الفصل الخامس: الثورة

تغيّر الصيرورة الاجتماعية الانسانية بطريق واع إرادي

قبل أن نبدأ الحديث عن الثورة ووضع تعريف لها، يجب علينا أن نشرح أن الثورة هي نشاط إنساني فردي وجماعي. مؤثر في سياق الأحداث الفردية أو الاجتماعية. أي أنها عملية تحويل الأبستمولوجيا (الأفكار والنظم المعرفية) إلى أيديولوجيا (أطر تنظيمية عملية). أو هي بكلام آخر، تطبيق النظم المعرفية المتطورة دائماً على الواقع الذي يجب أن يتطور دائماً طبقاً لتطور هذه النظم. أي أن النظم المعرفية وأدواتها يجب أن تكون أقوى وأقدر على كسر الأيديولوجيا القائمة على نظم معرفية وأدوات سابقة.

لقد شرحت في “الكتاب والقرآن”(1) – نظرية المعرفة الإنسانية – بند (الوجود >>> الإنسان)، وكيف تحصل المعارف الإنسانية عن الله وعن العالم المحيط. لكنه كان شرحاً لتأسيس نظام معرفي إنساني مستنبط حصراً من القرآن الكريم، ولم أبحث أبداً الاتجاه المعاكس، وتأثير هذه المعارف المكتسبة على الوجود الموضوعي. أي على الإنسان >>> الوجود.

ويعتبر هذا الموضوع من أهم الموضوعات التي طرحها الفكر العربي المعاصر، وخاصة السياسي والاقتصادي. علماً أن الفكر العربي الإسلامي المعاصر، لم يطرح هذا الموضوع من الناحية العلمية، أي كيف يمكن تحويل الوحدة العربية، مثلاً، من مجرد فكرة (قول)، إلى حقيقة موضوعية (فعل). أو كيف نحول مفهوماً عن العدالة الاجتماعية من مجرد أفكار مطروحة (قول)، إلى حقيقة قائمة (فعل)، دون أن ندخل في عالم الرومانسية (العواطف)، حيث المتاهات والمآسي الكبرى.

نحن نسمع أقوالاً ووعوداً كثيرة، من أشخاص كثيرين (زعماء وغير زعماء) ثم ننظر إلى الواقع فنراه غير ذلك، ونتهم هؤلاء الأشخاص بالكذب. ونسمع خطباً ومواعظ وعروضاً للإسلام، ثم ننظر إلى الحياة فنراها غير ذلك، ويتهمنا هؤلاء بقلة الدين والبعد عن الإسلام، وتنتهي العملية عند هذا الحد، دون تحليل الأسباب!!

وأرانا نخطئ في الحالتين، فليس كل من نادى بالوحدة العربية والعدالة الاجتماعية كاذباً، وليس كل الناس في العالم قليلي دين، وبعيدين عن الإسلام. ولتحليل هذه الظاهرة، يجب أن ندخل أولاً في شرح وتحليل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} الصف 2 و3 – وفي الفرق بين القول والكلام. فالكلام هو الجانب الصوتي في اللسان، وعندما يأخذ الكلام معنى في الذهن يصبح قولاً. والقول مجموعة الصور والأفكار التي تحصل في الذهن من معرفة العالم الموضوعي، أما الفعل فهو عمل معرّف، يقوم به الإنسان من فكرة في ذهنه.

فالله سبحانه هو الوحيد القادر على فعل ما يريد، وقوله وفعله متطابقان تماماً {قوله الحق} {فعال لما يريد}، والوجود كلماته، ولو أراد الوحدة العربية لأصبحت واقعاً موضوعياً لا مناص منه {كن فيكون}. ولكن هل من مهام الله صنع الوحدة العربية، أو الدولة العربية الإسلامية، أو العدالة الاجتماعية؟ أم هي ضمن الإمكانيات الممكنة موضوعياً، مثلها مثل التجزئة؟ إن الوحدة والتجزئة في علم الله ومشيئته سيان، وترجيح الواحدة على الأخرى من مهام الإنسان حصراً وليس من مهام الله، ودعاؤنا لله أن ينجز هذه المهمة عنا نوع من ضعف الإيمان به وبعلمه وبكلماته، وليس قوة إيمان أبداً.

بعد هذا ندخل في نظرية القول والفعل والعلاقة بينهما، أو بعبارة أخرى، كيف نحول الأفكار إلى أفعال، وبالتالي إلى حقائق. وكيف نحول النظام المعرفي إلى نظام واقعي مادي في العالم الموضوعي، وما هو تأثير الفكر الإنساني على العالم الموضوعي، وما هي محدودية هذا التأثير، وكيف يتحول الفكر الإنساني في مختلف المجالات العلمية والإنسانية إلى أيديولوجيا، يتبلور من خلالها نشاط الإنسان الفردي والاجتماعي بكل أبعاده، لنصل بعد ذلك كله إلى نظرية الدولة والثورة وتغير الصيرورة الاجتماعية والتاريخية.

لقد شرحنا نشوء الأمم والقوميات من الناحية التاريخية(2)، وصولاً إلى مفهوم الدولة، ونبحث الآن في سؤال: ما هو الفعل؟ أي ما هي الدولة التي نريد تحقيقها، ويمكن تحقيقها، بحيث يتطابق الفكر مع ما نريد (القول والفعل) وهذا ما نسميه تدخل الإنسان في صياغة الطبيعة واستثمارها وتسخيرها له أولاً، وفي صنع الأحداث الإنسانية ثانياً (صنع التاريخ).

ينقسم الفكر إلى قسمين: الإدراك المشخص بالحواس (الإدراك الفؤادي) وهو ما تنقله الحواس من صور مباشرة عن طريق السمع والبصر وبقية الحواس. ثم يأتي الفكر في التحليل والتركيب، والعقل في إطلاق الحكم.

ونتوقف في مجال الإدراك الفؤادي (الصور الأولى التي ولدتها الحواس). هذه الصور هي أقوى الصور تأثيراً عند الإنسان، لأنها تولد عنده ما يسمى بالإنطباع المباشر، الذي يتراكم لديه يومياً منذ نعومة أظفاره. لذا فإن عملية استعادة هذا الانطباع المباشر للصور الآتية عن طريق الحواس، والمتراكم كمعلومات مخزنة، عملية تسمى الذاكرة. ولهذا فإن أقوى مؤثر على الإنسان، هو الشيء الذي يأخذ عنده انطباعاً مباشراً متكرراً يومياً، بحيث تندم الانطباعات المباشرة والذاكرة معاً، كشروق الشمس مثلاً.

فالإنسان يرى شروق الشمس يومياً بانطباع مباشر، ومن التكرار اليومي لهذه العملية تدخل في ذاكرته، فكل الأشياء التي تدخل في انطباع الإنسان المباشر وذاكرته معاً، هي من أقوى الأشياء التي تدخل في انطباع الإنسان المباشر وذاكرته معاً، هي من أقوى الأشياء تأثيراً على الفكر الإنساني وعلى توجيهه معاً، وهي التي تفرض عليه فرضاً التفكير فيها وتحليلها وعقلنتها. لذا كانت أول محاولة للعقلنة قام بها الإنسان هي عقلنة الشمس والقمر والنجوم والرعد والبرق والأنهار والموت، وربطها مع الإحساسات الداخلية (الخوف، اللذة، الشبع).

