والكفر هنا لسان مقال لا لسان حال، أي أن المؤمنين أعلنوا صراحة أنهم ضد الشرك، وضد عبادة من هو دون الله، الذي لا مطلق بقاء لغيره.

2 – يمكن أن يكون هذا الموقف موقفاً علنياً ضد الشرك، ولكن بدون عنف، وهذا هو سر دعاء المؤمنين لربهم ألا يجعلهم فتنة للذين كفروا، والفتنة هي إكراه الناس على ترك دينهم بالقوة أو بالإغراء.

3 – أما المشركون الذين لم يمارسوا فتنة المؤمنين، وهم جزء من كل، فقد قال تعالى: {عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة …} وأما الذين مارسوا فتنة المؤمنين من المشركين، فقد مارسوها على وجوه عدة:

  • الجدل التخاصمي في الدين {قاتلوكم في الدين}.
  • الإخراج من الديار بالطرد أو بالنفي {أخرجوكم من دياركم}.
  • المساعدة على الإخراج من الديار {وظاهروا على إخراجكم}.

فالموقف من الفئة الثانية هو أن لا نتولاهم، وإلا كنا ظالمين. أما الموقف من الفئة الأولى، فالقسط والبر.

وهنا نرى أن الجدل التخاصمي للمؤمن مع الكافر (الطرف الآخر) يبدأ عندما يبدأ هذا الطرف الآخر بفتنة المؤمن عن دينه، وإكراهه وإخراجه من وطنه، والمساعدة على إخراجه، كطرح شعار “لا حياة إلا للكفر” مثلاً. والعكس صحيح. فإكراه الناس على الإيمان في المجتمع تحت شعار “لا حياة في هذا المجتمع إلا للإيمان”.

يعطي الكافر مبرراً لأن يستعمل القوة، حين تتيسر له، في فتنة المؤمن وإخراجه.

على المؤمن أن يعلم أن الآخر حر في تبني العقيدة التي يشاء، وأن الله سبحانه منح حرية اختيار العقيدة هذه لكل الناس على حد سواء، وأن الإيمان يعرف بوجود الكفر، ولو كان كل أهل الأرض مؤمنين لما عرفنا الإيمان!!.

ننتقل من حرية العقيدة، إلى حرية الرأي والتعبير عنه. هذه الحرية أيضاً هبة من هبات الله للناس، فالإنسان حر في رأيه (عقيدته وموقفه) وحر في التعبير عنه، ولا يحتاج في ذلك إلى إذن من أحد. وهذا يقتضي وجوباً وجود رأي آخر. وحرية الإنسان في التعبير عن رأيه، لا تقاس بمقدار ما يعطيه لنفسه من هذا الحق، بل تقاس بحرية الطرف الآخر في التعبير عن رأيه. هذا الجدل بين الرأي والرأي المضاد هو من أساسيات المنهج العلمي في العلوم الإنسانية، وبدونه لا يمكن كشف التناقضات الداخلية اليومية والخارجية، ولا يمكن أن يكون للإنسان ضمير حر دون حرية التعبير عن الرأي. وتتطور طرق التعبير عن الرأي بتطور العلوم، التي طورت وسائل المعلومات (طباعة – صحافة – راديو – تلفزيون – ندوات – اجتماعات – تظاهرات سلمية).

وحرية الرأي يكفلها الدستور وليس القانون، أي أن الدستور يكفل حرية الرأي والرأي الآخر، وبنية الدولة تقوم على هذه الظاهرة، والقانون ينظم يومياً هذه الممارسة دون أن يحد منها. وعلينا أن نتقبل هذه الممارسة، فإذا أردنا أن نعبر عن رأينا، تركنا للطرف الآخر أن يعبر عن رأيه أيضاً. فحرية التعبير عن الرأي هي البوتقة العامة التي تنصهر فيها كل الآراء وتجمع عليها.

من هنا ندخل إلى مفهوم الشورى في الإسلام (الديموقراطية) لنشرحه شرحاً وافياً معاصراً، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين.

قلنا إن الشورى هي ممارسة الحرية من قبل مجموعة من الناس ضمن مرجعية معرفية أخلاقية، جمالية، عرفية. وأول أسس الشورى حرية التعبير عن الرأي، بوجود (الرأي والرأي الآخر)، والتكافؤ في حرية التعبير بين الآراء المختلفة.

لكن هناك بنية اجتماعية واقتصادية وسياسية، يتم التعبير عن الرأي من خلالها لا من خارجها، أي أن الشورى تأخذ أشكالاً تاريخية متعاقبة، وتخضع للتطور التاريخي طبقاً لبنية المجتمع التاريخية وأرضيته المعرفية التي تمارس فيها هذه الشورى. فكيف تمّ فهم قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} وقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} في صدر الإسلام وفي التاريخ الإسلامي؟

إذ نحن أخذنا هذه البنية بعين الاعتبار، فهمنا مبدأ الشورى، وكيف يمارس فعلاً من خلال البنية التاريخية، لا من خارجها، ولا من خلال المقصودين حصراً بضمير “هم”، ووصلنا إلى الشورى التي نريدها ونطمح إليها في عصرنا الحديث، واستطعنا بعبارة أخرى، ممارسة الشورى فعلاً من خلال بنية اليوم وتاريخية هذا العصر.

إذا نظرنا إلى المجتمع الجاهلي، رأيناه مؤلفاً من قبائل، كل قبيلة لها رأس وشيوخ ومجلس يتم التشاور فيه.

والذي حدد رؤوس القبائل وشيوخها، إما الموقع المالي، أو عدد أفراد العائلة، أو عدد الفرسان. أي أن القوة الاقتصادية والعسكرية هي التي تحدد وهاء القبيلة وملأها. ولهذا كان خطاب الأنبياء والرسل موجهاً إلى هؤلاء من أقوامهم، وكان هؤلاء هم الذين يتصدون لدعوة الأنبياء والرسل، وهذا واضح في التنزيل بقوله: {قال الملأ}. وكان هذا النظام متوضعاً في قريش في دار الندوة، حيث كانت قريش تتألف من عشرة بطون، يرأسها أبرز العائلات في كل بطن (كبني هاشم، وبني مخزوم، وبني أمة، وغيرهم)، ويمثل كل بطن رئيس في دار الندوة، يتوازعون الاختصاصات بينهم، ويتشاورون في تسيير أمورهم الاقتصادية والسياسية.

وكان هذا المجلس هو الشكل الشوري لمجتمع قبلي يمارس التجارة، فإذا أبرم أمر في دار الندوة، فلا داعي لأن يوافق كل أفراد القبيلة عليه، أي لا داعي للتصويت. وكانت الحرية تعني في ذلك الوقت ضد العبودية. وكان ثمة نوع آخر من المواطنين هم الموالي، الذين ليسوا عبيداً، ولكنهم يعيشون في جوار أحد البطون، وهؤلاء أيضاً ليس لهم أي رأي في تسيير أمور المجتمع. أي أن الشورى كانت تمارس عند العرب في الجاهلية من خلال بنية المجتمع، لا من خارجها، وكانت هذه البنية تقبل بهذا النوع من الشورى.

ثم جاء الإسلام.

فكان المطلب الأساسي هو حرية العقيدة، وكانت مشكلة النبي (ص) مع قريش هي (خلو بيني وبين الناس)، فمن شاء أن يؤمن بالدين الجديد، فله بذلك، ومن شاء أن يبقى على شركه فله ذلك. أي أن سياسة الدعوة الإسلامية قامت على {لا إكراه في الدين} وعلى {يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون}. ولكن الملأ من قريش وقفوا علناً، واتخذوا موقفاً صريحاً ضد حرية الاختيار عند الناس.

ونقف أمام زمن النزول في الآيتين اللتين ورد فيهما ذكر “الشورى” في التنزيل الحكيم. فالأولى مكية وهي الآية 38 من سورة الشورى {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} والثانية مدنية وهي الآية 159 من سورة آل عمران {فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين}.

ومع أن المرحلة المكية لم تكن مرحلة بناء دولة، إلا أنه سبحانه وضع فيها الشورى بعد الاستجابة لرب العالمين، بين فرضين تعبديين، فالإيمان هو الإيمان بالله الواحد خالق السموات والأرض، والإسلام هو الاستجابة لرب العالمين، ووضع في الإيمان والإسلام ثلاثة شروط:

  1. أقاموا الصلاة.
  2. أمرهم شورى بينهم.
  3. مما رزقناهم ينفقون.

ومن هنا نرى أن الشورى جزء أساسي من الإيمان والاستجابة لرب العالمين، مع الصلاة والانفاق، فهي في الآية مبدأ عام في بنية الإيمان والإسلام، قبل أي ممارسة أخرى في المستوى السياسي والاقتصادي، وممارسة عقائدية فقد (نضال سلبي). ومن هنا جاء الإسلام ليفهم الناس أن أية حركة ثورة، تكافح من أجل حرية العقيدة وحرية الرأي، إنما تكافح من أجل الشورى، وأن الذي يمنع الشورى ولا يؤمن بها كمانع الصلاة والزكاة تماماً. هذا لترسيخ الشورى من الناحية العقائدية البحتة، قبل أية ممارسة أخرى، فالمسلم لا يقبل بديلاً عن الشورى من حيث المبدأ، لأنها تدخل في أساس عقيدته وعباداته.

