هل ستبقى ثقافة 11 أيلول مستمرة؟

هل ستبقى ثقافة 11 أيلول مستمرة؟

مرت منذ أيام ذكرى أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، أو ما سماها مرتكبوها “غزوة نيويورك”، وبعد أربعة عشر عاماً مازال البعض ممن تستهويه نظرية المؤامرة ينكر علاقة المسلمين بها، فتارة تنسب للموساد، أو للأمريكيين أنفسهم تارة أخرى، رغم اعتراف المنفذين وافتخارهم بما قاموا به من قتل لأبرياء.
وقد شكلت أحداث 11 سبتمبر نقلة نوعية في تعامل الغرب مع المسلمين، وأصبح شعار “الحرب على الإرهاب” الأكثر رواجاً ضمن أروقة السياسة والإعلام والمصالح الدولية، وبات الإسلام المتهم الأكثر احتمالاً لكل أعمال العنف في العالم، إن لم يكن المتهم الوحيد. وأعطى ظهور داعش دفعاً مضاعفاً لهذا الاتهام، وغدا التطرف الإسلامي هو العميل الذي يمكن خلقه بسهولة في أي مكان واستدراج الحرب عليه، وللأسف ينشغل العالم عن مئات الآلاف الذين قتلوا في سورية بيد الاستبداد، ليكرس جهوده ضد داعش، متناسياً العامل الأقوى في ظهوره وتهيئة الأرض الخصبة له، ساعياً وراء مصالحه فقط.
وهنا لست بصدد التحليلات السياسية والتأويلات، إنما من أكثر ما يلفت انتباهي هو تبرؤ “المسلمين” من أفعال القاعدة وداعش، سواءً من أحداث أيلول إلى تفجير سيارات أو سفارات أو غيرها، إلى ما يرتكب اليوم في سورية من قتل وذبح وسبي وتدمير آثار، فمجاملة المِلل الأخرى لنا بنفي الاتهامات عن الإسلام ككل، يجب ألا تثنينا عن مواجهة الواقع، فأدبياتنا ومناهجنا وكتبنا تحفل بكل ما يقدم الحجج والبراهين لأي مدافع عن داعش وغيرها، وكون غالبية المسلمين المؤمنين بالرسالة المحمدية لا يرضون عن هذه الأفعال، فهذا لا ينفي أن الثقافة الإسلامية الموروثة ترضى، لا بل تبارك، حيث داعش اليوم هي الحكام أنفسهم أمس، بعد أن أضحى الحديث النبوي هو المرجعية الأساسية في هذه الثقافة التي تأمرك بطاعة الحاكم حتى لو جلد ظهرك، طالما أنه لم يمنعك من الصلاة، وهو ما أوصل اولئك إلى مقام الحاكم الإله، وهي الثقافة ذاتها التي لم تتنازل وتبحث كيف وضع التنزيل الحكيم حرية الإنسان كقيمة عليا.
وإن كان كلامي في نقد الفكر الموروث أصبح مكرراً، إلا أن ما نحن عليه يدعونا لنفض الغبار عن عقولنا، وإن كان العالم معني بمحاربة الإرهاب، فنحن معنيون بتجفيف منابعه الموجودة لدينا، لما تحمله من ضرر من جهة، ولمعرفة الإسلام الحقيقي من جهة أخرى؛ الإسلام برسالته الخاتمية العالمية التي أتت رحمة لا ظلماً وتنكيلاً، فنحن وقفنا عند ما قدمه الشافعي وأبو حنيفة وجعفر الصادق وقدسناه، وجعلنا تفسيراتهم منارة لنا، و لم نكلف أنفسنا عناء التدبر في كتاب الله، واقتنعنا جيلاً بعد آخر أن كتاب الله يفهم كما فسره ابن كثير أو الطبري أو الطبرسي، وعلينا تلاوته وحفظه كما هو، وفي أفضل الأحوال كما فسروه.
فإذا تدبرنا هذا الكتاب نجد أن الله تعالى فرّق فيه بين:
1 رسالة على المسلمين المؤمنين اتباع ما جاء فيها، على مر العصور إلى أن تقوم الساعة، كقوله {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الأنعام 151)
2 وقرآن فيه الآيات المتشابهات من كونيات وأرشيف التاريخ وضمنه نبوة محمد {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يس 12)، فكل الأحداث التي جرت في عصر النبوة وأتت تعليماتها للنبي، كانت بالنسبة لعصره تعليمات، لكنها بالنسبة لنا تاريخ، وثمة من يأخذ على كتاب الله ما جاء فيه من آيات القتال ويجعله مرجعاً للعنف، وثمة طرف آخر يجعله فعلاً مرجعاً للعنف متناسياً أن هذه الآيات هي قصص تاريخي لها سياقها، كمعظم آيات سورة التوبة مثلاً {فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ} (التوبة 83)، أي تتحدث عن معركة معينة لها ظروفها ووضعها، ولا يمكن تقليدها اليوم في هذا العصر، كقصص نوح وإبراهيم ويوسف وموسى، فما ورد في سورة التوبة هو أوامر إلهية وليس تشريعاً إلهياً، كأمر الله تعالى لموسى بضرب البحر بعصاه، وتطبيق ما ورد في القصص المحمدي وخاصة سورة التوبة اليوم هو تماماً كمحاولة اليهود شق البحر الأبيض المتوسط بعصا تشبه عصا موسى، فهل سيفلحون؟
