نحو إعادة ترتيب أولويات الثقافة العربية الإسلامية

نحو إعادة ترتيب أولويات الثقافة العربية الإسلامية

منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) تتعرض الثقافة العربية الإسلامية إلى هجوم خارجي شرس، لذا كان لابد من وقفة من التراث والنظر إلى ثقافتنا من الداخل نظرة نقدية لإعادة التقييم لأنه من المستحيل أن تكون الثقافة العربية الإسلامية التقليدية في خير وعافية مع هذا المستوى الثقافي المتدني وخاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية وبأمور الدولة والمجتمع، وهل هناك فعلاً صحوة إسلامية، وهل هناك أشياء من أوليات الثقافة العربية الإسلامية يجب إعادة النظر فيها، علماً أنه إلى الآن عدد المنادين بإعادة تأصيل الأصول مازال قليلاً. فما هي هذه الأصول التي تلح على إعادة النظر فيها.

مقدمة وتمهيد:
اعتدت في كتبي وفي محاضراتي وندواتي وفي أحاديثي ومقابلاتي أن ألح بالإشارة إلى مسلَّمتين أنطلق منهما، ولا تقبلان عندي النقاش، ولا تحتاجان إلى إثبات أو برهان، هما:
1 – إنني عربي مسلم، أؤمن بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وهو إيمان التسليم.
2 – إنني مؤمن بأن محمداً رسول الله، وبأن رسالته الوحي الخاتم ما بين دفتي المصحف المكمل لما سبقه من رسالات سماوية موحاة، وبأنها ضرورة لازمة لنقل الإنسان من التشخيص إلى التجريد، إيذاناً ببدء اعتماد العقل في كشف أغوار الكون والوجود وهو إيمان التصديق.
3 – إن آيات التنزيل الحكيم تعتبر دليلاً إيمانياً (إيمان التصديق) ولا يمكن أن تكون دليلاً علمياً وعلى أتباع الرسالة المحمدية البرهان على مصداقيتها من خارجها انطلاقاً من معرفة قوانين الوجود الكوني والوجود الاجتماعي الإنساني. لذا فإن تطور المعارف الإنسانية وتطور التاريخ الإنساني ككل هما صاحبا الحق الوحيد في إظهار مصداقية كلام الله في التنزيل الحكيم وليس من الضروري أن تظهر هذه المصداقية على لسان صحابي أو تابعي أو فقيه.
ولقد وهم البعض في فهم إلحاحي على هذه المسألة، باعتبارها ثانويةً عند قسم منهم، أو لا أهمية لها على الإطلاق عند قسم آخر. وأخطأ البعض الآخر في تحديد سبب إلحاحي، فنسبه قسم منهم إلى غاية هنا، ونسبه قسم آخر منهم إلى مقصد هناك. والأمر برمته لا غاية فيه ولا قصد، ولا محل فيه لوهم محللٍ ولا لخيال مؤول.
المسألة وما فيها أن من يتأمل أسماء الذين يكتبون في الحداثة والمعاصرة، وفي الخطاب الديني، ويبحثون عن نقطة ارتباط بين ذهن اليوم ورسالة الأمس في النص القرآني، يجدهم أصنافاً شتى، فيهم المستغرب والمستشرق، وفيهم أساطين علم الأديان المقارن، وفيهم المتحمس للدعوة إلى الإسلام كما قرأه عند الشافعي والنعمان وقتادة، وفيهم المترف المحايد الذي ينظِّر للإسلام من خارج دائرة الإسلام، وفيهم المستعرب (العلمانوي) الذي ولد بالصدفة من أبوين مسلمين، وراح يضع للنص القرآني إطاراً يرضي به أساتذته وتلامذته في السوربون.
والمسألة وما فيها، أن من يتأمل ما كتبه هؤلاء، ولا يجد ما يعينه على فهم أفضل للنص القرآني، ولا يجد أجوبة على تساؤلات، وحلولاً لإشكالات طالما حار فيها قراء هذا النص على مدى قرون، لسبب بسيط هو أنهم يقرؤونه بعين الطبري حيناً وبعين الطبرسي حيناً وبعين السيوطي أحياناً، دون أن يخطر لأحدهم مرة واحدة أن يقرأه بعين نفسه وعصره.
وكان لابد – لأخرج نفسي من هؤلاء جميعاً – أن أحدد هويتي للقارئ والسامع، وأرسم معها منطلق وهدف ما أكتب وأقول، مشيراً بكل وضوح إلى أن ما أكتبه وما أقوله ليس فقهاً.. وليس دعوة للملحدين إلى الإيمان.. ولا دعوة إلى القطيعة مع التراث.. ولا نبذاً وإنكاراً للسنة النبوية الصحيحة.. وإنما هو تأصيل لفقه جديد، وهو دعوة إلى القراءة بعين العصر وأرضيته العلمية وإشكالاته الاجتماعية والسياسية، في محاولة لفهم ما يريد التنزيل الحكيم أن أفهمه، وما يريد منزِّل هذا التنزيل أن ألتزم به من خلال استعمال أدوات معرفية معاصرة وخاصة في علوم الألسنيات، حيث أن الإنسانية تقدمت بكل أنواع العلوم بما فيها اللسانيات بالإضافة إلى تبني العقل الفلسفي عوضاً عن العقل الشعري، علماً بأن أي قراءة لأي نص وخاصة النص الإلهي هي بالضرورة تحديد لمطلقية النص ضمن الزمان والمكان والأدوات المعرفية، ومع تغير هذه الأدوات يتم الانتقال من فضاء معرفي إلى فضاء معرفي آخر وكانت الخطوة الأولى هي:

إنكار الترادف:
كان القول بالترادف من أوائل ما استوقفني في الخطاب العربي السائد، سواء الديني منه أم الأدبي أم السياسي أم الفكري، وكان إنكار الترادف أول ما قادني إلى التمييز بين الكتاب والقرآن والنبي والرسول والنبوة والرسالة، تماماً مثلما ميز التنزيل الحكيم بين المحكم والمتشابه في آياته المباركات.
يقول الإمام العسكري: “لكل لفظ صورة ترتسم في الذهن، فإذا اختلف اللفظ، تغيرت الصورة، فارتفع الترادف”. وبما أن المعرفة الإنسانية تكتشف الجديد كل يوم ولابد لكل جديد من لفظ يعرف به، لذا فإن للغات كائن قابل للتطور والنمو وخاصة في دلالات الألفاظ. وأكثر ما تنطبق هذه الخاصية على دلالات ألفاظ التنزيل الحكيم نظراً لصلاحيته لمختلف العصور ولمختلف نظم المعرفة، وضمن هذا المنطوق يمكن إعادة صياغة الثقافة العربية الإسلامية برمتها من خلال إعادة النظر في المفاهيم والأدوات.
ويقول الإمام ابن تيميه: الترادف في لسان العرب قليل، أما في القرآن فنادر أو معدوم. فإذا وجدت من يفسر قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة : 2] بأنه “هذا القرآن لا شك فيه” فاعلم أنه من باب التقريب، لأن “ذلك” غير “هذا”، و “الكتاب” غير “القرآن” و “الريب” غير “الشك”.
وقد كان يمكن لمسألة القول بالترادف أو إنكاره أن تبقى مسألة مجمعية أكاديمية بحتة، لولا أن القول بالترادف قاد إلى تجويز رواية الحديث النبوي بالمعنى، وإلى اعتبار القياس في أصول الفقه من مصادر التشريع، وإلى تأليف معاجم تفسر الكذب بالإفك، والإفك بالافتراء، والافتراء بالبهتان، والبهتان بالكذب، فلا يفهم أحد فرق هذا عن ذاك إلا من رحم ربي، وإلى تأطير لقواعد اللغة العربية، كما فعل سيبويه وتابعوه من بعده، انطلاقاً من أن ذهب ومضى وانطلق وبارح وغدا وراح كلها مترادفات بمعنى واحد. وانطلاقاً من الحفاظ على الشكل اللفظي دون الدخول في المحتوى الدلالي وهذه علة العقم في النحو العربي الذي يقود الناس إلى أوهام في فهم التنزيل الحكيم.
من هنا، كان لابد، ونحن ندعو إلى قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم، من أن ننكر الترادف ونبحث عن الفرق مهما كان دقيقاً بين الأب والوالد، والشاهد والشهيد، والعباد والعبيد، والتفسير والتأويل، والحرب والقتال، والشرك والكفر، والذنب والسيئة، والدين والملة، والإسلام والإيمان، علماً بأن البحث عن الدقة في كل شيء هي سمة هذا العصر. فالأولى أن نبحث عنها في قراءة التنزيل الحكيم لأن هذه الدقة بالضرورة ستؤدي إلى تغيير في الأحكام والمفاهيم الفقهية والعقائدية.
والترادف عند القائلين به قسمان: ترادف ألفاظ على معنى واحد وأمثلته واضحة فيما سلف، وترادف معانٍ على لفظ واحد، كالظن الذي يعني الشك واليقين، وكالجون الذي يعني الأسود والأبيض، والبون والبين الذي يعني البعد والقرب.