أما الشورى في الآية الثانية، فهي ممارسة تاريخية. أي أن الله سبحانه أمر النبي (ص) أن يشاور الناس في أمور لا تتعلق بالوحي، فجاء الخطاب موجهاً إلى النبي، وليس إلى الرسول، في علاقته المباشرة مع الناس المعاصرين له، وطبق النبي (ص) هذا الأمر من خلال بنية المجتمع الذي عاشه، علماً أنه لم يستعمل التصويت وعد الأصوات في كل أمر، بل كان يشاور طبقاً لما تمليه الحالة التي هو بصددها.

فاستعمل المشورة في أسرى بدر، وجاءت المشورة ضد إعدام الأسرى، فامتثل لهذا الرأي، رغم أنه خاطئ، وذلك بسبب المرحلة الحرجة التي يمر بها الإسلام في ذلك الوقت، ولكن امتثاله لم يكن خطأ على الإطلاق، باعتبار أن مخاطبته تمت من مقام النبوة {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض …} الأنفال 67.

لقد أوضحنا أن الإسلام قرر أمرين اثنين في الشورى هما:

  1. الشورى كمبدأ مطلق، كالإيمان بالله، وإقامة الصلاة؅ؤمن والكافر، وبين المؤمن وغير المؤمن، في كل ما يخص العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

    قلنا إن الشورى عقيدة وممارسة بدليل آيتي الشورى وآل عمران. وقلنا إن الحرية رأي وتعبير، وإنها إرادة واعية واختيار واعٍ بين نفي وإثبات في موجود، وقلنا إن الديمقراطية (التي هي الشورى بذاتها) هي الحل الحقيقي الوسط بين الكل والأنا، وقلنا أن أساس الإنسان الحر هو إنسان الـ “لا” وليس إنسان الـ “نعم”.

    وقلنا إن الله سبحانه لم يعط الحق لأحد من عباده أياً كان، بأن يتكلم نيابة عن الناس، أو أن يفرض عليهم أن يتبنوا موقفاً معيناً، بدعوى أو بأخرى، حتى ولا الرسل أنفسهم، حفاظاً منه سبحانه على حرية الإنسان في تحديد رأيه، وصوناً منه سبحانه لديمقراطية التعبير عن الآراء والمواقف، وتنزيهاً منه سبحانه لرسله أن يكونوا ديكتاتوريين قامعين يطمسون هويات الخلق وشخصياتهم. فورد هذا في صريح قوله تعالى:

    • {وقد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ} الأنعام 104.
    • {ولو شاء الله ما أشركوا، وما جعلناك عليهم حفيظاً وما أنت عليهم بوكيل} الأنعام 107.
    • {من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً} النساء 80.
    • {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين، وما أنا عليكم بحفيظ} هود 86.
    • {فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلا البلاغ ..} الشورى 48.
    • {والذين اتخذوا ممن دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل} الشورى 6.
    • {وكذب به قومك وهو الحق، قل لست عليكم بوكيل} الأنعام 66.
    • {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل} يونس 108.
    • {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها، وما أنت عليهم بوكيل} الزمر 41.
    • {ربكم أعلم بكم، إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم، وما أرسلناك عليهم وكيلاً} الإسراء 54.
    • {أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه} الفرقان 43.
    • {فكّر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمسيطر * إلا من تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر} الغاشية 21 – 24.

    فعل حفظ في اللسان العربي أصل واحد، هو مراعاة الشيء. والتحفظ قلة الغفلة. والحفاظ المحافظة على الأمور. والحفيظة الغضب، والحافظ والحفيظ هو الله، وليس أي أحد آخر غيره.

    أما فعل وكل، فأصل صحيح يدل على اعتمادك غيرك في أمرك، والمتوكل الضعيف، وواكل فلان إذا ضيع أمره متكلاً على غيره. وسمي الوكيل وكيلاً لأنه يوكل إليه الأمر. وواكلت الرجل إذا اتكلت عليه واكل عليك (ابن فارس).

    ونرى واضحاً فيما سبق من آيات، أن الله سبحانه هو واهب الوجود للناس، فلا يحق لأحد إلا هو أن يسلبه من أحد، وأن الله سبحانه هو واهب الحرية للناس، وحق الاختيار هبة كهبة الحياة نفسها، حتى الإيمان بالله أو الكفر به للناس الخيار فيهما. لهذا كله، فمهمة الرسول أن يكون وكيلاً لأحد أو عن أحد، بل مجرد مبلغ للأمانة (الرسالة التي يحملها) بدلالة النبوة التي اختص بها. ولهذا، فالذي يدعي أنه سمح للناس بالحرية، أو أعطاهم الحرية، أو أهداها إليهم، ليس أكثر من مدعٍ بالربوبية، مطالب بالألوهية. فالله سبحانه، احتراماً منه لحرية الناس، لم يذكر السجن (حجز الحرية) ضمن العقوبات التي وردت في أم الكتاب، وتركها للناس أنفسهم، لأنه لا يليق بمانح الحرية الواحد الأحد أن يسلبها.

    لا شك أن من المفيد قبل أن نبحث في تفصيل كيف نحقق {وشاورهم في الأمر}، في وعائنا التاريخي الجغرافي المعاصر، أن نستعرض كيف تحقق ذلك في عصر الرسول (ص)، ثم في عصر الخلفاء الراشدين فالأمويين فالعباسيين من بعده، وما هي العناصر التي حددت العقل العربي السياسي.

    فنرى، كما يرى الدكتور الجابري(1)،الحالات التاريخية التي تجلت فيها الشورى:

    1. وشاورهم في الأمر (عصر الرسول)
    2. وليت عليكم ولست بخيركم (عصر الراشدين)
    3. هذا قضاء الله وقدره (عصر الأمويين)
    4. نحن خلفاء الله في الأرض (عصر العباسيين)

    ونرى أن مشكلة الإمارة والأمير، والخلافة والخليفة، التي اعتبرها الدكتور الجابري إحدى النقاط الخطيرة القاتلة في العقل العربي السياسي، نشأت في اللحظة التي توفي فيها النبي (ص)، وقبل أن يدفن، لتبقى دون حل حتى يومنا هذا، بفروعها الثلاثة: كيف ينتخب الأمير ويختار؟ وما هي صلاحياته؟ وما هي مدة حكمه؟

    ورغم أن العصر الراشدي قدم حلاً بنيوياً تاريخياً للفرع الأول من هذه المشكلة، إلا أن ذلك انتهى بانتهاء عصر الراشدين، وعادت المشكلة لتبقى حتى يومنا هذا. فلماذا ترك النبي (ص) هذه القضية مفتوحة دون تحديد، رغم أنها تتعلق ببنية الدولة العربية الإسلامية منذ أن نشأت؟ والجواب برأينا لأنه (ص) نبي، ومؤسس دولة، ولم يكن في يوم من الأيام رئيس دولة !! والفرق كبير بين مؤسس الدولة ورئيسها (لاحظ وفاة الرسول (ص) بعد انتهاء الوحي بأشهر، لأنه لو بقي بعده بمدة طويلة، لانتقل وضعه من نبي ورسول إلى رئيس دولة).

    لقد كانت للنبي (ص) مهام أداها في حياته على وجهها الأكمل، وعلى أتم ما يكون الأداء، هي:

    1. تأدية الأمانة (القرآن)، بدون شرح وبدون تأويل الآيات المتشابهات واللامحكمات.
    2. تبليغ الرسالة، فشرح العبادات وطبقها، لأنها لا علاقة لها ببنية الدولة أو المجتمع. وتصرف في غير العبادات ضمن حدود الله، واقفاً عليها أحياناً، طبقاً للبنية الاجتماعية العربية السائدة في حينه. فاتجه صعوداً في نكاح المحارم، كما وردت في سورة النساء بحدها الأدنى، وزاد فيها فقال: {لا تجمعوا بين البنت وعمتها}، أي أنه أعطانا أسوة في الاتجاه نحو الزيادة، بتقديم البينات العلمية دون خوف من الوقوع في الحرام.
    3. تأسيس الدولة، في ممارسة سياسية ترتبط ببنية المجتمع العربي آنذاك، لتحويله من مجموعة قبائل إلى شعب (أي إلى سلطة مركزية)، وكانت هذه الممارسة جديدة على العرب آنذاك، ولهذا كان تصرف النبي (ص) دقيقاً، بل في غاية الدقة، لأن البنية السياسية وأساليب الحكم تتبع التطور التاريخي.

    إلا أن الحياة التي عاشها النبي الكريم، بجميع ما فيها من أعمال، وبكل ما فيها من حركة يومية، طفلاً وفتى وشاباً ورجلاً وكهلاً، تاجراً ونبياً وهادياً، ورسولاً ومحارباً ومهاجراً، عازباً ومتزوجاً، تتمثل في وجوه ثلاثة، حددها بكل وضوح قوله تعالى: {ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شيء عليماً} الأحزاب 40. فالآية تقول إن ثمة ثلاثة مقامات لمحمد (ص):

    1. محمد الرجل.
    2. محمد النبي الخاتم.
    3. محمد الرسول.

    أما أعماله وأقواله (ص) من مقام الرجل، فغير ملزمة لأحد، وهي تشمل علاقاته الزوجية والأسرية، وأمور طعامه وشرابه ولباسه، وأمور معاشه وغدوه ورواحه، وحزنه وفرحه.