ومن هنا يظهر الربط الخارجي مع الإحساسات الداخلية، في نشوء الوثنية الطبيعية، التي ربطت الشمس والقمر والرعد والبرق والمطر، بالشح والخوف والألم والجوع واللذة.

ونرى جلياً أن هذه الأشياء تدخل ضمن الانطباع المباشر والذاكرة معاً منذ الإنسان القديم، إذ فرضت نفسها فرضاً، كأوليات للفكر الإنساني والعقلنة، وهذا ما يؤسس مقولة أن الإدراك الفؤادي هو بمثابة المحرض والصاعق للفكر الإنساني، وأن الفكر الفؤادي يغير من مسلمات الناس، كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم كالتلفزيون مثلاً، الذي هو من الأوليات التي يقوم عليها الفكر الإنساني والعقلنة.

يضاف إلى ذلك الأطروحة القبلية الوحيدة الموجودة لدى الإنسان، التي جعلته إنساناً، وهي قانون عدم التناقض الذي أخذه من الله مباشرة (نفخة الروح). فالمعلومة الأولى للإنسان مهما كانت بدائية وبسيطة، تقوم على قانون عدم التناقض. أما أطروحات العلة والمعلول والسببية فهي أطروحات مكتسبة وليست قبلية. إذا أردنا أن نعرّف الإنسان نقول:

الإنسان = بشر + كم معرفي (علم + تشريع) (من نفخة الروح قانون عدم التناقض والتجريد).

ومن الحواس وقانون عدم التناقض، بدأ الفكر الإنساني بمسيرته الجبارة منذ آدم حتى يومنا هذا، وأصبح الإنسان يُعرف بأنه كم معرفي، إضافة إلى وجوده الفيزيولوجي البشري.

ولكن كيف حصل هذا؟ أي ما هي الحلقة التي تسمى الفكر والعقلنة، والتي وجدت لدى الإنسان بعد هذه الأوليات، فجعلته مخترعاً مشرعاً لها؟ إنها الحلقة التي يتولد فيها ما يسمى بالخيال، أو بالاحتمالات الممكنة عقلياً. فعندما يبصر الإنسان وجهاً، فإنه يأخذ انطباعاً عن الوجه، ويتم تخزين الوجه في الذاكرة، ويتم تحليل أن الوجه يتألف من عينين وخدين وجبين وفم وذقن، وأن الأذنين على أطرافه، وأن له لوناً، فالوجوه السمراء والصفراء والسوداء كلها انطباعات أولية وذاكرة معاً.

ولكن عندما يعيد الإنسان تركيب هذه العناصر (الانطباعات) في ذهنه بعد تحليلها، مستعملاً قانون عدم التناقض، كأن يتصور مثلاً وجهاً بعين واحدة في منتصفه، وبأربعة ألوان معاً، جزء أصفر وآخر أبيض وثالث أسود، فهذا بمقدور الإنسان وهو ما نطلق عليه اسم الخيال. فالخيال هو مجموعة التركيبات للانطباعات ضمن نسق معين في الفكر الإنساني.

وهذه الصفة هي أساس الاختراعات الإنسانية كلها، وهي غير محدودة إلا بالإدراك الفؤادي، أي ما دخل في علم الإنسان. فلو لم ير الإنسان الطيور والحيوانات والحشرات الطائرة، لما فكر بالطيران أصلاً بمعنى أنه لما وجد الطيران ضمن انطباعاته وذاكرته. من هنا نفهم لماذا كان وعي الإنسان البدائي مشخصاً (الملائكة – النذر) ثم من خلال هذا التحليل والتركيب (الخيال) توصل الإنسان إلى قانون السببية والعلية.

لقد بقيت هذه الحالة في ذاكرة العرب بشكل واهٍ خفيف، لبعدهم عنها تاريخياً {وقالوا لولا أنزل عليه ملك، ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون} الأنعام 8 ومن هنا جاء تدخل الله سبحانه بدفع الإنسان إلى الأمام في التجريد اللغوي والرمزي، وفي تعليمه أشياء لم يستطع أن يدركها بالإدراك المشخص (انطباعات أولية + ذاكرة) المخيط، الزراعة، النقد، صناعة الفلك، إذ لا يوجد في الطبيعة مجردات بل مشخصات.

وانتقال الله تعالى بالإنسان من الوحي المشخص إلى الوحي المجرد، يؤكد أن بداية المعارف الإنسانية هي الانطباعات الأولية والذاكرة، كمادة خام للفكر والعقل الذي يمر بمرحلة أساسية هي الخيال، وهنا يدخل الجانب الشيطاني والجانب الرحماني في الفكر الإنساني، في أن للخيال احتمالين، الأول حقيقي رحماني (الحق) والآخر وهمي شيطاني (الباطل) وكلاهما مربوط بقانون عدم التناقض.

لقد أكد القرآن أن الإدراك الفؤادي المشخص هو أساس المعرفة خلال مراحل تطور الإنسان التاريخية، ولا زال، وذلك في قوله تعالى عن قوم هود: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيءٍ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} الأحقاف 26.

ولنقارن هذا مع قوله تعالى بشكل مطلق: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} النمل 78. ونلاحظ أن السمع والبصر والفؤاد عند قوم هود، هو نفسه عند قوم محمد (ص)، وهو نفسه عندنا في العصر الحاضر، أما التحليل والتركيب، وقانون العلية والسببية، فهو الذي اكتسبه الإنسان مع تطور المراحل التاريخية للمعرفة. فالإدراك الفؤادي هو الذي يشكل الانطباع والذاكرة، ويعطي المواد الأولية للفكر، الذي من صفاته التحليل والتركيب (الخيال) قانون السببية.

ومن طرح السؤال التالي: كيف يمكن تحويل الخيال في الفكر إلى واقع موضوعي في عالم الموجودات؟ الذي قلنا أنه أساس الاختراعات الإنسانية، وأساس توظيف المعلومات عن الطبيعة لتكون مثمرة مسخرة، نقف أمام حالتين:

أ – الحالة الأولى: تحويل الخيال إلى واقع موضوعي في عالم الطبيعة (العلوم الطبيعية – الآفاق – الكونيات).

ب – الحالة الثانية: تحويل الخيال إلى واقع موضوعي في عالم الإنسان (العلوم الإنسانية)(3).

تتجلى الحالة الأولى وتظهر في الأمور التالية:

1 – التكبير: فنحن نرى، مثلاً، في الطبيعة طائراً بحجم معين، ونتخيل طائراً بحجم أكبر، كالبعوضة التي نتخيلها ديناصوراً طائراً.

2 – التصغير: ونرى فيلاً بحجمه الطبيعي، فنتخيل فيلاً بحجم أصغر.

3 – إعادة التركيب: أن نتخيل إنساناً بعينين في أعلى رأسه وأذنين في رقبته.

4 – تغيير نوع المادة: أن نستبدل جناح الريش عند الطائر بجناح من معدن عند الطائرة، وهذا يتطلب دراسة أنواع المواد وتركيبها.

فالتكبير والتصغير تصرف في الأبعاد، يحمل مفهوم الوحدة القياسية. وتصرفٌ في العدد، كأن نتخيل إنساناً بثلاث عيون أو بعين واحدة.