فقولنا: بان يعني ظهر وقرب، ومنه البيان والتبيين والإبانة والبينة. ويعني اختفى وبعد. يقول تعالى {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 168] [البقرة : 208]. والمبين هنا تحتمل الوجهين معاً، فالشيطان عدو الإنسان الظاهر والخفي، ونحن أميل إلى اعتباره العدو الخفي في مصطلح المبين، تماماً كقول كعب بن زهير في لاميته: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول، فالذي أسقم الشاعر وذهب بعقله هو قرب سعاد منه وبعدها عنه في آن معاً. وهذا النوع من الترادف الذي لا يفسره إلا السياق أخطر على فهم التنزيل الحكيم من سابقه، لأن قارئ التنزيل لا يجيز لنفسه، ولا يجيز التراثيون له، أن يخرج عن المعنى الذي ذهب إليه المفسرون الأوائل ونضرب لذلك مثلاً.
فالترتيل عند جميع المفسرين في قوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزّمِّل : 4]. هو حسن الصوت وإبانة مخارج الحروف والتمهل في القراءة. وعلى هذا المعنى التراثي للترتيل بالذات استند الإمام الماوردي في كتابه “الحاوي” لتجويز قراءة القرآن بالألحان الموسيقية. ومن هنا فنحن نجد اليوم في العالم الإسلامي نقابات لقراء القرآن الكريم، يتقاضى العضو فيها عن قراءته في الأفراح والأتراح أجراً يزيد في الليلة الواحدة عن راتب شهر لموظف في الدولة.
ونحن لن نستشهد بالفيروزأبادي ولا بالجواهري ولا بالزمخشري بحثاً عن المعاني الأخرى للترتيل. سنعرض فقط ما يقوله ” المعجم المدرسي” الذي أصدرته وزارة التربية السورية عام 1985: رتَلَ الثغرُ: انتظمت أسنانه وتناسقت. والرَّتل: حسن التناسق والانتظام، والجماعة من الجند أو الخيل أو السيارات يتبع بعضها بعضاً.
فإذا عدنا إلى سورة المزمل، وجدناه تعالى في الآيات الخمس الأولى يقوله لنبيه الكريم المتلفف بالأغطية أن يقوم الليل ويرتل القرآن ويتأهب لما سيلقى عليه من وحي وذكر ثقيل. ولا يعقل مطلقاً – إذا أخذنا بالمعنى التراثي للترتيل – أن يكون التغني بالقرآن على الألحان بصوت حسن باباً من أبواب التأهب لتلقي الرسالة السماوية بمسؤولياتها الجسام.
والأخطر من ذلك كله أن جميع ترجمات القرآن إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية اعتمدت هذا المعنى التراثي تحديداً. أنظر مثلاً: ترجمة معاني القرآن إلى الإنكليزية، مجمع الملك فهد بن عبد العزيز، المدينة المنورة، 1417 هـ. وانظر أيضاً: ترجمة القرآن، ن. ج. داوود، بنغوان، بريطانيا، الطبعة الأولى 1956. وانظر أيضاً: ترجمة معاني القرآن الكريم، عبد الله يوسف علي، مقدمة أبو الأعلى المودودي، الطبعة الأولى 1934، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت / لبنان.
وانطلاقاً من توخي الدقة في دلالات الألفاظ نأتي على موضوعنا مباشرة وهو:

الإسلام والإيمان:
تعتبر الأدبيات الإسلامية التراثية – ومعظم المعاصرة – أن المسلمين هم أتباع محمد (ص). فالبخاري ومسلم في صحيحهما يعتبران الإيمان إسلاماً والإسلام إيماناً، فيفتتحان باب الإيمان بحديث النبي (ص): بني الإسلام على خمس. ونخلط نحن الآن باسم الترادف بين المسلمين والمؤمنين وبين الكافرين والمشركين والمجرمين. لكننا رأينا التنزيل الحكيم يفرق بكل دقة تليق بعظمة مؤلفه وصانعه بين هذه المصطلحات جميعاً. ونقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ …} [آل عمران : 19]. وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ …} [آل عمران : 85]. ونتساءل: ما هذا الدين الذي لا يقبل الله من الخلق غيره وما تعريفه ومواصفاته.
1 – الإسلام:
نقرأ قوله تعالى:

  • {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران : 83]
  • {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب : 35].
  • {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[يونس : 90].
  • {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل : 91].
  • {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات : 35-36].
  • {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} [يونس : 84].
  • {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل : 44].
  • {.. قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران : 52].
  • {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف : 101].
  • {قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة : 133].

ونلاحظ في الآيات أعلاه أمرين: الأول أن نوحاً وإبراهيم ويعقوب وإسماعيل وإسحق ويوسف وموسى وعيسى وسليمان كانوا مسلمين جميعاً. والثاني أن الإسلام يرتبط بالله وحده فقط.
ونفهم أن الإسلام يقوم على مسلّمة الإيمان بالله ووحدانيته وباليوم الآخر. والمسلمة هي الأمر الذي لا يمكن البرهان عليه ولا يمكن دحضه علمياً. ففي مسلمة الإيمان بالله واليوم الآخر يتساوى الراسخون بالعلم وعامة الناس. ثم ننطلق من هذا الفهم لنفهم أمرين آخرين:
1- إن الإسلام دين كوني، لا يقتصر على أهل الأرض فقط، بدليل قوله تعالى {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران : 83]. وهذا يعني أنه إذا كانت هناك مخلوقات عاقلة في مجرة من مجرات هذا الكون، فالتنزيل الحكيم يقول إنها سمعت بالله الواحد وأسلمت له طوعاً من باب الألوهية وكرهاً من باب الربوبية، وأن الدين عندها هو الإسلام بمفهوم وجود الله وواحديته وهو أمر في غاية المنطقية، لأن الله سبحانه وتعالى ربنا ورب السماوات والأرض ورب كل شيء في هذه السموات والأرض وما بينهما.
2- إن نوحاً وإبراهيم ويوسف ويعقوب وسليمان وموسى وعيسى كانوا مسلمين، ومع ذلك فهم لم يعاصروا محمداً (ص) ولم يشهدوا برسالته ولم يصوموا رمضان، مما يجعلنا نجزم بأن الإسلام والمسلمين لا علاقة لهم بالرسالة المحمدية ولا بغيره من الرسل والأنبياء السابقين، بل ذلك مرتبط حصراً بالله ووحدانيته. فكل من آمن بالله واليوم الآخر (وهي مسلمة) كان مسلماً، بغض النظر عن الرسول الذي يتبعه، وعن التسمية التي نطلقها عليه. وهذا واضح في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة : 62].
من هذه الآيات وغيرها كثير، نفهم أن الإسلام يقوم على مسلمة بوجود الله، وباليوم الآخر. فإذا اقترنت هذه المسلمة بالإحسان والعمل الصالح، كان صاحبه مسلماً، سواء أكان من أتباع محمد (ص) {الَّذِينَ آمَنُواْ} أو من أتباع موسى {وَالَّذِينَ هَادُواْ} أو من أنصار عيسى {وَالنَّصَارَى} أو من أي ملة أخرى غير هذه الملل الثلاث مهما كان اسمهم {وَالصَّابِئِينَ}.
2 – أركان الإسلام:
بعد أن تعرفنا على الإسلام من واقع آيات التنزيل الحكيم، وفهمنا ما هو هذا الدين الذي لا يقبل الله من عباده غيره، وعرفنا أنه يقوم على ثلاث دعائم هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، ووجدنا ذلك كله واضحاً في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت : 33]. ننتقل لنتساءل: ما هو هذا العمل الصالح الذي يشكل قاسماً مشتركاً بين جميع الأديان السماوية، والذي يستحق فاعله – أياً كان معتقده – اسم المسلم إن اقترن بالإيمان بالله واليوم الآخر؟ وما هي التعاليم العامة الشاملة التي جاءت في كل الكتب والرسالات، من نوح إلى محمد عليهما السلام، ناظمة ومبينة لهذا العمل الصالح؟ ونجد الجواب تفصيلاً في قوله تعالى {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [الشورى : 13].
ونفهم أن هذه التعاليم التي بدأت بنوح هي وصايا {مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} وأن هذه الوصايا تنامت وتراكمت منتقلة من إبراهيم إلى موسى وعيسى، وأنها لابد موجودة في الرسالة المحمدية الخاتم لقوله تعالى {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}. وننظر في التنزيل الموحى، فنجد هذه الوصايا في سورة الأنعام بقوله تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ

  1. أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً
  2. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
  3. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ
  4. وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
  5. وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام : 151]
  6. {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
  7. وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا
  8. وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى
  9. وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام : 152]
  10. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام : 153]

ونفهم أن هذه هي الوصايا العشر التي نزلت فرقاناً على موسى، وأنها الصراط المستقيم الذي ندعو الله في كل صلاة أن يهدينا إليه، والذين يقعد الشيطان العدو الظاهر والمخفي (المبين) عنده ليحول الناس عنه، وأنها الأركان الرئيسية للإسلام، والقاسم المشترك للناس جميعاً، وأنها الكلمة السواء التي دعا الرسل أقوامهم إليها وأنها خضعت للتراكم بدءاً من نوح وانتهاء بمحمد (ص).
فإذا نظرنا في هذه التعاليم والوصايا، وجدنا أنها تمثل فعلاً المثل العليا الإنسانية، والقانون الأخلاقي الذي لا يستقيم مجتمع بدونه، وفهمنا أن الإسلام دين عام يشمل كل أهل الأرض، يقوم على الإيمان بالله واليوم الآخر أولاً، وبان لنا مراده تعالى في قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران : 85] إذ كيف يقبل الله ديناً هو غير موجود فيه، ويقوم على المثل العليا والقيم الإنسانية ثانياً، هذه هي القيم التي يمكن الإضافة إليها تحت باب الحكمة والتي لا تتوقف إلى يوم القيامة ولكن لا يمكن إلغاؤها أو استبدالها، وتدخل في السلوك الإنساني الاجتماعي والأسري والاقتصادي، ومن خلالها يظهر العمل الصالح، وبدونها لا يوجد عمل صالح أو مجتمع صالح.
ونفهم أخيراً أن الإسلام ليس دين الرسالة المحمدية فقط، بل دين جميع الرسالات والرسل والأنبياء، وأن المسلمين ليسوا أتباع محمد (ص) حصراً، كما هو سائد اليوم، بل هم كل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً والتزم بصراط المثل العليا المستقيم، هذه المثل والقيم التي تدخل ضمن فطرة الإنسان ولا تحتاج إلى برهان عليها وتكمن قوتها أنها تحمل بيناتها في ذاتها وبنفس الوقت ليست قانوناً موضوعياً يفرض نفسه منفصلاً عن الوجود الإنساني الاجتماعي الواعي.. ومن هنا نقول أن الإسلام دين الفطرة الإنسانية طبقاً لدلالة قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم : 30]. وهذا الدين الحنيف الذي فطر الله الناس عليه لا علاقة له بصوم رمضان أو بإقامة الصلاة حيث أن الإنسان يصوم رمضان ويقيم الصلاة بالتكليف لا بالفطرة.
ثمة صفتان لهذه التعاليم والقيم والمثل العليا لابد من إيجازهما قبل ختم الحديث عن الإسلام وأركانه. الأولى أنها كل واحد متماسك لا يقبل التجزئة والتبعيض، وصراط واحد لا يقبل التقسيم، وهذا واضح في قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}[الأنعام : 153]. والثانية أنها لا تخضع مفردة أو مجموعة للوسع والاستطاعة. فليس هناك إيمان بالله على قدر الوسع، ولا امتناع عن قتل النفس ضمن الاستطاعة. فالقضية في أركان الإسلام والوصايا أشبه ما تكون بما يقال في الرياضيات: إما الصفر أو الواحد ولا توسط بينهما.
نقول هذا ونحن نقرأ قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران : 102]. إي أنه في الإسلام وأركانه المطلوب أن تتقي الله حق تقاته. فكل من يظن أن هذه الآية منسوخة فهو واهم.
3 – الإيمان:
وننتقل إلى مصطلح الإيمان والمؤمنون، ونبدأ بآياته تعالى:

  • {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ …} [الأحزاب : 35].
  • {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات : 14].
  • {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات : 17]
  • {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد : 2]
  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ …} [النساء : 136]

نلاحظ من الآيات أعلاه، أن الإسلام متقدم على الإيمان وسابق له، وأنه لا إيمان بلا إسلام. ولكن هل الإيمان نوع واحد، أم أن هناك نوعين من الإيمان، وهل التقوى نوع واحد، أم أن ثمة أكثر من نوع.
قلنا في تعريف الإسلام إنه الإيمان والتسليم بالله (وجوداً ووحدانية) وباليوم الآخر وتنفيذ أوامره في العمل الصالح، وهذا هو الإيمان الأول الذي لا يقبل أي إيمان آخر بدونه. ونجد هذا واضحاً في الآية 2 من سورة محمد:

  • {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (الإيمان الأول بالله واليوم الآخر والعمل الصالح.)
  • {وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} (الإيمان الثاني بمحمد ورسالته.)