    وأما أعماله وأقواله (ص) من مقام النبي، فطاعتها غير ملزمة وذلك لأن كل آيات الطاعة انحصرت بمحمد الرسول، لكن يجب الانتباه بدقة إلى أن النبوة علوم، بمعنى أن النبي، من حيث أنه نبي، يعرف تماماً أن بنية الدولة تتبع التطور العلمي للإنسان من جهة، والتطور الاقتصادي الإنتاجي والثقافي لدى الجماعات من جهة أخرى، مما يوجب معه تطور أنماط الإدارة والسياسة والعلاقات الاجتماعية. ولهذا، ومن حيث أنه نبي، فقد ترك ذلك دون تأطير وتحديد، وفقاً للعمود الفقري لنبوته المتمثل بالتوحيد، فكل شيء متغير إلا الله، وكل شيء نسبي إلا الله، وكل شيء هالك إلا وجه الله. ولو أنه حدد شكل الدولة البنيوي لخالف أسس نبوته بنفسه (حاشاه).

    ومن هنا يختلف النبي عن العبقري، ومن هنا، يكمن الفرق الأساسي بين النبوة والعبقرية، فمحمد (ص) يعي تماماً ما يفعل، وأن قانون {كل شيء هالك إلا وجهه} هو القانون الأساسي للوجود، وأن {وأمرهم شورى بينهم} من أساسيات العقيدة الإسلامية، فأسس ممارسة الشورى على أسس بنيوية طبقاً لظروف العصر ومعطياته، ضمن مقولة {كل شيء هالك إلا وجهه}، واقتصر في تأكيده على الحدود والعبادات التي تصلح لكل البنى التاريخية، وترك ما بقي مفتوحاً !!

    أما العباقرة فيحددون بكل دقة بنية الدولة، بدل أن يتركوها للتطور التاريخي المرحلي، فتأتي النتيجة مدمرة، كما حصل في الاتجاه السوفييتي. حين حدد لينين (وهو عبقري) أطر وبنية الدولة بكل تفاصيلها، والتزم أتباعه ممن تلوه هذا التأطير تحت شعار اللينينية، فكان أن دمرت هذه الدولة في أقل من قرن، وكانت اللينينية التي أرست دعائم الدولة السوفييتية، هي التي دمرت هذه الدولة.

    نأتي إلى المقام الثالث الأخير، وهو مقام محمد الرسول (ص). ونقف هنا أمام الطاعة الواجبة بشقيها المتصل والمنفصل، أي طاعته في حياته، وطاعته في حياته وبعد مماته، ويتمثل ذلك في الحدود والعبادات، لكن المسلمين، بكحل مرارة وأسف، فعلوا ما لم يفعله (ص) وحددوا ما لم يحدده، وأطروا ما لم يؤطره:

    1 – دمجوا الطاعة المنفصلة مع الطاعة المتصلة فاعتبروها واحدة، وسحبوا طاعة الرسول في حياته، على طاعته بعد مماته.

    2 – أطلقوا مفهوم الطاعة وعمموه على جميع ما قاله الرسول وفعله في مقاماته الثلاثة رجلاً ونبياً ورسولاً.

    3 – دونوا الحديث النبوي والسنة النبوية، بعد أن أمر النبي (ص) صراحة بعدم تدوينه، واعتبروا الحديث أساساً ثابتاً لا يتغير في التشريع، فأعطوه بذلك صفة البقاء المطلق، وهي من أسماء الله الحسنى وكلماته حصراً. متكئين في هذا كله على {إن هو إلا وحي يوحى} وعلى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وعلى {من يطع الرسول فقد أطاع الله} دون تدبر، ودون تمييز بين المقامات الثلاثة التي نصت عليها الآية 40 من سورة الأحزاب.

    4 – جعلوا من الأنماط الإدارية والاقتصادية السائدة في القرن السابع الميلادي، أنماطاً ثابتة لا يجوز الخروج عنها إلى أن تقوم الساعة، وطبقوا مبدأ الاستقراء على العلوم الإنسانية وعلى الإنسان. واعتبروا ما قاله الصحابة {رضوان الله عليهم أجمعين} في القرن الأول الهجري، أطراً مطلقة، يجب أن يلتزم بها الفقه ولا يحيد عنها عيناً إلى أن تقوم الساعة.

    5 – وضع المتصوفة النبي (ص) في مرتبة المطلق الباقي من حيث الوجود، باستعمالهم مصطلح “الحضرة النبوية” عند الملكانيين(2) من النصارى، كما وضعوا الأولياء في المرتبة نفسها، فهم يعملون أحياءً ويعملون أمواتاً، لصلتهم المباشرة بالله !!

    وكانت الشورى واحدة مما تم تأطيره وتجميده وتحديده، ورغم أن حفنة من الأخبار المتناثرة في التواريخ الإسلامية، ترسم لنا أكثر من إشارة استفهام، تقتضي وقوفنا عندها بالتحليل والتدبر، على أخبار العصر الراشدي، إلا أن الشكل العام لانتخاب الأمير وصلاحياته ومدة حكمه، هذه النقطة القاتلة في الفكر العربي السياسي، كان ما زال شورياً(3).

    ثم جاء العصر الأموي ومن بعده العباسي ليطيح بكل ذلك، بما فيه الشكل الراشدي. وتحولت الإمارة إلى وراثة، وإلى قضاء من الله مقدور لا سبيل إلى ردّه، فولدت مع هذا التحول المسوغات التبريرية وعلى رأسها “جواز إمارة المفضول بوجود الأفضل”.

    وتحول الحق المحدد الصريح إلى حق يراد به الباطل، وولد معه علم التلاعب بالألفاظ وتسمية الأشياء بغير أسمائها، وسادت شعرة معاوية العلاقات الاقتصادية والسياسية، فولد معها بالأرجاء، كمحاولة للهرب من مسؤولية اتخاذ موقف، وتعليق ذلك كله على حتمية القضاء والقدر في جبرية متطرفة مطلقة.

    وتحول الجهاد إلى غزو خارجي وفتوحات مسلحة، في سبيل امتصاص سطوة المعارضة والمعارضين للحكم، بتوجيهها نحو الخارج باسم الجهاد والدعوة. وكان لا بد في ضوء ذلك، من البدء بالقول بالنسخ، في آيات التنزيل، لصرف الناس عن الوجه الحقيقي للجهاد والممارسة الأساسية له، وتم استبعاد عشرات الآيات من حيز التطبيق، بدعوى أنها منسوخة، وبدعوى أنها مرحلية تخص العصر النبوي في بداية الدعوة. ولدت مع ذلك كله مسوغات العنف، ومبررات الظلم. وأعذار الطغيان بليِّ بعض الأحاديث النبوية حيناً، وبوضع ما يقتضيه الحال أحياناً أخرى.

    إن كل ما روي من أحاديث نبوية تتعلق بأنماط الحكم، ينتسب إلى صح إلى النمط البنيوي الآتي في اللحظة التاريخية التي قيل فيها الحديث، أما إذا كانت تتعلق بأنماط مستقبلية للحكم من مثل (الأئمة من قريش) فهي أحاديث ملويّة مرفوضة، لأنها تطبيقاً تخالف النبوة كعقيدة وتخالف الرسالة كسلوك، وافتراض صحتها يؤدي إلى افتراض أن النبي (ص) كان يهدم رسالته ونبوته بنفسه. حاشاه أن يفعل ذلك.

    ونحن نرى أن كل ما حدث وقيل، بعد وفاة الرسول (ص)، وحتى يومنا هذا، حول أنماط الحكم وطاعة أولي الأمر إنما هو اجتهاد إنساني بحت، قيل وفعل ضمن ظروف تاريخية موضوعية، وهو قابل للتطوير، أي يجب أن يتطور بشكل مؤكد لا لبس فيه، ولا يجوز أن يأخذ صفة شرعية مهما كانت.

    ونرى أننا الآن حين نلتزم اليوم عقائدياً بقوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} ونطالب أنفسنا بممارسة قوله تعالى: {وشاوروهم في الأمر}، معتبرين أن “هم” في الآيتين هي “نحن”، وأنها تشملنا كما شملتهم، لا يهمنا كيف التزم الأسبقون بها، لأن هذا بحث أكاديمي تاريخي.

    قلنا إن الشورى من أساسيات العقيدة الإسلامية، فكيف نحولها إلى فعل أي كيف نصدق هذا الإيمان بالقلب عن طريق الجوارح؟ لنفعل ذلك، علينا أولاً أن نؤمن فعلاً بأن هذا المبدأ هو من أساسيات العقيدة الإسلامية. وفي هذه النقطة يكمن التغير الكبير المطلوب من المسلمين أن يغيروه بأنفسهم، فبدون الإيمان بأن الشورى هي النمط العلمي المتحضر الذي يبتعد بالإنسان عن المملكة الحيوانية، لا أمل في أية دعوة أو إصلاح. علينا أن نؤمن بذلك ونحن في أشد حالات ضعفنا، حتى ونحن مضطهدين لا نملك شيئاً، فالمؤمن المضطهد الضعيف يصلي ويؤمن بالشورى، والمؤمن القوي يصلي ويؤمن بالشورى. علينا أن نؤمن بأن الشورى ليست ترفاً فكرياً مرحلياً في حياة المؤمن، وإنما نمط في الحياة يتخذه لنفسه، ويكافح من أجل تحقيقه لنفسه ولغيره، ولو كان هذا الغير يخالفه بالرأي والعقيدة.