أما إعادة التركيب فهي تصرف في المواقع، يحمل مفهوم النسبة المكانية، وهو ما يسمى بالجانب الهندسي للخيال (من قبيل أن الهندسة أبعاد ومواقع)، وهذا ينعكس حتى على التعبير اللغوي، فإذا نظرنا إلى كتلة كبيرة من البازلت مثلاً، نسميها جبلاً، والأصغر نسميها صخرة، والأًغر نسميها حجراً، والأًغر بحصة، والأًصغر رملة والأصغر بودرة. علماً أن المادة لم تتغير، ورغم أن تغير الأبعاد واختلافها يؤثر تأثيراً مباشراً على مواصفات هذا الجسم نفسها. ولتوضيح ذلك نقول: نحن لا نستطيع أن نصنع من القمح عجيناً، لكننا نستطيع ذلك بعد طحنه وتحويله إلى طحين، أي بعد أن ندخل عليه تغييراً في الأبعاد.

ومع أننا نرى أن كل الخيالات تقوم على هذا الأساس، فإن علينا أن نعلم أن لهذه الخيالات مستويات تتبع مستوى المعارف، فالخيال عند الناس الآن، يختلف عن الخيال عند الناس منذ ألف عام، أي أنه بمستوى أعلى بكثير من قبل، وذلك لأن المعارف الأولية عند الإنسان الآن أكثر بكثير. والقابل للتحقيق من هذه الخيالات، هو الذي يتطابق مع المستوى المعرفي للإنسان، فالخيال الإنساني تحده المعلومات الأولية التي اكتسبها عن طريق الإدراك الفؤادي (الملاحظة والذاكرة)، وكلما كانت المعلومات الأولية المخزونة كثيرة، كان الخيال أوسع.

وأما المحدودية الأساسية للخيال، ومجال التطبيق القابل للتحقيق، وكيف يتحول الخيال إلى واقع، وما هو الممكن، وما هو غير الممكن للتحقيق ضمن مستوى معرفي معين، فهذا يقودنا مباشرة إلى مفهوم البنية الطبيعية ومدى معرفتنا بها. فالبنية هي التي تحدد حدود التصرف (الفعل). فنحن نستطيع، مثلاً أن نتخيل إنساناً بعينين في أعلى رأسه، ونستطيع أن نرسمه أيضاً، لكننا إذا درسنا البنية التشريحية، ثم الوظيفية، لرأس الإنسان الفعلي، ووجدنا أن هذه البنية لا تسمح بتحقيق الفكرة، بقيت الفكرة خيالاً.

أما إذا وجدنا أن البنية تسمح، فعندها يمكن تحويل الخيال إلى واقع. لكن هذا يتطلب مستوى معرفياً معيناً لبنية الرأس، وكلما زادت معرفة الإنسان بالبنى الطبيعية، كلما زاد احتمال تحويل الخيال إلى واقع.

5 – الصورة الأخيرة التي يتجلى فيها تحويل الخيال إلى واقع موضوعي هي: تركيب قوانين منفصلة في وحدة متكاملة. فالسيارة مجموعة قوانين منفصلة في الكهرباء الساكنة، ومقاومة المواد، والمعادن، والترموديناميك، والمكننة، ونقل السرعات.

وعليه، فإن المعارف الإنسانية للطبيعة، هي دراسة البنى الطبيعية، وخواص هذه البنى ومركباتها، وعلاقة هذه البنى بعضها ببعض، على أساس هو التقليم (التمييز) عناصره المادة والموقع والبعد والحركة. وهذه الدراسة تبدأ بالكيف، أي بالصغير والكبير، والقليل والكثير، والفوق والتحت، واليمين والشمال، والبطيء والسريع، ثم تتحول إلى دراسة كمية، يعبر عنها بمعادلات كمية (رياضية).

في هذه الحالة فقط يتحول علم الرياضيات، من لزوم منطقي لنتائج عن مقدمات، انطلاقاً من قانون عدم التناقض في البنية الداخلية للقضية الرياضية، إلى لزوم حقيقي بين المقدمات والنتائج في الواقع، وهو ما نسميه بالرياضيات الفيزيائية أو التطبيقية، أي أن علماء الطبيعة هم الذين يحولون اللزوم المنطقي الرياضي إلى لزوم منطقي وواقعي معاً.

وهذا يقودنا إلى التجريبية. أي أن التجربة والمخابر هما أساس العلوم الطبيعية. لأن التجربة أساس التقليم. ففي التجربة يجري عزل عناصر الظاهرة كل على حدة، وتقييم تأثير كل عنصر على حدة، فعندما ندرس النقل الحراري والكهربائي للمعادن، مثلاً، ونقلم العناصر المؤثرة على النقل، ونرى أنها تتألف من نوع المعدن، وطوله ومقطعه، يجري في المخبر عزل كل عنصر على حدة، وتأثيره على الظاهرة، ويستنتج التعبير الكمي عنه، ثم تعمم هذه النتيجة على المعادن. وهنا لا بد من أن ندخل في موضوع الاستقراء في المنطق.

الاستقراء عملية انتقال من الخاص إلى العام، بعكس الاستنتاج الذي يقوم على الانتقال من العام إلى الخاص. والاستقراء ليس الاستنتاج هو أساس العلوم، ولقد سمي القرآن قرآناً، من المقارنة والاستقراء، ومعظم استدلالات القرآن استقرائية وليس استنتاجية، أي أن براهينه تعتمد على الانتقال من الجزء إلى الكل، وهذا الجزء يخضع للتجربة والمشاهدة والبحث العلمي المباشر.

فعندما قدم القرآن الدليل على البعث في قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريبٍ من البعث فإنا خلقناكم من ترابٍ ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم …} الحج 5، إنما أعطى الدلالة على البعث بقانون التطور، وأعطى شاهداً خاصاً من هذا القانون، قانون تحول المواد المعدنية إلى عضوية ثم إلى خلية حية وهكذا .. بحيث تخضع هذه الشواهد للبحث العلمي. ويتولد الاستنتاج الاستقرائي على مرحلتين:

أ – المرحلة الأولى: مرحلة التوالد الموضوعي. وذلك بمشاهدة الظاهرة، وتحليلها إلى عناصرها، وإقامة التجارب عليها وتكرار هذه التجارب (المرحلة الفؤادية).

ب – المرحلة الثانية: مرحلة التوالد الذاتي. وهي مرحلة التعميم التي تحصل في الفكر الإنساني حصراً، وتنتهي بإقامة حكم عام (الفكر والعقل).

لذا، فإن قناعتنا بالبعث، انطلاقاً من قانون التطور وتغير الصيرورة، الذي أعطى القرآن شاهداً عليه في تطور الإنسان من تراب، حتى يصبح جنيناً، كقناعتنا بالقانون العام الذي يقول إن المعادن تتمدد بالحرارة. علماً أننا حين شاهدنا تمدد المعادن بالحرارة، شاهدناه جزئياً، وأجرينا التجارب على المعادن جزئياً. ولم نشاهد معادن الكون كلها تتمدد بالحرارة، ومع ذلك فإن قناعتنا راسخة بهذا القانون. وعليه، فالذي يشكك بالبعث انطلاقاً من قانون التطور وتغير الصيرورة، عليه أن يشكك بكل قوانين العلوم التي استنتجناها من الاستقراء. ولهذا فإننا نستنتج أن موقف الكفر بالبعث واليوم الآخر موقف غير علمي.