من جهة أخرى، وباعتبار أن الشافعي قرر كون النبي (ص) هو صاحب الوحيين، اعتبرنا نحن ذلك أيضاً، وحملنا رسولنا ما لا يحتمل، وتجاهلنا قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف 110)، وأصبحت كل أقوال الرسول وأفعاله وحياً موحى، وبالتالي يكفي نسب حديث ما للبخاري أو مسلم لنعتمده حتى لو جاء بما يخالف التنزيل الحكيم، مستندين إلى قوله تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم 3-4) مع أن هاتين الآيتين تشيران إلى نطق الرسول لآيات التنزيل، فنحن نتلو آيات الكتاب ونقول “قال تعالى” لا “قال الرسول”، أي لا يصح القول: “قال الرسول: قل هو الله أحد”، لكن أطروحة الترادف في التنزيل الحكيم جعلت قال تعني نطقَ، وعندما نقول اليوم (ولله المثل الأعلى): ” قال الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية” فهذا يعني أن ما نطقه هو قول الوزارة وليس قوله الشخصي، أما أقواله في حياته اليومية وعمله فلا تمثل الوزارة، وعليه نستطيع فهم كيف عاتب الله تعالى نبيه عدة مرات:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التحريم 1)
{عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَن جَاءهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (عبس 1- 2- 3)
فالتنزيل الحكيم فرق بين مقامات ثلاث لمحمد صلى الله عليه وسلم:
الأول: هو محمد الرسول مهمته إبلاغ الرسالة وبيانها أي الإعلان عنها {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (الشورى 48) وكان معصوماً من هذا المقام فقط، بحيث نطق الذكر الحكيم كما ورده تماماً
والثاني: هو محمد النبي الذي أتى بغيبيات، يظهر تفسيرها عبر الأزمان وبعضها لا يعلم تأويله إلا الله، وأوتي الحكم من هذا المقام {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنفال 70) فبنى سلطة وقضاء وجيش ونظم المجتمع من خلال اجتهاداته، ووفق الظروف الموضوعية لأهل عصره، وخاطبهم وفق مدركاتهم المعرفية وظروفهم البيئية
أما المقام الثالث: فهو محمد الرجل الذي يأكل ويشرب ويحب طعاماً ويكره آخر ويتزوج ويعيش حياة طبيعية كغيره {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} (الفرقان 7)، وعليه فطاعة الرسول الملزمة لنا هي في أداء الشعائر {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور 56) ولم يأت يوم انقطع فيه المسلمون من أتباع محمد عن أدائها، لذلك وصلتنا بالتواتر الفعلي سواء الصلاة بما فيها عدد الركعات والأدعية، أم الزكاة بنصابها، أم مناسك الحج، و فيما عدا ذلك فكل الأحاديث التي بين أيدينا اليوم، وبغض النظر عن درجة صحتها، نأخذ منها ما لا يتعارض مع التنزيل الحكيم ومع القيم الإنسانية، أما ما تبقى فإن صح فهو إما يتعلق بتنظيم النبي لمجتمعه وتنطبق عليه قاعدة “تتغير الأحكام بتغير الأزمان”، أو أحاديث تتعلق بحياة النبي الشخصية ولسنا ملزمين بها.
والخطوة الأولى: التي يجب القيام بها هي اعتبار كل كتب الحديث وثائق تاريخية، نشكر من أخرجها، لكن لا نأخذ منها ديناً، وغير ملزمة لأحد
والخطوة الثانية: هي اعتبار تفاعل الصحابة الذين عاصروا الرسول مع الرسالة، فيما عدا الشعائر، هو أكثر تفاعل بدوي بدائي معها
أما الخطوة الثالثة: فهي معرفة أن النبي شرح الشعائر فقط، ولم يشرح القرآن والتشريعات، ولو شرحها لكان رسولاً مرحلياً، ولذلك لا نجد في كتب التفسير أي شرح منه (ص)، وهذا يثبت أن الرسالة عالمية وخاتمة، وكلما ابتعدنا عن رسول الله زماناً، كلما كنا مؤهلين لفهم القرآن والتشريع، عكس قول شيوخنا الأجلاء.