كما نجده واضحاً في الآية 136 من سورة النساء، فالله يطلب من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر أن يؤمنوا بالرسول وبكتاب رسالته، وبالكتاب الذي أنزل قبله.
الإيمان الأول – بالله واليوم الآخر – الإسلام – مسلمين.
الإيمان الثاني – بالرسول- الإيمان – مؤمنين.
وبما أن كل إيمان يقابله كفر، فقد جاءت الآية بعدها مباشرة لتقول {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} [النساء : 137].
فإذا فتحنا سورة الحديد الآية 28 نقرأ فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الحديد : 28]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} – الإيمان الأول/ الإسلام – الكفل الأول من الرحمة.
{اتَّقُوا اللَّهَ} – التقوى الأولى / الإسلام – حق تقاته.
{وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} – الإيمان الثاني / الإيمان – الكفل الثاني من الرحمة.
أما في سورة القصص فنقرأ {وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص : 53-54]
كانوا مسلمين مؤمنين بالله واليوم الآخر (الأجر في المرة الأولى).
آمنوا بالتنزيل الحكيم (الأجر في المرة الثانية).
وكما رأينا من استعراض مصطلح الإسلام والمسلمين في التنزيل الحكيم أن علاقته دائماً بالله تعالى، نرى من استعراض مصطلح الإيمان والمؤمنين أن له علاقة بالرسل، فكل من آمن برسول كان من أتباعه المؤمنين به. ويتضح ذلك في قوله تعالى:

  • {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا …}[هود : 58]
  • {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا …} [هود : 94]

أما من آمن بموسى فقد سماهم التنزيل الحكيم الذين هادوا، ومن آمن بعيسى سماهم النصارى إما لأنهم نصروه وكانوا من أنصاره أو لأنهم من بلدة الناصرة، ومن آمن بمحمد سماهم المؤمنين. وذلك واضح في قوله تعالى:

  • {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 64].
  • {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ …} [الأحزاب : 22]
  • {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا …} [الحجرات : 15]

فإذا وقفنا أمام قوله تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ …} [البقرة : 285].
نفهم أن هناك إيماناً بالله وملائكته يضاف إلى إيمان ثان بالرسل والكتب، وبخاتم أولئك الرسل وبآخر هذه الكتب.
4 – أركان الإيمان:
قلنا في تعريف أركان الإسلام، كما استقيناه من آيات التنزيل الحكيم، إنها الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأنها مجموعة في الصراط المستقيم المتجسد في الوصايا والمثل العليا والقيم الأخلاقية، ونتابع هنا تعريف أركان الإيمان بالرسل والكتب والرسالات.
يقول تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة : 93]. ونفهم أن {الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ}[المائدة : 93] هم المسلمون الذين آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، وأن التقوى الأولى في الآية هي تقوى الإسلام {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران : 102] التي تتجلى بالالتزام بالأعمال الصالحة، ونفهم أن الذين آمنوا في {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ}[المائدة : 93] هم المؤمنون الذين آمنوا بالرسول وبالكتاب المنزل عليه، وأن التقوى الثانية في الآية هي تقوى الإيمان {مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن : 16] التي تتجلى بالالتزام بتكاليف الإيمان وأداء شعائره من صلاة وزكاة وصوم وحج. ثم نفهم أخيراً أن هناك تقوى ثالثة في قوله {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} [المائدة : 93] هي تقوى الإحسان، الحاصلة من جمع تقوى الإيمان مع تقوى الإسلام. ثم يختم تعالى هذا كله مشيراً إلى أن الظفر بمحبة الله مرتبط بتقوى الإحسان. ومن هنا نفهم الفرق الأساسي في أن الإسلام فطرة (مثل عليا) لكل أهل الأرض وأن الإيمان تكليف ضد الفطرة {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة : 286] وهو الذي يميز أتباع الرسالة المحمدية عن غيرهم، فأتباع محمد (ص) لا يُميزوا ببر الوالدين ولا بالوفاء بالكيل والميزان ولا بالامتناع عن شهادة الزور. فهي عامة شاملة، بل يميزون بالصلاة الشعائرية والصوم. لذا حصل هذا الخلط من أن أركان الإيمان أصبحت أركان الإسلام وهو من باب الأنانية ووقف الجنة على أتباع محمد (ص).
لقد قلت أنني لم آت بجديد في لتمييز بين الإسلام والإيمان بعد أن ميز الذكر الحكيم بينهما كما رأينا. وكما ميز بينهما العديد من الأئمة منذ القرون الهجرية الأولى. وأن دوري اقتصر على إعادة ترتيب الأولويات التي يمكن في الختام أن نصوغها على الشكل التالي:

  • الأولوية الأولى:

وهي الإسلام والإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (المثل العليا) التي ننطلق منها ونرتكز على بنودها ووصاياها في التعامل مع كل أهل الأرض، لأن معظمهم مسلمون، ولأن هذه المثل والقيم مقبولة عندهم لا يرفضها أحد وعلينا ترسيخها في الدولة والمجتمع، وتوضيح أن الإيمان بالرسل وإقامة شعائر الإيمان من صلاة وزكاة وصوم وحج، لا يكفي بل ولا يكون بدون هذه المثل والقيم أو بعيداً عنها. وعلينا أيضاً تعميق فهم الناس لمصطلح الإسلام والمسلمين، وتوضيح أنهم ليسوا أتباع النبي العربي محمد (ص) حصراً، بل هم جميع من أشار إليهم تعالى بقوله {لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة : 111-112]. وأخيراً علينا أن نؤكد في كل أدبياتنا ومجالسنا على أن العمل الصالح الحسن ركن من أركان الإسلام، وأن كل أهل الأرض من المسلمين مطالبون به، وأنه وحده معيار الجرح والتعديل وميزان التقييم بين الناس، وتوضيح أن أبواب العمل الصالح متعددة ومفتوحة على مصراعيها ليوم القيامة، وأن الإبداع والتفنن فيها مطلوب ومأجور، لأن كل ما ينفع الخلق يدخل تحت عنوانها على مدى العصور والدهور.

  • الأولوية الثانية:

وهي أن شعائر الإيمان (الصلاة والزكاة والصوم والحج) خاصة بالمؤمنين من أتباع محمد (ص) ولا معنى لها بعيداً عن الإسلام لله والعمل الصالح، وأنها شعائر خاصة لا تحمل الطابع العالمي ولا الطابع السياسي، وأنها تكاليف شعائرية لا إبداع فيها ولا تفنن، بل لا يجوز أن يكون فيها، لأن الإبداع فيها بدعة، سواء بالزيادة أو بالنقص، فالإبداع في الإسلام حسن محمود، والابتداع في الإيمان قبيح مذموم.
لقد اختلطت عندنا الأولويات، فأخذ ثانويها مكان هامها، واحتل ثانيها محل أولها. وتقدم فيها ما هو من الإيمان على ما هو من الإسلام، حتى صار إفطار يوم في رمضان بالفكر السائد الشائع أخطر من الغش في المواصفات، والسهو عن صلاة بوقتها أكبر من إخسار الكيل والميزان.
ولعل تتبع أسباب هذا الخلط في الأولويات، وتقسيمها إلى أبوابها، من تاريخية ومذهبية وسلطوية، يفيد كثيراً في عملية إعادة ترتيب الأولويات ووضع النقاط على الحروف، لولا أن لهذا مجالاً آخر، يقع تحت عنوان آخر، قد لا يتسع له مقالنا هذا.
وأخيراً نسأل السؤال التالي: إن ما يقال عنه الآن صحوة إسلامية.. هل هو فعلاً صحوة إسلامية ؟؟
والحمد لله رب العالمين …. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

(9) تعليقات
  1. قرات في هذا المقال أن من آمن بالله واليوم الاخر  عمل بالوصايا العشر  وأول هذه الوصايا العشر هي عدم الشرك بالله فكيف تقول ان معظم من على الارض مسلمين فما بالك بالنصارى  الذين لا اعرف احدا منهم لا يشرك عيسى مع الله الواحد الاحد

  2. موضوع جيد جدا دكتور شحرور لكن المصيبة الكبرى أنّ أغلب المسلمون لا يقرؤون إنما يؤخذون تعاليم جاهزة من شيوخ المساجد الذين أفسدوا العالم بإشعالهم نار الفتنة الكبرى وبالدعوة للقتل يجب دعوة الناس للقرأة والتفكير وإلاّ سيبقى هذا الفكر حكرا للقراء ومتفكرين القلائل في هذا الزمن اللعين