أما النوع الآخر من الاستدلال، فهو الاستدلال الاستنتاجي، وهو الانتقال من العام إلى الخاص. أي أن تكون النتائج متضمنة في المقدمات كجزء منها. وقد ورد هذا النوع من الاستدلال في التنزيل الحكيم بقوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض …} الزمر 21 – فأعطانا قانوناً عاماً ننتقل منه إلى الخاص، أي أن كل ينابيع الأرض أساسها من مياه الأمطار، فإذا اخترنا من هذه الينابيع نبه الفيجة مثلاً، فالاستنتاج المؤكد أنه من مياه السماء (أمطار، ثلوج).

وورد في التنزيل الحكيم الاستدلال بنوعيه، الاستقراء والاستنتاج في آية واحدة في قوله تعالى: {أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبدٌ مثله، كذلك يضرب الله الحق والباطل، فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد 17.

في هذه الآية نرى:

1 – الاستدلال الاستنتاجي من الكل إلى الجزء:

مقدمة (1) >>> {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها}.

نتيجة (1) >>> {فاحتمل السيل زبداً رابياً}. وهي بحد ذاتها مقدمة (2)

نتيجة (2) >>> {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله}. وهي بذاتها مقدمة (3).

2 – الاستدلال الاستقرائي من الجزء إلى الكل:

نتيجة من المقدمة (2)، و(3) >>> {كذلك يضرب الله الحق والباطل}.

3 – استدلال استقرائي آخر:

نتيجة من المقدمات (1، 2، 3) >>> {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}.

4 – قانون موضوعي يشكل رباطاً منطقياً للمقدمات والنتائج والاستدلالات: {كذلك يضرب الله الأمثال}.

وهكذا نرى أن تقليم الظواهر الحية وغير الحية، وتمييز بعضها عن بعض، ثم تقليم عناصرها، وإجراء الوصف الكيفي والكمي، واعتماد التجربة المخبرية، والمشاهدة والقياس، وأن فهمنا لهذه العلوم، يقوم على مبدأ التجربة والخطأ والصواب، الذي سمح لنا بفهم بنية الطبيعة أولاً، ومكننا من تحديد ما هو الممكن أن يتحقق من خيالنا، وما هو غير الممكن. وهذا يتبع مستوى المعارف الموجودة لدينا عن الطبيعة. فكلما زاد مستوى المعارف قلنا أن هناك ثورة علمية، وكلما زاد استعمال هذه المعارف في تحقيق الخيال، قلنا أن هناك ثورة تكنولوجية.

عندما عرفنا، مثلاً، قوانين الميكانيك والهيدروليك، ومقاومة المواد ومتانتها، وقوانين دفع الرياح، وقوانين الترموديناميك، استطعنا أن نصنع طائرة. فالطيران كان في الأصل ضمن الملاحظة والذاكرة، أما معرفة هذه القوانين فهي الثورة العلمية، وتطبيق هذه القوانين بالتكبير والتصغير وإعادة التركيب والجمع (أي المناورة في البعد والموقع والمادة والحركة) هو الذي أتاح لنا تحقيق خيال الإنسان بالطيران.

إن بنية الطبيعة وقوانينها، هي التي تحدد بشكل مطلق محدودية الخيال، والكم المعرفي للإنسان عن هذه النتيجة هو الذي يحدد الخيال الإنساني بشكل نسبي. ويبقى الخيال الإنساني عن البنى الطبيعية متقدماً دائماً على الواقع المعرفي، وهذا ما يدفع الإنسان لأن يكون عنده الطموح المستمر لاكتشاف الجديد في البنى الطبيعية لتحقيق خيالاته، وعندما تتحقق خيالاته جزئياً تتولد عنده خيالات جديدة انطلاقاً من المعارف الجديدة، لتعطيه طموحاً جديداً متجدداً في اكتشاف المزيد من البنى الطبيعية واستثمارها.

وهكذا يحصل ما يسمى بالثورات العلمية والتكنولوجية، وهكذا يمكن أن نحقق أمر الله سبحانه بأن تكون أفعالنا مطابقة لأقوالنا، في عالم الوجود المادي الموضوعي. أي أنه لا يمكن أن تكون أفعالنا مطابقة لأقوالنا، إلا بحد أوسط بين القول والفعل، وهو معرفة النبي التي نمارس فيها أفعالنا، ومن خلال معرفة هذه البنى تتحول أقوالنا إلى أفعال. لذا فإن جهل الإنسان بالوجود وقوانينه (كلمات الله وآياته) أمر مقيت جداً عند الله، لأن هذا الجهل أو التجاهل أو الأعراض، استخفاف بكلمات الله وآياته.

ونطرح الآن السؤال التالي: هل يمكن للإنسان أن يركب آلية ما، أو جهازاً ما، يعتمد في بنيته الأساسية على المنطق والرياضيات متجاوزاً الإدراك المشخص بالحواس، أي متجاوزاً الحواس الخمس، ومعتمداً على الفكر والعقل والعلاقات المجردة؟ الجواب نعم. لقد استطاع الإنسان أن يصنع هذا الجهاز، وهو ما يسمى بالكمبيوتر أو الحاسوب الإلكتروني. فآلية عمل الكمبيوتر هي المنطق والرياضيات والنتائج المنطقية، لذا فهو يعتمد على الكم الرياضي (1) وعلى اللغة (2)، فنقول لغة الكمبيوتر ولا نقول لغة المحرك البخاري أو لغة الطائرة.

الأمر المهم هو: هل يستطيع الإنسان أن يعطي للكمبيوتر إدراكاً مشخصاً، أي حواساً يستطيع بها إدراك العالم الخارجي المشخص؟ هذا – برأينا – غير ممكن، أو صعب التحقيق ضمن مستوى معارفنا الحالي. لأن الكمبيوتر لا يملك فؤاداً إنسانياً يطابق بين الشيء المشخص واسمه، ويزيل التناقض في هل يفيد هذا الاسم ذلك الشيء أو لا يفيده. والكمبيوتر قائم على عدم التناقض في بنيته الداخلية، لذا فهو غير قادر على حل المسائل المنطقية ضمن بنيته، وخلال لغته، بغض النظر عن كونها حقيقية أو وهمية، صادقة أو كاذبة.

فالحقيقي والوهمي عند الكمبيوتر سيان، والمهم عنده أن المقدمات والنتائج مرتبطة ببعضها ضمن لغته. أما ما هي الصلة بينه وبين العالم الخارجي المحيط به، فصلة مقطوعة تماماً، لا تتوفر إلا عند الإنسان فقط. أي أنه لا يمكن قطعاً صناعة كمبيوتر قابل للعمل، خالٍ من المعلومات، نضع له كاميرات (عيون) ولاقط صوت (أذن) وأجهزة أخرى تقوم مقام الحواس، بحيث تنقل معلومات عن العالم الخارجي غير مخزنة مسبقاً عنده، ليخزنها، ويعطيها تعريفاً، ويتعامل معها كمعطيات التقطها، كما يتعامل الإنسان، ثم يحلل ويركب وتنشأ لديه طموحات.