    في هذه الحالة، لا يهمنا من أخطأ، ومن أصاب وفاة الرسول (ص)، من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. الذي يهمنا، هو أن تصرفات الصحابة تصرفات إنسانية اجتهادية بحتة غير مقدسة، وأن الصحابة بشر مثلنا، تصرفوا حسب درجات وعيهم وفهمهم ومصالحهم، وأن الانقسامات التي حصلت بعد وفاة الرسول (ص)، تحصل في أية مجموعة أخذت على عاتقها بناء دولة، وان قوانين التاريخ ونشوء الدول وجدل الإنسان، سرت عليهم كما سرت على غيرهم تماماً. وأنه لا أحد منهم فوق البشر.

    لهذا، فنحن حين نقيم سلوك الصحابة، وما فعلوه بعد وفاة الرسول (ص)، وخاصة من الناحية السياسية، فنحن لا نضع العدل الالهي تحت التساؤل، بل القرار الإنساني والسلوك الإنساني. وعندما نتكلم عن الصحابة فنحن نتكلم عن أناس مؤمنين بالله ورسوله، يعيشون الجدل الإنساني، وتنطبق عليهم كل صفات الإنسان في كل مجتمع، فيهم الشجاع والجبان، والفظ والدمث، والصريح والملتوي، الزاهد والطامع، الماكر والساذج، والمقبل على الدنيا والمعرض عنها، والشديد القاسي واللين المساير.

    والرسول (ص) كان واعياً تماماً هذه النقطة، وأنه يتعامل مع ناس، والناس ليسوا متجانسين، فالشجاع في الجاهلية، بقي شجاعاً في الإسلام (خالد بن الوليد)، والجبان في الجاهلية ظل جباناً في الإسلام (حسان بن ثابت)، والشديد الاحتمال (بلال بن رباح) صبر على التعذيب وردّ عليه بـ (أحد أحد) ولم يذكح رسوله بسوء، أما الضعيف الاحتمال (عمار بن ياسر)، فلم يستطع الصمود، واضطر تحت التعذيب ذاته تقريباً إلى ذكر الرسول بالسوء، ومع ذلك كله لم يقل الرسول لعمار لماذا لم تصنع كما صنع بلال؟ ولم يأمر حساناً بأن يتصدى للقتال كما أمر خالد، ولم يقل ما يدل على أن نموذج المؤمن عنده يتمثل في بلال وخالد. بل رأيناه يقول (ص} (الناس معادن خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا}. والصحابة كانوا من الناس، والناس معادن!!

    إن مشكلتنا هي في أننا عندما نتكلم عن الصحابة، نتكلم عن مجتمع أحادي الجانب، كما لو كانوا فوق البشر، وعندما نقيّم ما حصل بعد وفاة الرسول (ص)، انطلاقاً من القاعدة السالفة، نقع في مأزق، نسعى للخروج منه فندخل في تبريرات شتى لا جدوى منها، لكننا إذا نظرنا إليهم كمجتمع ثنائي الجانب (جدل الإنسان) توضعت الأمور في نصابها، ولم تعد ثمة حاجة للتبريرات، ولم يبق ما نخجل منه، فالتاريخ هو التاريخ، وقوانين تشكل الدول والمجتمعات هي هي في كل مكان، وللفرد دوره في ذلك عند العرب وعند غيرهم، وحب السلطة والمال هو هو عند العرب وعند غيرهم. وينطبق عليهم قوله تعالى: {تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون} البقرة 134.

    قلنا إن ما حصل بعد وفاة الرسول (ص) ليس من صنع الرسول ولا علاقة له به، فلقد لعب جدل الإنسان (الثنائية الجدلية) وبنية المجتمع الجديدة، ورواسب الجاهلية، وكفاءة المنفرد في صنع القرار، دوره في صنع الأحداث. والصحابة لم يختلفوا بعد وفاة الرسول (ص) حول أركان الإسلام، لم يختلفوا على الصلاة وكيفية أدائها، وأركانها، ولم يختلفوا على الشهادتين، ولا على الحج، ولا على الزكاة(4)، بل كان خلافاً سياسياً إدارياً بحتاً حول السلطة أو الغنيمة، أو حول السلطة أو الغنيمة، أو حول السلطة والغنيمة معاً.

    بعد وفاة الرسول (ص) كان ثمة قوتان رئيسيتان في المجتمع الجديد، المهاجرون والأنصار. تصب قوة المهاجرين في المحصلة عند قريش في وضع قبلي، والأنصار عند الأوس والخزرج في وضع قبلي آخر. وكان ثمة صراع سياسي سلمي على رئاسة الدولة في سقيفة بني ساعدة، حسمه عمر بن الخطاب وقتها بمبايعة أبي بكر الصديق، ولم تكن مقولة (الأئمة من قريش) مطروحة ولا واردة في رأينا يومئذ، وإلا لما جرؤ الأنصار على اقتراح أميرين للرئاسة أحدهما من المهاجرين والآخر من الأنصار، ولتم حصر الإمامة والإمارة بقريش إلى أن تقوم الساعة.

    على هذا الشكل تمت ممارسة أول نوع من الشورى بين رؤساء المهاجرين والأنصار، عدا بني عبد مناف، هذه الشورى التي لم يجر فيها تصويب المهاجرين كلهم والأنصار كلهم، بل تمت ضمن الإطار القبلي والعلاقات القبلية السائدة آنئذٍ التي كانت تسمح فقط بشورى الرؤساء والوجهاء (الملأ). من ناحية أخرى كانت الروم والفرس ومصر والحبشة هي الدول المجاورة للحياة، ولهذا فإن مدة حكم الخليفة لم تكن أصلاً لتخطر في بالهم. ومن ناحية ثالثة كانت صلاحيات القياصرة والأكاسرة مطلقة وغير محدودة، فلم يخطر في بالهم تحديد صلاحيات الخليفة، واعتبروا أن أحكام الشرع، وعلى رأسها الشورى هي التي تحدد صلاحيات الحاكم، أي أن الشرع كان بديلاً عن المجالس التشريعية، وبقيت الصلاحيات مفتوحة للسياق التاريخي.

    هنا نقف عند وفاة عمر بن الخطاب، وما حدث بعد ذلك. فنحن أمام الفتوحات في البلاد وسقوط فارس ومصر بشكل كامل، وسقوط الامبراطورية البيزنطية جزئياً، وتدفق الأموال بشكل هائل على المدينة المنورة. وكان مبدأ التوزيع الذي اعتمده عمر في بداية عهده وسار عليه في بداية الفتوحات عندما لم تكن المبالغ على هذا المستوى من الضخامة، هو القرابة من الرسول (ص) والأسبقية في الإسلام. ولكن عندما أصبحت المبالغ كبيرة، حصل خلل في الدخل والتوزيع، مما اضطر عمر إلى أن يقول في أواخر عهده (لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لأخذت فضول أموال الأغنياء ووزعتها على الفقراء).

    بعد وفاة عمر، كان هناك غنى فاحش، وتفاوت كبير في الثروات، ودولة مترامية الأطراف، كل هذا خلال عشر سنوات فقط من عمر التاريخ، وهي فترة قصيرة جداً، كان لها أكبر الأثر، في انتقال العرب فجأة إلى دولة مركزية في شبه جزيرتهم، بعد أن كانوا قبائل متفرقة، ثم في انتقالهم مرة أخرى مع نهاية عهد عمر إلى دولة مترامية الأطراف هزمت أقوى دولتين في العالم، فرأوا أنفسهم أمام عناصر لعبت دوراً في أحداث ما بعد وفاة عمر:

    1. الدخل الكبير للدولة، وارتجال أسس توزيع الثروات لقلة الخبرة.
    2. الدولة المترامية الأطراف مع عدم وجود الخبرة الإدارية عند العرب لإدارة دولة من هذا النوع.
    3. دخول شعوب وثقافات جديدة في الدولة.

    وقد لعبت هذه العناصر دورها في إيجاد حلول شورية، لكنها ارتجالية في ذلك الوقت. فبعد أن طُعن عمر، أوصى بانتقال خليفته من ستة أشخاص، وتم فعلاً الانتقاء منهم، لكن الغنيمة والقبلية لعبت دورها الأساسي في المدينة المنورة، بعد أن زال الخوف على الإسلام وأصبح هو الحاكم لهذه الدولة. وترانا من منظور القبلية والمال نجد أن:

    • عثمان يعين أقاربه من الأمويين كولاة ويحابيهم.
    • يعتبر عثمان نفسه المتصرف بأموال الدولة، وهو الآمر الناهي.
    • ركز الولاة الأمويون سلطتهم في الأمصار، وتركزت الثروات بأيديهم وبأيدي قواد الجيوش، حيث لا نجد في عهد عثمان أحداً من بني هاشم ولا من آل النبي (ص) في منصب ولاية أو قيادة عسكرية، وبالتالي كانوا هم الطرف الأضعف. بل نرى، مثلاً، عمار بن ياسر يستقيل من بيت مال الكوفة، عندما رفض والي الكوفة الأموي، أن يعيد إلى بيت المال مبلغاً كان قد اقترضه منه، ولم يقم الخليفة عثمان بن عفان بأي إجراء ضد الوالي، بعد أن اشتكاه عمار إليه.