ويجدر بنا التأكيد على أن الرسول الأعظم قام ببناء دولته من مقام النبوة، موجهاً بواسطة الوحي، ولهذا توفي مباشرة بعد انقطاع هذا الوحي عنه، لأنه لو بقي حياً لأصبح رئيس دولة، ولا ينبغي له ذلك، وعملية انتقال السلطة إلى “خليفة رسول الله” هي عملية ارتجالية ظرفية سياسية لا علاقة لها بالدين إطلاقاً، شكلت مرحلة انتقالية من الحقبة النبوية بما تحمله من عدل وإحسان إلى الحقبة الامبراطورية التي رسخها معاوية، بما فيها من ظلم وجور واستبداد بالسلطة مدى الحياة، استمرت إلى يومنا هذا، فبعد القفزة النبوية (وليس الرسولية) رجع التاريخ إلى مجراه الطبيعي، ولم تعد هذه القفزة إلا بعد قرون من وفاة النبي، في أوروبا لا في العالم الإسلامي، بثورة فكرية تزعمها الفلاسفة والمفكرون.
وللأسف فإن حركات الإسلام السياسي كلها، ومنها القاعدة وأخواتها اليوم، لم تلغ سيرورة التاريخ فقط، بل أرادت العودة به إلى عصر النبوة، ولم يقتصر ذلك على اللباس والمصطلحات بل على منطق العيش والعلاقة مع الآخرين، علماً أن التنزيل الحكيم دعى للسلام وعدم البدء بالقتال في كل العصور، والنبي (ص) لم يقاتل إلا دفاعاً، ولم يحاسب مؤمناً على تركه للشعائر، ولم يكفّر أحداً، وعندما دخل مكة بعد فتحها نادى على أعدائه “اذهبوا فأنتم الطلقاء” و “من دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، وهذه هي الأسوة الحسنة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب 21)، وعلى هذه الحركات أن تعلم أن التاريخ لا يمكن أن يعود إلى الوراء، و أية دولة خارج الزمن لن يكتب لها النجاح، سواء رضي عنها الظواهري أم البغدادي أم حسن نصر الله أم غيرهم، وأقول وأنا مطمئن:
إن دولة خليفة المسلمين وأمير المؤمنين والإمام المعصوم انتهت ولن تعود، وأبشّر من يتقاتلون اليوم نصرة لهؤلاء وكل طرف يسمي قتلاه شهداء، سواء ذهبوا للقاء الحور العين أم الحسين، أبشرهم أنهم يقدمون لحماً إنسانياً مجاناً في سبيل أوهام.
واليوم في عصر ثورة المعلومات، يبدو أنه آن الأوان لرفع الغطاء عن الشوائب التي اعترت الإسلام في مسيرته، فانتشار المعلومة أتاح للناس معرفة من هو أبو هريرة ومتى ولد وكم حديث اخترع، وكم كان عمر ابن عباس حين حدث عن الرسول الأعظم، وكما انتشر الكتاب المقدس بعد اختراع الطباعة منتصف القرن الخامس عشر، وأصبح بين أيدي الناس كاسراً احتكار الكنيسة له، فاتحاً المجال لظهور حركات الإصلاح الكنسية بدءاً من مارتن لوثر في القرن السادس عشر، ومؤذناً بنهاية سيطرة الكنيسة ونهضة أوروبا الثقافية والصناعية؛ كذلك نرى أن الإنترنت كسر احتكار “رجال الدين” للنصوص المقدسة ووضعها بين أيدي الناس مرفقة بأدوات بحث متطورة، فلم نعد بحاجة لشيخ ليخرج لنا حديث من عمامته مستغلاً جهل العامة، رغم علمه بأنه ضعيف أو منكر أو غير موجود أصلاً، إضافة لأن توافر هذه النصوص والمراجع أتاح للجميع الاطلاع عليها وعلى المصائب التي تحويها، فمعظم المسلمين يمتلكون مصحفاً واحداً على الأقل في منازلهم، لكنهم لا يستطيعون أن يجمعوا كل كتب الحديث والفقه والتي تعد بالآلاف، بينما اليوم بإمكانهم استعراض هذه النصوص والبحث فيها، فباتوا يسمعون بإرضاع الكبير وشرب بول البعير، ويعرفوا أن لا أصل في التنزيل الحكيم لرجم الزاني أو قتل المرتد، مما يبشر بحركات إصلاحية جادة، لن تحتاج إلى قرن كما حدث في المسيحية لاختلاف أدوات العصر، وستنتهي سيطرة الفقهاء ورجال الدين على عقول العباد، وسنشهد حركة نهضة فكرية آتية لا محالة تضع العقل في المقام الأول.
ونحن كسوريين لا بد لنا من الاتجاه نحو الدولة المدنية، دولة الوطن والمواطن والقانون المدني، كالدول التي يجازف اليوم الناس بحياتهم للوصول إليها، لا إلى إيران دولة الولي الفقيه أو روسيا دولة الديكتاتور الحاكم.

الرابط على موقع السوري الجديد

(1) تعليقات

اترك تعليقاً