هنا نلاحظ عظمة رب العالمين، عندما أكّد على السمع والبصر والفؤاد (الإدراك المشخص) ومطابقة الاسم والمسمى وتعريفه، وأنها من صميم خلقه سبحانه، وأنها ماركة مسجلة له، غير قابلة للإعادة. لهذا قال بعد تكامل الجنين في رحم الأم {.. ثم أنشأناه خلقاً آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين} المؤمنون 14. ونفهم من هذا أن كل إنسان خلقه الله ماركة مسجلة لوحده، فلا يوجد إنسانان متماثلان تماماً، ولكن كل الحواسيب الإلكترونية مثلاً متماثلة تماماً في ماركاتها (شارب موديل 1980 مثلاً) ولو كانت كل إمكانيات الناس متماثلة تماماً كالكمبيوتر لما قال الله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها..} البقرة 286.

هنا نلاحظ كيف قلّد الإنسان التفكير المجرد عن الحواس بالحاسوب الإلكتروني، فأحدث بهذا الاختراع ثورة كبرى في العالم اسمها ثورة المعلوماتية، والكنه إلى الآن لم يستطيع أن يقلد مقدمات التفكير الإنساني أو المحرض الإلهي، وهو الفؤاد الإنساني (الإدراك المشخص بالحواس) وإزالة التناقض بين الشيء في ذاته واسمه في ذاكرته.

ختاماً لدراسة بنى الطبيعة (الآفاق) نقول، إن الأخطاء في هذا الحقل لا ينتج عنها كوارث، لأننا نتعامل في هذه الحالة مع (عناصر كيميائية، أحجار، معادن، حرارة، أحياء غير قابلة)، أي أن الأخطاء المنهجية في هذا المجال، تكلف الإنسان مالاً ووقتاً، لكنها لا تؤدي إلى كوارث اجتماعية وسياسية. فعندما حاول الإنسان مثلاً، تحويل المعادن البخسة إلى ذهب، أضاع وقته وماله، لكنه لم يتسبب بكوارث اجتماعية وسياسية نتيجة هذا الخطأ في المنهج، الذي تولد عن إسقاط الفكر على الواقع (الخيال على الواقع) دون أي دراسة لبنى هذا الواقع، فوقع في هذا الوهم. وهو خطأ منهجي بحت، حصل في تحويل القول إلى فعل دون معرفة الوسيط الذي هو البنى القابلة لأن يتحقق فيها هذا الفعل.

ونحن نرى أن مفهوم الثورة في ميدان العلم والتكنولوجيا، هو دراسة البنى، وتطبيق الممكن فعله من الخيال من خلال العلم بهذه البنى. ولا أعني بالثورة هنا العنف، إنما مجرد معرفة الوجود والاستفادة من هذه المعرفة بتحقيق الخيال الإنساني من خلالها، ليتطابق بذلك القول والفعل. فكلما زادت معرفتنا بالبنى الطبيعية، زاد تحول أقوالنا إلى أفعال، وكانت هذه الطبيعة مطواعة ومسخرة لنا. أي يجب أن يرافق التقدم العلمي تقدم تقاني، وأن ينتج عن تراكم التقدم العلمي ثورة تقانية بالضرورة، فالتكنولوجيا هي أيديولوجيا العلم، أي أنها هي التي تحول العلم إلى أطر عملية.

وهكذا نفهم قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فصلت 53. أي كلما زادت معرفتنا بالوجود (الآفاق) وتحولت هذه المعرفة إلى أفعال، تصبح الآفاق امتداداً للأنفس، فالإنسان الذي يملك المعرفة وأطرها (التكنولوجيا) إنسان ضخم عملاق، والذي لا يملكها قزم، والإنسان الذي يعيش في القرن العشرين بمستوى معارف وأطر القرن الأول أو الثاني، إنسان صغير مهزوم متخلف.

والسؤال الأخير الكبير الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا كعرب ومسلمين هو: أين موقعنا من هذه الآية؟ هل نحن تحت مقت الله أم رضاه؟ ولن يعفينا إيماننا من المقت، لأن المؤمن قد يكون مؤمناً وممقوتاً. فقد وجه سبحانه الخطاب أصلاً إلى المؤمنين فقال: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} الصف 2و3.

لقد تحدثنا عن الحالة الأولى التي يتعامل فيها الإنسان لتحقيق طموحاته مع الطبيعة، واستثمار هذه المعرفة لإخضاع الطبيعة لإرادته بالثورة التقانية التي تعطيه أبعاداً إضافية في نشاطه المستمر، باعتبار أن التكنولوجيا هي امتداد للإنسان نفسه. فالمجهر امتداد للعين، والسماعة امتداد للأذن، والمكبر امتداد للصوت، والسيارة امتداد للأرجل، والكمبيوتر امتداد للذاكرة، أي أن التكنولوجيا أعطت إنساناً عملاقاً، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وبكل ما تحمل من انعكاسات حياتية أيديولوجية في ميدان الثقافة والأدب والسلوك اليومي، لكل إنسان على حده، وللمجموعات الإنسانية، بشكل قاربت فيه بين الثقافات المحلية القومية والقبلية والعشائرية، وفتحت طريقاً لخلق ثقافة عالمية طابع الشمول، مع الحفاظ على الخصائص المحلية لكل ثقافة على حده.

وهنا تظهر جدلية الكل والجزء (الخاص والعام) في الثقافات، فالغزو التكنولوجي بحد ذاته غزو ثقافي، شئنا ذلك أم أبينا. لقد أثّرت السيارة والطيارة والكمبيوتر والصاروخ والبراد والمكيف والفرن الكهربائي والكهرباء والتلفون والتلفزيون والراديو والفيديو على حياتنا اليومية، وطريقة سلوكنا، وردود أفعالنا، حتى أثّرت في مفهومنا على الحسن والقبيح، والمؤذي والمفيد، وأثرت على أعرافنا وعاداتنا وطريقة التعبير عنها. وهذا الأمر لا مناص منه، علينا تقبله، مع الحفاظ على خصوصياتنا القومية، وأمميتنا الإنسانية القائمة على المثل العليا الإسلامية، المتمثلة في الفرقان، من حيث أن الفرقان أخلاق عالمية لا تحمل الطابع القومي أو المحلي، أما ما عدا ذلك فعلينا أن نُدخل الحداثة ونقبل المعاصرة كقانون لا مناص منه.

فالعار أننا مستهلكون للعلم والتكنولوجيا وغير منتجين لها. إن العرب والمسلمين يعيشون اليوم على هامش الحضارة، ويعيشون حتى في بلدانهم على هامش أحداثهم الخاصة، فمنهم من تقوقع تحت شعار المحافظة على التراث، ويريد من الزمان أن يعود إلى الوراء، ولكن هيهات أن يحصل له ذلك. وفي هذه الحالة من الانغلاق لا بد من الصدام بين الجديد والقديم. والمشكلة الكبرى، التي نعيشها الآن نحن العرب والمسلمين، هي في المحافظة على اعتماد طرق استنباط المعرفة، التي تم وضعها وتوظيفها في القرنين الثاني والثالث الهجريين، على أنها المصدر الوحيد للمعرفة في فهم علوم القرآن والفقه.