    أدى هذا الوضع القبلي المالي، إلى انقسام مقبلي مالي بين الصحابة، أي نشأ هناك يمين ويسار في الإسلام، بالمفهوم السياسي المعاصر، فقادة الجيوش والولاة وأغنياء قريش مع عثمان (يمين)، والباقي من كبار الصحابة في طرف مقابل (يسار) يرأسه علي بن أبي طالب (رض) بسبب قرابته من الرسول (ص)، وبسبب زهده في المال. فحدثت الحرب الأهلية الحقيقية رغم أن علياً لم يكن راغباً بها أو داعياً إليها، وأدّت إلى مقتل عثمان على أيدي عرب، وإلى مبايعة علي بن أبي طالب، وكانت معركة علي خاسرة من بدايتها.

    فقد استعمل الأمويون وقواد الجيوش الأموال أيام عثمان، وبنوا قواعدهم الخاصة بين الناس، مستثمرين الوضع القبلي العربي، والعلاقات القبلية القديمة أحسن استثمار لصالحهم، لذا كان اليمين الإسلامي منتصراً من الناحية المالية منذ خلافة عثمان، وتم حسم هذا الانتصار عسكرياً بعد مقتله. وعلى رأس اليمين معاوية، وعلى رأس اليسار علي بن أبي طالب. فتم بانتصار اليمين الإسلامي ترسيخ نظام حكم القوة دون شورى، وجعله وراثة بالقهر. وانكفأ اليسار الإسلامي، وما بقي من الصحابة، على نفسه، وأغلق عليه بابه، واعتزل العمل السياسي.

    فخرجت قوة إسلامية جديدة، ليس لها أي علاقة لا بالصحابة ولا بالجيل النبوي، هي الخوارج. رفضت الأطر السياسية المفروضة، ونادت بإطار جديد في الحكم، وأن بإمكان أي إنسان أن يكون إماماً للمسلمين شريطة موافقة المسلمين عليه، وكان هذا مقبولاً من الناحية العقائدية، إذ ليس في الإسلام ما يمنعه، لكنه مرفوض من الناحية التطبيقية. فالخوارج أنفسهم لم يعرفوا كيف يحولون هذا القول إلى فعل، فلجأوا إلى العنف والاغتيالات وتكفير معارضيهم، ليس من السلطة فحسب بل ومن الناس أيضاً. كان خروج الخوارج ليس ضد السلطة فقط، وإنما خرجوا على كل الأطر القبيلية والعشائرية والمالية السائدة آنذاك، أي أنهم أرادوا حكم الشورى في فراغ، وليس في أرض الواقع.

    لذا كانوا مقاتلين شرسين، ومناظرين تعساء، لا يمكن أن يكتب لهم النجاح. لكن حركة الخوارج كظاهرة، تدلنا على احتجاج الجيل الجديد على أطر سائدة مرفوضة.

    ومنذ ذلك الحين وحتى يومنا هذان ومع ترسيخ أول دولة عربية إسلامية بالقضاء على هذه الحرب الأهلية، وتنظيم الدواوين والشرطة والجيش، تم ترسيخ الأمور التالية في الفكر العربي السياسي، على أنها مسلمات، ومن طبائع الأشياء، والصيغة الإسلامية الثابتة في الحكم:

    1. الحاكم يحكم مدى الحياة: ونرى هذه الأطروحة حتى اليوم غير مستهجنة لدى غالب العرب والمسلمين، إذ كان حكامهم يحكمون مدى الحياة ابتداء من أبي بكر الصديق.
    2. من يملك القوة يملك الحكم. فالقوة العسكرية هي التي تحدد الحاكم، وترسم بقاءه واستمراريته، وبالتالي فالحاكم هو آمر الصرف المالك للقوة المالية. وهو رأس الجيش المالك للقوة العسكرية.
    3. الحاكم غير محدود الصلاحيات.
    4. الحكم وراثي في الكثير من الدول.

    أما كيف تم توليف هذه الطروحات من الناحية العقائدية والناحية الشرعية مع العقيدة والشريعة الإسلامية فقد تم على النحو التالي:

    من الناحية العقائدية بدأ العهد الأموي ترسيخ مفهوم أن ما حدث هو قضاء الله وقدره، وأن الله منذ الأزل قدّر على الناس أن يحكم بنو أمية، وسبق في علم الله منذ الأزل أن يحدث ما حدث، وأن يدك الحجاج الكعبة بالمنجنيق، فقاد ذلك إلى ظهور جدل الإنسان، بظهور رأي آخر هو القدرية، على يد متنورين من أمثال عمرو المقصوص وغيلان الدمشقي.

    ورأينا كيف بدأت الحركة بالكلام عن القضاء والقدر، لا من فراغ، وإنما من أرض الواقع المعاش، وكيف تم تتويج الحركة بالمعتزلة أصحاب الفكر الحر. أي أن ظاهرة المعتزلة والقول بخلق القرآن لم تنشأ من فراغ، ولم تكن ترفاً فكرياً، إلا أن المعتزلة أخطأت خطأً قاتلاً في محاولة استعمال السلطة في فرض الفكر.

    أما من الناحية التشريعية، فقد تم استعمال السلطة عند الفقهاء من أمثال الأوزاعي والتابعين، حين أعطت الدولة القضاء للفقهاء، ولم تتدخل بهم ليحكموا بين الناس حسب الشريعة والاجتهاد، فكان القضاء مستقلاً نسبياً للسبب التالي: بعد أن ترسخت الدولة الأموية على الأسس والأطر التي قامت عليها، خرجت مشروعية الحاكم من دائرة الفقه نهائياً، ولم تعد تدخل في المواضيع الفقهية. أي أن مدة الحكم، وكيفية انتخاب الحاكم وصلاحياته، لم تكن أبداً من اختصاص الفقه، واعتبرت من المسلمات.

    لهذا، فنحن نرى الفقهاء الأربعة في ظل الخلفاء يفقهون ويجتهدون دون التعرض لمشروعية الحاكم، وبما أن أمور مشروعية الحكم تتعلق بالدستور لا بالقانون، أي أن الفقه يتدخل في تنظيم الحياة اليومية للناس من عبادات ومعاملات، فهي ناحية لم يتعرض لها الحكام حتى يومنا هذا، لأنها لا تؤثر على سلطتهم. وبعد ضعف الدولة العربية الإسلامية وضعف الحكام، اعتبر الفقهاء مشروعية الحاكم كائناً من كان ليس اختصاصهم، وبقوا تبعاً له، ففي قوة الدولة كحان الفقهاء أقوياء، وفي ضعفها كانوا ضعفاء، وعند تشرذمها تشرذموا هم أيضاً. حتى أن أحمد بن تيمية، وهو من فقهاء عصور ضعف الدولة قال: (الطاعة لذي الشوكة)، وهذا بمعنى معاصر، أن من استطاع أن يبسط نفوذه بالقوة والغلبة على بقعة من الأرض فله الطاعة، أي الطاعة للعسكر والمال.

    وقد تم حل مشكلة “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” بحصرها في العبادات والأحكام الشرعية كالإرث والطلاق والزواج، أي قانون الأحوال الشخصية. فإذا ما طلب الحاكم من الناس ترك الصلاة أو الصوم أو الحج أو الإرث فلا طاعة له عليهم، وهذا ما حدث فعلاً، حيث لم يطلب الحكام من أحد طاعتهم في معصية من هذا النوع البتة، فتم فصل أحد أركان الدين الإسلامي وهو الشورى عن بنية الدولة منذ ذلك الوقت.

    أما بالنسبة للمعارضة الإسلامية، فقد ظلت حية تعمل في الخفاء والسر، وظلت ملاحقتها قائمة، وخاصة آل البيت، فبعد أن تم ترسيخ مبدأ (الأئمة من قريش) كان المنافس القرشي الوحيد لبني أمية هم آل البيت وخاصة آل هاشم (الطالبيون والعباسيون) حيث تم تحييد كل بطون قريش على يد الأمويين ما عدا آل هاشم، فظلوا يلاحقونهم على أنهم المنافسين لهم والمؤهلين للبيعة عوضاً عنهم.

    وظل آل البيت يعملون في السر، بعد فشل أكثر من محاولة للقضاء على الحكم الأموي من قبل الحسين بن علي (رض)، وقد اتبع آل البيت سياق الأحداث، على حين اعتمد الأمويون على العنصر العربي وفضلوه، وأعطوه امتيازات في الحكم والجيش والمال، وكانت العناصر غير العربية تعتبر في الدرجة الثانية، حتى أنهم كانوا يدفعون الجزية ولو أسلموا. فاكتسب آل البيت كقاعدة للمعارضة الدعم الكبير من المسلمين غير العرب، وقادوا الثورة العباسية الكبرى ضد الأمويين، فكان القادة عرباً من آل هاشم (العباسيون) والكتلة الأساسية من غير العرب (أبو مسلم الخراساني).