  3. {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون}هذه الآية فيها تناقض كبير،إذا أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً،فكيف يقول أفغير دين الله يبغون؟ وفي نفس الوقت يقر أن هناك دين آخر! (أفغير دين الله يبغون) ألم يسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً؟ هذا كلام بشري

  4. الآية توجه السؤال للعقلاء وليس لغير العاقلين، والناس تؤمن بدين الله طوعا أو تكفر به طوعا. هؤلاء هم من أسلم ممن في الأرض والسموات طوعا.

  5. (وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً) أنت إذن من كتب هذه الآية،لأن الله لم يقل (وله أسلم من في السموات والأرض ألعقلاء طوعاً والغيرعقلاء كرهاً ) جوابك يدافع عن الآية أكثر ما هو تحليل عقلاني للآية. هذا ما أسميه أنا ؛ التحليل العاطفي للنص القرآني كما يفعل زغلول النجار و الزنداني وغيرهم من أنصار ألخرافة. يجب أن تعلم أني لست ملحد بل أنا مأمن بالله الذي خلق الكون و لكن لم يبعث لا أنبياء و لا كتب لأنه بكل بساطة كل الأديان و كتبها المقدسة مجرد تصور إنساني لما يمكن أن يقوله الله للبشر.المأمن الحقيقي بالله لايمكن أن يصدق أن نصوص مثل ما جاء في التورات و الإنجيل والقرآن من عنصرية وكراهية للآخر و قهر للمرأة و عبودية للبشر و طقوس بدائية أن يكون كلام الحي الذي لا يموت.

  6. أخي العزيز، الموضوع ليس عاطفة ولعب على الألفاظ، هناك سؤال في الأية السؤال لمن موجه أليس للناس؟ هل هو موجه للأرض والسماوات والحيوانات يعني؟ هو موجه للناس. هل وجدت في كل المصحف فمن شاء فليؤمن ومن لم يشأ فليؤمن؟؟؟ إن وجدت هذا إذن الناس يمكن أن تؤمن كرها.

  7. {أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون}
    بدايه تنقسم الايه الى قسمين الاول هو {أفغير دين الله يبغون} وهو عباره عن تساؤل موجه الى العقلاء او الى غيرهم بغض النظر، اما القسم الثاني وهو {وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون} فهو عبارة عن جواب للسؤال وفي هذا الجواب يقول سبحانه وتعالى ان جميع مخلوقاته سلمت له ولم يقل أسلمت له بمعنى أعتنقت الاسلام فهو يتحدث عن التسليم من باب الاقرار بالربوبيه الذي لا مجال لاي مخلوق خلقه الله ان كان ماده جامده او كائن حي ان يخرج عنه وليس التسليم من باب الاقرار بالالوهيه الذي يستطيع البشر فقط ان يقبلوا بألوهيه الله سبحانه او يرفضوها كونهم مخيرين بذلك وليسوا مجبرين عليها حيث يستطيع البشر ان يخترعوا اي دين يريدون ويعبدوا اي ألاه يشائون. فالتساؤل الذي يطرحه سبحانه وتعالى في هذة الايه هو وبكل بساطه “أليس من الاولى ان يتخذ البشر الله سبحانه ألاها ويتبعوا دينه كونه رب السموات والارض بدلا من أختراع ألاه وأنشاء دين من صنع البشر”

  8. السلام عليكم حضرة الدكتور محمد شحرور…
    أدعو الله الكريم أن يسهل لك الطريق لتبين لنا أكثر ديننا الحنيف، و خاصة في هذا الزمان الحساس جدا اللذي كثرت فيه الفتن و ضعف فيه الشباب أمام هذه الفتن، و الأكثر غرابة في هذا الزمان أن الناس غالبيتهم أصبحوا يصدقون كلام إمام في مسجد توقف عن الدراسة في المدرسة الإبتدائية و اعتكف في زاوية ما فحفض القرآن الكريم دون فهمه و بعض الأحاذيث، و لا يصدقون دكتورا خريج أحد الجامعات أو المعاهد الكبرى، كرس حياته في البحث الدراسة لينفع غيره.
    اللهم أنر لنا درب الصواب و أعن أساتذتنا الكرام في أهدافهم لنشر الحق و إزالة الستار عن الغموض.

اترك تعليقاً