علماً أن طرق استنباط المعرفة، ومناهج البحث العلمي، واعتماد الاستقراء في المعرفة التي توصلنا إليها في القرن العشرين، ملك الإنسانية جمعاء، لا محل فيها للطابع الإيماني أو الإلحادي، أو الطابع القومي أو الشعوبي، ولكن المشكلة هي في توظيف هذه الطرق في خدمة هدف معين، فإذا استثمرها المستعمرون في استعمارنا، فليس ثمة ما يمنع أن نستثمرها نحن في الدفاع عن استقلالنا. إن القطيعة المعرفية للمسلمين مع أدوات استنباط المعرفة، التي تم ترسيخها ابتداء من عصر التدوين وانتهاء بالغزالي وابن عربي، هي التي تحتاج إلى إعادة نظر من جديد، وبدون ذلك لا أمل لنا في الخروج من القوقعة التي نحن فيها. إننا نخدع أنفسنا في المحافظة على هذه الطرق تحت اسم التراث ونزداد جهالة، ومثلنا كالسجين الذي سجن نفسه بنفسه، دخل السجن وأغلق على نفسه الباب من الداخل.

لقد حاولت كسر هذا القفل الداخلي، واستثمار استنباط المعرفة المعاصرة في فهم الإسلام بشقيه النبوة والرسالة، لصياغة نظرية معاصرة في المعرفة الإنسانية، مستنبطة حصراً من التنزيل الحكيم، وكان من المستحيل أن تصاغ هذه النظرية في عصر التدوين، لاختلاف طرق استنباط المعرفة في ذلك الوقت، فالإنسان يبقى أسير ثقافته المكتسبة خلال حياته من البيت والشارع والمدينة. هكذا علّمنا القرآن، بأن الإنسان يولد كالصفحة البيضاء بدون معلومات، وكل شيء عنده مكتسب {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون} النحل 78.

فالإنسان وجود فيزيولوجي، مضاف إليه كم معرفي، فكلما زاد هذا الكم المعرفي زادت إنسانية الإنسان، وزاد بعده عن المملكة الحيوانية. فكيف يمكن للسلف أن يفهم مثلاً أن قوانين الطبيعة وظواهرها عبارة عن حقول، وأن في الطبيعة لا يوجد مستقيمات، وإنما كلها منحنيات، وأن نهاية المنحنيات حدودها. لقد فهموا حدود الله على أنها وقوف على النص، وأنه ضمن حدود الله، وفهمنا نحن أن النشاط والاجتهاد الإنساني غير محدود، فهو يغطي مليارات الاحتمالات دون أن يعيق قانون التطور شعرة واحدة.

لذا فقد جاءت الحدود في أم الكتاب والصفة الحنيفية متطابقة تماماً مع قانون التطور وتغير الصيرورة، كعمود فقري للعقيدة الإسلامية، يكمن فيه توحيد الربوبية والألوهية، حيث كل شيء متغير، يخضع لتغير الصيرورة، ما عدا الله {كل شيء هالك إلا وجهه}. إن تغير الصيرورة هو القانون الوحيد الثابت في هذا الكون، حتى معاني الألفاظ تخضع للتغيير، فالمجتمع هو الذي يصنع المعاني، ولولا ذلك لأصبح التنزيل الموحى إلى محمد (ص) صالحاً للقرن السابع حصراً، حتى ولو كان من عند الله. فلا يمكن لنا أن نفهم الرسالة والنبوة، إلا إذا فهمنا القاعدة العامة التي لا تخرج منها كل لغات أهل الأرض ومجتمعاتها قاطبة، وهي (أن السامع يشارك المتكلم في صنع المعنى) وأن المتكلم حين يوجه الكلام للسامع، فهو لا يقصد إبلاغه معاني الكلمات المفردة، وإنما الدلالات المستنتجة من نظم الكلام.

فإذا وردت في كلامه مصطلحات جديدة على السامع، عرّفها في السياق، كتعريف أم الكتاب في التنزيل الحكيم. فالمتكلم هو الله في القرن السابع، والسامع هو أهل القرن السابع بأرضيتهم وثقافتهم، والآن، المتكلم هو الله نفسه، والسامع هو أهل القرن العشرين بأرضيتهم وثقافتهم، لذا فإن استنباط معاني التنزيل الموحى إلى محمد (ص) من اختصاصهم حصراً، لا من اختصاص أهل القرن السابع، والصلة الوحيدة التي تربطنا بأولئك السامعين هي التوحيد في أبسط صوره، والعبادات كرموز العلاقة الفردية الإنسانية بالمطلق (الله). وعليه، فليس للعبادات علاقة بسلطة الدولة وتطور المجتمع.

من هذا المنطلق، نبحث الحالة الثانية من نظرية القول والفعل في العلوم الإنسانية، من حيث أن المجتمعات الإنسانية – أي الإنسان الذي كرّمه الله – هو مجال تطبيق هذه العلوم، وهو المادة الخام لها. لذا فقد لزم أن توجد نقاط مشتركة ونقاط مختلفة في منهج التعامل الإنساني مع العلوم الكونية بكل فروعها، إذ الإنسان في الحالة الأولى يتعامل مع مادة غير حية، أو حية غير عاقلة، مسخرة له لدراستها والتصرف بها بشكل عقلاني دون إفراد أو تفريط.

إن علاقة التأثير والتأثر المتبادل في الثورات العلمية والتكنولوجية بعادات الإنسان وسلوكه وثقافته بشكل عام، أمر لا مناص منه، يحمل وجهين مختلفين: الأول، تأثير هذه الاكتشافات العلمية وما يتبعها من تكنولوجيا على الناس المستعملة لها، وهذا الوجه من التأثير طبيعي لا يولد أية صدمة. إلا أن تأثيره الأيديولوجي كبير جداً، ابتداء من الاستعمار والشوفينية القومية واضطهاد الشعوب المتخلفة، مروراً بالرأسمالية الاحتكارية، وانتهاء بظهور المجتمع التكنوقراطي. والثاني، تأثير هذه الاكتشافات العلمية على المجموعات الإنسانية المتخلفة أي التي لم تشارك في صنع هذا التقدم، بأشكاله الثلاثة:

– تقوية عقدة الدونية والاضطهاد.

– تبني الثقافة الوافدة بهدف التقليد الأعمى.

– التفاعل المبدع بتبني النظم المعرفية المنتجة للثقافات، وليس الثقافات نفسها.

ننتقل الآن إلى تحويل القول إلى فعل، في مجال علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد، أي في مجال المجتمعات الإنسانية التي نعبر عنها بما يسمى الدولة والمجتمع. فالدولة هي البنية الفوقية لبنية تحتية هي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وهي التي تمثل قمة الوعي الإنساني السياسي في مرحلة من المراحل.