    هنا ظهر التشيع كفلسفة متماسكة، وكفقه متكامل في الأثني عشرية والاسماعيلية، لإعطاء الولاء لآل البيت المفهوم الأزلي، وأن الأئمة هم المعصومون، وأن الدين يؤخذ منهم. فمنذ تولي الأمويين السلطة بدأ الشرخ بين السلطة في بني أمية، وبين المعارضة في آل البيت، واكتمل وتأطر باستلام العباسيين السلطة، واحتكارهم لها وانتهى بالكتلتين الرئيسيتين في المسلمين، السنة والشيعة، ولهذا نرى أن فقهاء السنة الأربعة ومؤسس الفقه الشيعي جعفر الصادق ظهروا في بداية العصر العباسي. بدأ هذا الشرخ بمعار سياسية بحتة وانتهى بتأطير عقائدي فقهي فلسفي، وكانت المعركة أيام الأمويين على نطاق السياسة فقط، وامتدت أيام العباسيين لتشمل بقية النواحي المعرفية.

    إن هذه الفترة التاريخية، منذ عصر الرسول (ص) حتى العصر العباسي، هي التي تسيطر على تفكيرنا المعرفي والسياسي والفقهي. وإذا عرفنا أسباب نشوء الخلافات فيها، وعرفنا أنها كلها ضمن سياق تاريخي، لا ضمن قرار من الله أزلي، وأنها تتبع جدلية الإنسان والمجتمع، نستطيع تجاوزها دون أن نبخس أحداً حقه، ودون أن نلعن تاريخنا المسجل منه، ودون أن نجعله تاريخاً شاذاً عن حركة التاريخ الإنساني، بغض النظر عن السنة والشيعة والمعتزلة والأشاعرة والخوارج، وتخلف الفقهاء، وما حصل بعد ذلك من هزائم وجمود وتخلف، أي علينا تجاوز الأزمة باتجاهين:

    1 – الأول، تبني نظم معرفية جديدة، فقد تم تأطير الإسلام ضمن نظم معرفية في القرن الثاني الهجري، ونحن الآن نمتلك نظماً معرفية أحدث من السابق، فما علينا إلا أن نعيد قراءة الكتاب والقرآن والسنة، ضمن منظور القرن العشرين وضمن النظم المعرفية السائدة في القرن العشرين، انطلاقاً من اعتقادنا بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن علينا تطوير فهمنا له وللسنة، بشكل نستطيع معه تجاوز عقدنا السابقة ونقاط التحجر، وبذلك نتجاوز الخلافات المذهبية والفقهية والطائفية، ونتطلع إلى الأمام كمشاركين في صنع الحضارة الإنسانية اليوم وغداً، وليس الأمس فقط. فالنظر إلى الوراء لا يثمر غير القطيعة والعداء بين أبناء الدين الواحد في الوطن الواحد.

    2 – الثاني، تقديم نظرية وممارسة في الشورى وفي الحكم، تعتمد على معطيات القرن العشرين والبنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة فيه، أي أيديولوجيا اسلامية معاصرة، أي القول والفعل في الدولة وبنائها، وما هي بنية الدولة العربية الإسلامية المعاصرة، وما هي أسسها وكيف يؤمكن تحقيقها.

    لقد عرفنا الديموقراطية بأنها ممارسة الحرية من قبل مجموعة من الناس، ضمن مرجعية معرفية، عرفية، جمالية، أخلاقية، دينية تشريعية. وتعتبر مرجعيات الديمقراطية من شروط تشكيل الوحدة الوطنية.

    فقد يتفق بأفراد الشعب، بمختلف أديانهم وقومياتهم، واتجاهاتهم السياسية، ومواقعهم الطبقية، على وجود الرأي والرأي الآخر، وحرية التعبير عنه، ونبذ التصفية الجسدية والقمع والإكراه، لكن ذلك يبقى غير كاف لتأمين الوحدة الوطنية، وخلق روابط بين أفراد الشعب الواحد.

    فالوحدة الوطنية ليست بنداً في دستور، أو مادة في قانون، إنما هي ميثاق وطني لكل فئات الشعب وأحزابه في الوطن الواحد، ينبع من مرجعيات ديموقراطية هي التالية:

    1 – المرجعية المعرفية:

    قلنا إن التشريعات تحتاج إلى بينات، وفسرنا ذلك في موضعه، بأن بينات التشريعات هي البحث العلمي، والمعارف الطبيعية الأخرى، ونضيف هنا، أن البحث العلمي ومعلوماتنا عن الطبيعة تحتاج نفسها إلى تشريعات، تنظم الإفادة منها إن كانت مفيدة، وتركها وتجنبها إن كانت ضارة. فتقدم المعارف حول المخدرات والتدخين والكحول وتلوث البيئة، أعطانا معلومات مهمة عن أضرارها، استندنا إليها في إصدار تشريعات خاصة بها.

    لكن هذه التشريعات، إذا تأملناها بدقة، تحد من حرية الإنسان المطلقة، رغم أنها ذات منشأ معرفي ومرجعية معرفية. فعندما يؤمن كل أفراد الشعب وأحزابه، بأن البحث العلمي وتقدم المعارف الإنسانية له منعكسات تشريعية، هي مرجعية أساسية للمجتمع ككل، تنظم حريات الأفراد، وتحددها لصالحهم، فإن هذه القناعة تلعب دوراً مهماً في ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية.

    2 – المرجعية العرفية:

    تلعب أعراف المجتمع، وتقاليده وعاداته، دوراً مهماً في صياغة القوانين، وفي إعطاء شكل الممارسة الديمقراطية خصوصيتها القومية، التي قد تكون متفردة في الشكل، لكنها تحافظ بكل تأكيد على المحتوى الديموقراطي. لكن هذه الأعراف تخضع للتطور، فهي تتبع المستوى الانتاجي والموقع الجغرافي والإرث التاريخي، ومن حق كل إنسان انتقادها.

    فنحن نرى مثلاً أن الأعراف (العادات والتقاليد) الاجتماعية في دمشق منذ خمسين عاماً، تختلف عما هي عليه الآن. وتختلف الأمور التي تعارف عليها الناس وألفوها (المعروف)، والأمور التي استنكرها الناس ولم يألفوها (المنكر) من مكان إلى آخر، لكننا نجدها في بعض البلدان متأصلة حتى في المجالات السياسية.

    ففي بريطانيا مثلاً، وحدة وطنية، وليس فيها دستور، لكن أعراف وتقاليد الحكم والسياسة التي تطورت خلال مئات السنين فيها، هي السائدة، ولها السيطرة، وفيها تتمثل الوحدة الوطنية بين أفراد الشعب البريطاني، وتقر بها جميع الأحزاب السياسية وتعتبرها تشريعاً هاماً جداً.

    من هذه الزاوية بالذات، اعتبر الله سبحانه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، لأن من صفاتها الأساسية الدائمة أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله. ومن هذه الزاوية بالذات، فهم الصحابة المعروف كما فهمه عمر وعلي (رض)، حين جمع عمر الناس بعد توليه وقال: كنت تاجراً، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أن يحل لي من هذا المال؟ فقال علي: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف، ليس لك من هذا المال غيره. فقال عمر: القول ما قال علي.

    3 – المرجعية الجمالية:

    وهي التي تعبر عن القيم الجمالية في المجتمع. أو هي ما يدخل عندنا اليوم تحت مصطلح “يليق ولا يليق”. فالإنسان الذي يقبل أن تتحدد حريته في اختيار لباس معين، لا يقبل ذلك من باب الشرع في ستر العورة، بل من باب اللياقة والأناقة. والمرجعية الجمالية تختلف باختلاف الزمان والمكان، وتتطور، وتقبل النقد من قبل الآخرين. فقد لا يليق بإنسان عمره 60 عاماً، مثلاً، أن يلبس بنطالاً قصيراً أحمر، تحت قميص بنفسجي، في مجتمع ما، بينما نراه لائقاً مقبولاً في مجتمعات أخرى.

    والمرجعية الجمالية تختلف عن المرجعية العرفية، في أنها أضيق منها، فالأعراف أوسع من مفاهيم الجمال، إذ قد تحد الأعراف من حرية الإنسان في أمور لا علاقة لها مطلقاً باللياقة والأناقة، مثال على ذلك الأرملة التي قضى شرع الله ألا تتزوج أو تتحدث بزواج طوال مدة عدتها، أما نوع لباسها وكلامها على الهاتف مثلاً، وحديثها مع الطارق على بابها، فهذه كلها أعراف متخلفة، قد يرغم المجتمع المرأة على التقيد بها، ليس لها أية علاقة بالأمور الجمالية وقس على ذلك أموراً كثيرة. لكن الأعراف مع المرجعية الجمالية تمثلان جزءاً أساسياً من التراث الثقافي عند الشعوب.

    4 – المرجعية الأخلاقية:

    وهي أهم مرجعية على الإطلاق، فيها أساس قيام الشعوب وترابطها، تعطي المثل العليا، وتحدد الفضائل والرذائل، وذهابها يؤدي إلى دمار الشعوب والأمم، تماماً كما يقول الشاعر:

    إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

    لقد قرن التنزيل الحكيم بين ثلاثة أمور، العبادات والتشريعات في المعاملات والأخلاق. فقسّم الأخلاق إلى قسمين، الأول الفرقان، وهو الحد الأدنى الملزم من القوانين الأخلاقية التي افترض التنزيل وجودها في الإنسان وفصلتها الآيات الثلاث 151، 152، 153 من سورة الأنعام، والثاني فضائل إضافية أخرى انبثت في سور التنزيل وآياته. كفضيلة الوسطية بين البخل والتبذير التي وردت في قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا} الإسراء 29. وكفضيلة إفساح المجالس في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم ..} المجادلة 11. وكفضيلة اجتناب الغيبة والتجسس في قوله تعالى: {.. ولا تجسسوا ولا يغتب بعضهم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ..} الحجرات 12.

    فالغيبة والنميمة والتجسس ودخول البيوت دون استئذان والبخل والتبذير كلها رذائل، واجتنابها مطلوب، لكن لا يمكن في الوقت نفسه أن توضع لها تشريعات وقوانين ودساتير، كأن نقول مثلاً، عقاب البخل كذا بموجب المادة كذا، وإنما هي قيم أخلاقية وقيم تربوية، يتمسك بها المجتمع بغض النظر عن دينه وقوميته ومذهبه واتجاهه السياسي، ويقف بنا التنزيل الحكيم بما يحويه من قيم أخلاقية وتعاليم تربوية أمام أمرين:

    أولهما، أن القيم الأخلاقية والفضائل، هي نفسها الحكمة التي وردت في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ..} البقرة 269 – ودل قوله على أن الحكمة لوحدها لا تحتاج إلى وحي، ولهذا فقد فصلها في الرسالات السماوية الموحاة في قوله عن عيسى {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل} آل عمران 48. ولهذا فنحن لا نرى في الفرقان والقيم الأخلاقية والفضائل يأية عبادات وأية أحكام في المعاملات وأية عقوبات، ذلك لأنها تخص أهل الأرض قاطبة، ولأنها قانون إنساني عام للمؤمن والملحد والمسيحي والمسلم والعربي وغير العربي.

    ثانيهما، أن تسلسل الوصايا في سورة الأنعام، تسلسل تاريخي، وليس بحسب الأهمية، فقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} له نفس القيمة الأخلاقية لقوله: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}، إلا أن الأول سبق الثاني تاريخياً.

    إن العودة إلى شرح القوانين الأخلاقية لا يعنينا هنا(5)، لكن ما يعنينا هو التأكيد على خصائص هذه القوانين وإبراز أهميتها في المستوى الحضاري للشعوب ككل، كمجموعة من القيم والمثل العليا التي يتمسك بها المجتمع.

    1 – هي مثل عليا لا يمكن فرضها بالقوانين على الناس، ولا يتم الالتزام بها إلا من خلال التربية، لأنها تمثل الوازع الذاتي للإنسان (الضمير).

    2 – بما أنها قيم إنسانية ذاتية، فهي ضعيفة بذاتها، ويمكن خرقها بسهولة، والتزام الإنسان بها غير ممكن إلا إذا تحولت إلى قيمة اجتماعية راسخة، يتعرض تاركها ومخالفها لنبذ المجتمع واحتقاره، فهي ليست كالجاذبية مثلاً التي يحتاج الإنسان للإفلات من سلطاتها إلى قدرة وطاقة. لكنها تعطي في الوقت نفسه الملتزم بها الاطمئنان والسعادة والوعد، كما في قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون} فصلت 30. إضافة إلى أن القوانين الموضوعية للوجود لا تؤديها ولا ترفضها، ومن هنا نقول إن على الإنسان أن يؤمن بقوانين الحقيقة (الحق) ويطبقها بشكل يدعم ويوقي القيم الأخلاقية.

    3 – لا تحتاج إلى بينات في الدعوة إليها، فهي تقبل لذاتها وبذاتها، والقول بأن الصدق فضيلة والكذب رذيلة، لا يحتاج إلى بينة نقدمها للناس ليقتنعوا بها سواء بينات بنصوص دينية أم بقوانين علمية.

    4 – لا تخضع للرأي والرأي الآخر، إذ هي موضع اتفاق الجميع، من مختلف الديانات والمذاهب الاجتماعية والسياسية، فالصدق فضيلة عند المؤمن والملحد، والغش في المواصفات رذيلة عند الرأسمالي والاشتراكي، والوفاء بالعهود مطلوب ومرغوب عند المحافظ والليبرالي والرجعي والتقدمي، وقانون أساسي لحياة أي مجتمع، وهي تلعب دوراً كبيراً هاماً في الحفاظ على الوحدة الوطنية لدى الشعوب، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من الممارسة الديموقراطية في المجتمعات، وبدونها تتحول الديموقراطية إلى فوضى وديماغوجية.

    5 – من أهم صفات المرجعية الأخلاقية أنها ثابتة نهائية لا تخضع للتطور، ومن هنا فهي تختلف عن الأعراف والمعارف، فالقانون الأخلاقي الذي يكرسه قوله تعالى: {.. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى..} الأنعام 152. يعني أن كلمة الحق يجب أن يقولها الإنسان في كل زمان ومكان، ولو أدّى ذلك إلى ضرر أقربائه (أب، أم، أخ، عم، خال ..). وهذه قيمة أخلاقية لا يمكن فرضها بقانون، وهي الوحيدة القادرة على جعل الإنسان يتجاوز طوعاً العصبيات الأسرية والعشائرية، في سبيل قيمة أخلاقية أعلى هي قول الحق. وقل مثل ذلك في القيم الأخلاقية الأخرى.

    فهل وصل العرب والمسلمون في نهاية القرن العشرين، إلى مستوى العمل بهذه القيم الأخلاقية (الوصايا) وتطبيقها؟ وهل يفهمون، كما أسلفنا، أن العمل بها واجب مفروض كالإيمان بالله سواء بسواء؟ والجواب كلا .. فما زالت العلاقات الأسرية والعشائرية والعرقية والطائفية هي السائدة، بينما يفترض العمل بهذه الوصايا والقيم إنساناً قطع شوطاً أبعد في مجال الحضارة والرقي، وأصبح مفهوم المجتمع عنده أسمى من كل المفاهيم الأخرى الأولية.

    قلنا إن الحكمة تشمل الوصايا (الفرقان) إضافة إلى العديد من الفضائل والقيم الأخرى، لكن علينا أن نفرّق بين القيمة الأخلاقية للوصايا، وبين القيمة الأخلاقية للفضائل الأخرى، فالوصايا هي الكبائر التي يقوم المجتمع على الالتزام بها ويتدمر بتركها، وتاركها فاسق. أما الفضائل الأخرى كالتواضع واللين في القول والتفسح في المجالس فلم تقترن بوعد ووعيد وتحريم في التنزيل الحكيم، كما اقترنت الوصايا، وتاركها غير مؤدب اجتماعياً، وهي (المم) التي أشار إليها تعالى في قوله: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ..} النجم 32.

    من هنا، يخطئ من يقول إن الحضارة الأوروبية بلا أخلاق، لأننا نجد الكثير من الفضائل في المجتمعات الأوروبية، يمارسه الأفراد هناك في حياتهم اليومية. حتى أن بعض الفضائل في سلم أوليات قبل البعض الآخر، ووضعوا هم لأنفسهم سلم أوليات بترتيب مغاير للترتيب الذي وضعناه نحن لأنفسنا، وهذا كل ما في الأمر !!

    والواقع أننا جمعنا الفضائل كلها، تقريباً، وحصرناها في فضيلة واحدة بعينها هي العفة. وحصرنا ذلك كله بالمرأة دون الرجل(6). ونحن نرى أن العفة، وإن كانت تحفظ الأسرة والأنساب، وإن كانت هامة إلى حد أن الله سبحانه اصطفى بفضلها مريم على نساء العالمين لأنها أحصنت فرجها، إلا أنها ليست كل الفضائل، وليست أهمها إطلاقاً. فشيوع القتل يدمر المجتمع كشيوع الفاحشة تماماً، وهذا يدمرها كشيوع الغش والإخلال بالمواصفات، وهذا يدمرها كشيوع النكث بالعهد سواء بسواء، فليس ثمة، في الوصايا، أفضلية لواحدة على الأخرى، وتسلسلها إنما هو تاريخي بحت.

    المشكلة عندنا أننا رفعنا وصية {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} على رأس الفضائل كلها بعد أن حضرناها بالمرأة، يليها عدم قتل النفس، يليها بر الوالدين بالمفهوم الذي يخدم التعصب العشائري والأسري، وليس بالمفهوم الإنساني العام، واعتبرنا باقي الوصايا تليها في الدرجة، فوقفنا منها موقف اللامبالاة، ولا أقول أنكرناها، ولكن عندما نذكرها فمن باب ذكر فضائل الإسلام لا أكثر.

    فإذا زنت امرأة في مجتمعنا مثلاً (وهذه من الكبائر) وزنى رجل مثلاً، أو خالف المواصفات في الصنع (وهاتان من الكبائر أيضاً)، رأينا الدنيا تقوم في الحالة الأولى ولا تقعد، ورأينا الدماء تسفك، ورأينا العار يلحق بالذكور من عائلتها ليجل كامل على الأقل، بينما لا يحصل شيء من ذلك عند عائلة الرجل في الحالة الثانية، وكأن الإسلام لم يسو في مسألة الفواحش بين الذكر والأنثى، وكأن الفاحشة عمل أحادي الجانب هو الأنثى، وكأن واو الجماعة في قوله: {ولا تقربوا} تعني النساء فقط، وننتقل إلى الحالة الثانية، حالة الغش في المواصفات، لنراها لا تؤدي إلى أكثر من مخالفة تموينية في مجتمعنا (لاحظ كلمة مخالفة)، أما إذا وقعت في مجتمع أوروبي نتهمه بأنه غير أخلاقي، تقوم الدنيا وتقعد، إلى حد يصعب كثيراً على مرتكبها أن يتخلص من نتائجها.