قلنا أن منهج البحث العلمي في عالم الطبيعة هو التقليم، أي تمييز الظواهر الطبيعية بعضها عن بعضن ثم تقليم العناصر المكونة لكل ظاهرة كيفياً ثم كمياً. في هذه الحالة يعتبر المختبر، والتجربة في اكتساب المعارف، والاستقراء في تعميم المكتسب من المعارف، من الجزئي إلى الكلي، هو المنهج الملائم. ولكن ماذا يقابل هذا المنهج في العلوم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث الإنسان مادة هذه العلوم وليس الطبيعة؟ وهل يمكن إقامة مخبر مادته الخام الإنسان الواعي نفسه؟ يتم تمييزه عن مخابر التشريح التي تدرس الجسم البشري، وتتعامل مع القردة والأرانب، وجثث الموتى والفئران، على عكس العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تتعامل مع الإنسان ككائن عاقل حي واع؟ فأين المنهج هنا، وأين المخبر في هذه الحالة؟

أما المنهج فهو، من حيث المبدأ، واحد في الحالتين، لأنه موضوعي في العلوم الكونية والإنسانية، أي أن المعرفة هي إدراك العالم الموضوعي على ما هو عليه، بغض النظر عن كونه عاقلاً أم غير عاقل. وبما أن مجال بحثها هو الوجود والسلوك الإنساني الفردي والاجتماعي، فإن المنهج من حيث المبدأ الموضوعي واحد، لكنه يزداد تعقيداً، ذلك لأن الإنسان كائن فردي واجتماعي بآن واحد، أي أن هناك القانون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للمجموعة، وهناك شخصية كل إنسان على حده (خصوصية الفرد الإنساني} (الماركة المسجلة الربانية للفرد). أي أن هناك علاقة جدلية معقدة بين الكل والأنا، فالمجتمع الإنساني ليس مجموعة أعداد، كقطيع الغنم مثلاً.

ففي العلوم الإنسانية هناك قانون كلي عام، ينطبق على المجتمع ككل، الحتمية فيه تمثل اليقين، وهناك قانون فردي لكل فرد، اليقين فيه يتمثل في الاحتمال، أي أن قوانين الكليات فيها حتمية يقينية، وأن الجزئيات تخضع لقوانين الاحتمال، واليقين يتمثل في الاحتمال. ولهذا قلنا إن علم الله يقيني واحتمالي معاً. فهو كلية الاحتمالات قاطبة، بحيث يصبح مجموعها الواحد، فيحمل صفة اليقين.

وأضرب على ذلك المثال التالي: نحن نعرف أن أرزاق الناس ككل، تأتي من قانونين اثنين: خيرات الطبيعة – عمل الإنسان الواعي. وهذان القانونان يحملان صفة الحتمية يقيناً، ولهذا ذكرهما الله سبحانه في التنزيل صراحة كقوانين حتمية صارمة كلية.

أما إذا عرفنا سلفاً، دخل ورزق كل فرد في الأرض على حده، منذ أن يولد وحتى يموت، معرفة يقينية على طريقة “العمر محتوم والرزق مقسوم” فهذا يلغي كل التشريعات الاقتصادية وصندوق النقد الدولي والمؤسسات التنموية الاقتصادية على المستوى العالمي، كما يلغي على الصعيد المحلي وزارة التخطيط ووزارة الزراعة والمالية والاقتصاد، ويلغي من الناحية الاجتماعية كل مؤسسات التكافل والجمعيات الخيرية، ويصبح البر الاجتماعي ضرباً من العبث، إن عرفنا يقيناً حتمياً من سيغنى ومن سيفقر، ومن سيصاب بكوارث زراعية وطبيعية كأمر لا مناص منه، ولا يسعنا أن نفعل شيئاً تجاهه. فأين العلوم في هذا المجال؟

نحن نقول: كلها احتمالية !! لقد وضع سبحانه قوانين صارمة حتمية تنطبق على كل الناس، (الكليات) ووضع قوانين احتمالية بالنسبة للأفراد كل على حده (الجزئيات) فقال: {.. والله يرزق من يشاء بغير حساب} البقرة 212. وقال: {وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو، وإن يردك بخيرٍ فلا رادّ لفضله} يونس 107. ولهذا فنحن نرى أن الله لم يكتب الغنى على زيد منذ الأزل، والفقر على عمرو منذ الأزل، وإنما كتب الغنى والفقر على العموم لا على الخصوص. وهناك ملايين الاحتمالات بأن تكون مجموعة ما من الجزئيات غنية، ومجموعة ما من الجزئيات فقيرة.

كل هذا يخضع لقوانين الجزئيات التي قال أنها في {إمام مبين}. في هذه الحالة يصبح للمؤسسات معنى، وللزكاة والصدقات معنى، إذ لو كانت هذه هي إرادة الله الأزلية لا الظرفية، لأصبحت الزكاة والصدقات ضرباً من العبث والظلم، ولتساوى في الرزق المحسن والمسيء مهما فعلا، والنشيط والكسول مهما عملا، تعالى الله العدل عن ذلك علواً كبيراً.

وهذا ما نراه في علوم الرياح والغيوم والأمطار، فحين نعرف سلفاً وبشكل حتمي يقيني مسيرة كل غيمة ومسار كل قطرة مطر، لا يبقى أي مبرر لعلم الأرصاد الجوية. ونراه في عالم الذرة، فالمدار الذي يسلكه الإلكترون حول النواة، مدار احتمالي، أما مدار الأرض حول الشمس، فمدار حتمي. فالاحتمال في مدار الإلكترون حول النواة هو اليقين، والحتمية في مدار الأرض حول الشمس هي اليقين.

فإذا طبقنا هذا المنهج على العلوم الإنسانية، ينتج لدينا منهجان أساسيان هما:

1 – القوانين الحتمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تطبق على المجتمع ككل.

2 – القوانين الاحتمالية التي تطبق على نشاط الأفراد في المجتمع كل على حده.

وبما أن العلوم الإنسانية لا تحتمل الاختبار، أي لا يمكن أن يكون الإنسان مادة اختبار (كالفأر)، فما هو النمط الذي يمكن أن نطبقه على الإنسان بديلاً للمخبر في العلوم الكونية، وما هو بديل التلسكوب والمنظار والمجهر والمرصد والمفاعل النووي في العلوم الإنسانية، حتى نقول أننا نتبع أسلوباً علمياً؟

نحن لا نستطيع أن نطبق مبدأ الاستقراء على العلوم الإنسانية، كما هو مطبق على العلوم الكونية. فإذا قلنا، مثلاً، أن الحديد يتمدد بالحرارة، انطلاقاً من تعميم الخاص إلى العام، بتجربة عدة قضبان من الحديد، فلا يمكن أبداً أن نستعمل نفس المقياس على الإنسان. لأننا إذا سألنا ألف شخص من سكان دمشق: هل تؤيدون زيداً؟ وجاء الجواب بالإيجاب، فلا يمكننا القول بأن كل أهل دمشق يؤيدون زيداً.

فهذه النتيجة لا نصل إليها يقيناً إلا إذا كان الاستقراء استغراقياً، أي أن نسأل كل أهل دمشق، ويأتي الجواب منهم كلهم بالإيجاب. في هذه الحالة يصبح الاستقراء والاستنتاج سيان، أي نستطيع أن نقول: كل أهل دمشق يؤيد زيداً، فالربع إذا يؤيده!! إلا أن حتى هذا الاستغراق لا يمكن الاعتماد عليه بشكل مطلق دائم، لأننا إذا سألنا أهل دمشق السؤال نفسه بعد سنة مثلاً، فقد تأتي النتيجة مغايرة للنتيجة الأولى.

هذه المشكلة لا تحل إلا إذا سلمّنا بوجود جدل خاص بالإنسان، إضافة إلى جدل الطبيعة، فكل قوانين جدل الأشياء تنطبق على الإنسان، إنما يضاف إليها جدل الفكر الإنساني وجدل النفس الإنسانية، اللذان يحتويان أيضاً على الجدل التلازمي بالمتناقضات – والجدل التقابلي بالأزواج – والجدل التعاقبي بالأضداد.

فهناك قوانين حتمية تنطبق على المجتمعات الإنسانية، وتتبع جدل الإنسان هي: القانون الأول: الثنائية التلازمية بصراع المتناقضات، أي (هو وليس هو). هذا القانون يعمل ضمن المجتمع الإنساني، فيؤدي إلى تطوره وتغير صيرورته، مما يؤدي إلى هلاك كل شكل اجتماعي في بنية المجتمع، وفي العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. هذا القانون يعبر عن ذاته في الأضداد، فالغني لا يبقى غنياً إلى أن تقوم الساعة، والفقير لا يبقى فقيراً إلى أن تقوم الساعة، وكذلك القوي والضعيف، والمستعمِر والمستعمَر، والمضطهِد والمضطهَد.

هذا القانون يعمل بدون توقف ويفرز الأضداد بشكل مستمر، والإنسان يعمل على إبطائه أو تسريعه، لكنه لا يلغيه. هذا القانون يفرز ظواهر يومية تتجلى في الأضداد، لذا، فلا يمكن أبداً أن نقول بوجود تناقضات ثابتة، ولكن نقول بوجود قانون للتناقض سائد ما دام هذا الكون قائماً (التسبيح). كما يفرز هذا القانون في كل لحظة تناقضات جديدة بحاجة إلى حل، فكما أن الفكر الإنساني قائم على عدم التناقض، فنشاط المجتمعات الإنسانية يقوم على فرز التناقضات وحلها. فالحياة تفرز في كل يوم تناقضات في الإنتاج، وفي العلاقة الإنتاجية بالعلوم وبالمجتمع، وتناقضات في علاقة الأجيال بعضها ببعض، يقوم المجتمع بكشفها وحلها، تماماً كما يقوم الفؤاد الإنساني بإزالة التناقض، وكما يقوم الفكر الإنساني على عدم التناقض.

هنا يكمن المبدأ الذي يسيطر على المجتمعات الإنسانية، ويؤدي إلى تطورها. وهذا هو القانون الحتمي للمجتمعات، ومن هنا نفهم أن مهمة الدولة، بكل مؤسساتها، حل التناقضات التي تفرزها الحياة، وهو عمل يومي لا ينتهي، لا بمشروع الخمس سنوات، ولا بمشروع مئة عام. هو عمل مستمر إلى أن تقوم الساعة، كما نفهم أن الدولة والمؤسسات لا تزول، لكنها تتطور من شكل إلى آخر، ولا تزول إلا بنهاية التاريخ.

القانون الثاني: الثنائية التقابلية بقانون الزوجية، وهو ما سميناه بالتكيف. وهو علاقة غير تناقضية بين شيئين في مستوى التأثير. فإذا أخذنا، كمثال، علاقة الإنسان بالبيئة المحيطة به، في علاقة زوجية تؤثر على الإنسان، ويؤثر هو بدوره عليها في مستوى ما معقد جداً، نجد أن مهمة العلوم هي إيجاد هذا المستوى وتحديده كيفاً وكماً. وهناك مثلاً أطروحة الوحدة والحرية، والحرية والاشتراكية، فهذه كلها ظواهر لها وجوه تقابلها (الحرية – الاضطهاد} (الوحدة – التجزئة} (الاشتراكية – الرأسمالية).

وإذا قلنا أن هناك علاقة جدلية بين الوحدة والحرية والاشتراكية، أو بين التجزئة والاضطهاد والرأسمالية، غير ضدية وغير تناقضية، فلا يمكن أن نقول أن الوحدة تعيق الحرية أو هي ضدها، ولا يمكن أن نقول إن الحرية تعيق الاشتراكية، أو أن الاشتراكية ضد الحرية. وفي هذه الحالة نطبق القانون الثاني للجدل، فنقول بعلاقة التأثير والتأثر المتبادل بين الحرية والوحدة، وبين الوحدة والعدالة الاجتماعية، ضمن مستويات تأثير وتأثر معقدة في السياسة والاجتماع والاقتصاد.

وتحديد هذه العناصر الثلاثة يؤلف علاقة جدلية غير تناقضية وغير ضدية. وكذلك علاقة المجتمعات بعضها ببعض، فهي علاقة زوجية تؤدي إلى التكيف، وهذا ما يسمى بالعلاقات الدولية، التي تقوم على السلام والتعاون المتبادل أو الحرب. فطبقاً لهذا المبدأ، هناك سببان أساسيان للحروب:

1 – تراكم التناقضات الداخلية، بحيث تلجأ السلطة إلى قمع هذه التناقضات بتحويلها إلى علاقة تأثير وتأثر متبادل عدائي بينها وبين مجتمعات دول مجاورة أو بعيدة، مما يتيح لها المجال لقمع أي تناقض داخلي، بحيث إذا الغي هذا العداء تنفجر التناقضات الداخلية. وهذا ما نراه جلياً في وقتنا الحاضر، حيث تزكى العدوات بين الدول لقمع التناقضات الداخلية في هذه الدول، أو حين تنشأ أحياناً عداوات مفتعلة لا مبرر لها.

2 – تراكم المعارف والتكنولوجيا، مما يؤدي بالقوي إلى استعمار الضعيف (وهذا ما رأيناه في القرنين الماضيين، ونراه حالياً في نهاية هذا القرن).

أما الأضداد ووحدتها فتتجلى في الظواهر، وبشكل واضح في الغنى والفقر، والحرية والاضطهاد، وغير ذلك. ونأتي إلى الجواب عن سؤال: ما هو بديل المختبر والأجهزة العلمية، وما هو بديل الاستقراء في المنهج العلمي وفي العلوم الكونية، الذي يجب أ، يتبع في العلوم الإنسانية، حتى نقول أننا في مجتمع يقوم على العلم ..

هذا البديل هو: الحرية والديمقراطية.

(1) “الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة”، د. محمد شحرور، دار الأهالي، 1990، ص (252 وما بعدها).

(2) انظر الفصلين الثاني والثالث من هذا الكتاب.

(3) نستثني من هاتين الحالتين اللغة والرياضيات، لاعتمادهما على المنطق حصراً. فالمنطق هو شباب الرياضيات، والرياضيات هي كهولة المنطق، واللغة هي حامل الفكر، ابتداء من الإدراك الفؤادي حتى أعلى أنواع الخيال. وكذلك الرياضيات تعتمد على العلاقات المنطقية الصارمة واللزوم المنطقي بين المقدمات والنتائج، بغض النظر عن صدق القضية أو كذبها، أي بغض النظر عن كون القضية حقيقية أم وهمية، رحمانية أم شيطانية، فالقضية المنطقية تحتمل الحقيقة والوهم، الصدق والكذب، على حدٍ سواء وقد أورد التنزيل الحكيم مثالاً حياً على قضية منطقية كاذبة، في قصة يوسف وأخواته، ذات مقدمات ونتائج منطقية لكنها كاذبة.

اترك تعليقاً