    مثال آخر نأتي به من اليابان، فشرف المهنة وإتقان العمل هناك شرط أساسي من شروط الانتساب للجماعة، وعلى رأس سلم أولويات الفضائل في المجتمع. ورغم أن اتقان العمل عندنا خصلة هامة وصف الله تعالى بها نفسه في قوله: {صنع الله الذي أتقن كل شيءٍ، إنه خبيرٌ بما تفعلون} النمل 88. إلا أننا وضعناها في الأهمية بعد فضيلة العفة عند المرأة، حتى أن النجار والحداد والخياط والميكانيكي، لا يشعرون بكثير من الحرج والخجل حين يقع في عملهم وانتاجهم عيوب. نقول هذا كله لتوضيح أن الفساد الأخلاقي لا ينحصر فقط في الفاحشة عند المرأة، فالرشوة والغش واللامبالاة بالمسؤولية وعدم اتقان العمل كلها فساد أخلاقي سواء بسواء.

    ثمة أيضاً من اعتبر القوانين الأخلاقية متغيرة كالأعراف والمعارف، فالأحزاب اليسارية ترى في الأخلاق بنية فوقية لبنية تحتية هي العلاقات الانتاجية، وبالتالي يمكن تجاوزها. علماً أن الأخلاق، كفرقان ووصايا، تطورت طبقاً للتنزيل الحكيم تطوراً تراكمياً، ابتداء من نوح {رب اغفر لي ولوالدي} وانتهاء بالنبي (ص)، بالفرقان والحكمة والفضائل الإضافية الأخرى، بمعنى أن فضيلة الصدق ورذيلة الكذب في مجتمع موسى الرعوي، هي نفسها فضيلة الصدق ورذيلة الكذب في القرن العشرين، وان الوفاء بالكيل والميزان عند شعيب، هو نفسه في القرن العشرين تحت اسم الالتزام بالمواصفات.

    لقد جرى نسف القانون الأخلاقي، بدعوى أنه رجعي، تحت شعار الثورية والتقدمية، رغم أن القانون الأخلاقي يصلح لكل البنى الاجتماعية والاقتصادية على مر التاريخ، إن لم نقل وليدها، ولقد قام اليسار الشيوعي ببناء دولة استبدادية لم تكن أول دولة مستبدة في التاريخ ولن تكون، أضافت إلى رذائل الاستبداد رذيلة انفردت بها، هي رذيلة الدولة المستبدة الشمولية، فسيطرت على الانتاج بدءاً من صنع الأحذية وانتهاء بالصواريخ وما بينهما.

    وأدى اعتبار الأخلاق قيمة بورجوازية عند اليسار الماركسي، وقيمة تراثية رجعية عند اليسار غير الماركسي إلى أن حلّت هذه الحركات نفسها من القوانين الأخلاقية، واعتبرت عدم التقيد بها من سمات التقدمية فانتشر نتيجة ذلك الفساد، من رشوة وتلاعب بالمواصفات وتدني إنتاج وسرقات ومحسوبية ونفاق، وشاع الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي، وأصبح الانتماء الحزبي أعلى من الانتماء الوطني، فقاد ذلك إلى شعور المواطن العادي بعدم المساواة، وبأن هناك فئة تنال امتيازات مالية وسياسية لمجرد الانتماء العشائري أو الطائفي. وبانتشار الفساد الإداري في المجتمع، مما أفقد هذه الحركات مصداقيتها. فكان أن انهار الحزب الشيوعي هذا الانهيار المشين، ولم يجد بين أعضائه بعد سبعين عاماً من يدافع عنه.

    لقد حاولت الحركات اليسارية في بدء انهيارها، إحكام قبضتها لتتمسك بالحكم، أو على الأصح بالبقاء، لكن ذلك أدى إلى المزيد من الاستبداد والفساد، فأصبح العلم أيديولوجيا بحد ذاته، وإذا أصبح العلم أيديولوجية بذاته صار غطاءً للاستبداد، و غدا الفكر مفروضاً على الناس بالقوة، وتم طرح شعارات رنانة لا تتناسب مع قدرات البلد، وشمل الاستبداد الدستور نفسه، حين أعطى للحزب وحده حق قيادة المجتمع، على أساس أنه ضمير الشعب وعقله (كذا). إلا أن ذلك كله عجل بالنهاية المروعة التي وهم كثيرون من الناظرين من بعيد، أنها بنت الساعة.

    المشكلة الأولى عندنا إذن، هي أننا صنّفنا المحرمات في الوصايا على درجات بحسب الأهمية، ووضعنا على رأسها الفواحش بعد أن حصرناها بالمرأة. أما المشكلة الثانية، فهي أننا خلطنا بين (اللمم من الفواحش) وبين الفواحش نفسها. أي أننا أعطينا الفضائل الأخرى أهمية وقيمة أخلاقية لا تقل عن أهمية وقيمة الوصايا والحدود. حتى بلغت الكبائر عند الحافظ الذهبي سبعين، وعند ابن كثير في تفسيره إلى السبعمائة أقرب. فأصبحنا نرى أن: قتل النفس= اللعب بالنرد، وأن: عقوق الوالدين = اللعب بالشطرنج، وأن: شهادة الزور = لبس الشعر المستعار، وهذا كلام له خبئ معناه ليس لنا عقول.

    إن مخالفة الحدود والوصايا يعتبر من الكبائر، ولكن التوسع في الكبائر تحت شعار زيادة التقوى فيه إجحاف وضرر بالإسلام والمسلمين. والإفراط في المحرمات والإكثار منها لا يدخل في باب زيادة التقوى، وإنما يدخل في باب تضييق الخناق على المسلمين والإسلام، ويدخل في باب المزاودة على الله. وعلينا أن نضع نصب أعيننا القاعدة التي تقول: كلما نقص عدد المحرمات زادت شدة تمسك الناس باجتنابها، وزاد عددهم، وكلما زاد عدد المحرمات نقصت شدة تمسك الناس باجتنابها ونقص عددهم.

    فشعار الخوف من الله، مثلاً، إحدى الفضائل التي ترسخت في الثقافة الإسلامية، فميزتها عن الثقافات الأخرى، لكن هذا الشعار لن يأتي ثماره بشكل فعّال وإيجابي، إلا إذا قصرناه على حدود الله وعلى المحرمات في التنزيل، أما إذا أسقطناه على كل شيء لا نرغب فيه، قل أثره وفقد فعاليته. ونحن إذ نرى في الخوف من الله وخشيته فضيلة من أكبر الفضائل التي يجب ترسيخها في المجتمع والتأكيد عليها، لأنها تشيع الطمأنينة بين الناس جميعاً في علاقاتهم بعضهم ببعض، لا بد أن ننوه إلى أن القانون الأخلاقي قانون تروبي لا سلطوي. فلقد برهنت الأحداث في الاتحاد السوفياتي سابقاً، على أن انخفاض معدل الجريمة عندهم كان بسبب سلطوي، وما أن ضعفت هذه السلطة وزالت، حتى انتشرت الجريمة بشكل كاسح مرعب. فالسلطة والاستبداد لا يصنعان أخلاقاً، حتى ولا تحت غطاء الإسلام.

    (1) لعل الدكتور محمد عابد الجابري من أبرز من أوفى هذا الموضوع حقه في كتابه “العقل العربي السياسي”، وإذا فاتنا هنا أن نقتبس فقراته حرفياً، فلم يفتنا جوهرها وروحها.

    (2) الملكانيون: هم الذين يقولون أن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته، وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي، وهو قديم أزلي من قديم أزلي (الملل والنحل: للشهرستاني ص22).

    (3) نضرب لذلك مثالاً واحداً خوف الإطالة، من تاريخ الرسل والملوك للطبري، ج4، ص239، في خير الشورى بعد مقتل عمر بن الخطاب: “أبو جعفر عن سلم بن جُنادة أبو السائب قال، حدثنا سلميان بن عبد العزيز بن أبي ثابت بن عبد العزيز عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال، حدثنا أبي عن عبد الله بن جعفر عن أبيه عن المِسْوَر بن مخرمة قال: وخرج عبد الرحمن بن عوف وعليه عمامته التي –عممه بها الرسول (ص) متقلداً سيفه حتى ركب المنبر، فوقف وقوفاً طويلاً، ثم دعا بما لم يسمع الناس، وأخذ بيد علي فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال اللهم لا، ولكن على جهدي منه وطاقتي”. فانظر هذا الإحساس والفهم والوعي لمتغيرات التاريخ!!

    (4) لم تكن حروب الردة كما بدأت، حروب امتناع عن إخراج الزكاة كزكاة، بل كانت خلافاً حول مركزية صرف الزكاة في وجوهها، ثم تحولت إلى تهديد بشق الدولة الفتية إلى دولتين أو أكثر.

    (5) لمزيد من الشرح والتفصيل انظر “الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة”، ص491 – 531.

    (6) وهذه سمة المجتمع الذكوري الذي يضع الرذائل على الأنثى لأنها العنصر الأضعف. فالهزيمة في الحزب سببها (النساء كاسيات عاريات) أما النصر فبهمة الرجال وشجاعتهم. والأنثى مصدر الفتنة، أما الرجل فمجرد مسكين مفتون.

اترك تعليقاً